فَصْـــل في الذين بنوا أصل دينهم على طريقة الأعراض والاستدلال بها على حدوث الأجسام
 
/ فَصْـــل
وهؤلاء الذين بنوا أصل دينهم على طريقة الأعراض والاستدلال بها على حدوث الأجسام اضطربوا كثيرًا،كما قد بسط في مواضع‏.‏ولابد لكل منهم مع مخالفته للشرع المنزل من السماء إلى أن يخالف ـ أيضًا ـ صريح العقل ويكابر، فيكون ممن لا يسمع ولا يعقل‏.‏
فإن القول له لوازم، فإذا كان باطلًا فقد يستلزم أمورًا باطلة ظاهرة البطلان‏.‏ وصاحبه يريد إثبات تلك اللوازم، فيظهر مخالفته للحس والعقل‏.‏
كالذين أثبتوا الجواهر المنفردة وقالوا‏:‏ إن الحركات في نفسها لا تنقسم إلى سريع وبطىء، إذ كانت الحركة عندهم منقسمة كانقسام المتحرك، وكذلك الزمان وأجزاء الزمان‏.‏ والحركة والمتحرك عندهم واحد لا ينقسم فإذا كان المتحركان سواء وحركة أحدهما أسرع قالوا‏:‏ إنما ذاك لتخلل السكنات‏.‏ وادعوا أن الرحا والدولاب وكل مستدير إذا تحرك فإن زمان حركة المحيط والطوق الصغير واحد مع كثرة أجزاء المحيط، فيجب أن تكون حركتها أكثر، فيكون زمانها أكثر، وليس هو بأكثر، / فادَّعوا أنها تنفك ثم تتصل‏.‏ وهذه مكابرة من جنس ‏(‏طفرة النَّظَّام‏)‏ ‏[‏هو أبو إسحاق إبراهيم بن سيار بن هانئ البصرى النظام، مــن أئمة المعتــزلة قــال الجاحــظ‏:‏ الأوائل يقولون‏:‏ في كل سنة رجل لا نظير له، فإن صح ذلك فأبو إسحاق من هؤلاء الضلال وصدق فيما قال ـ رأس الفرقة النظامية ـ قد ألفت كتب في الرد على ضلاله وكفــره، وفي لســان الميزان‏:‏ أنه متهم بالزندقــة‏]‏‏.‏
وكذلك الذين قالوا‏:‏ بأن العرض لا يبقى زمانين خالفوا الحس وما يعلمه العقلاء بضرورة عقولهم‏.‏ فإن كل أحد يعلم أن لون جسده الذي كان لحظة هو هذا اللون‏.‏ وكذلك لون السماء، والجبال، والخشب، والورق، وغير ذلك‏.‏
ومما ألجأهم إلى هـذا، ظنهم أنهما لو كانـا باقيين لم يمكـن إعـدامهما، فـإنهم حـاروا في إفناء الله الأشـياء إذا أراد أن يفنيها، كما حـاروا في إحداثها‏.‏ وحيرتهم في الإفـناء أظهـر‏.‏ هـذا يقول‏:‏ يخلق فناء لا في محل، فيكون ضدًا لها، فتفنى بضدها‏.‏ وهذا يقول‏:‏ يقطع عنها الأعراض مطلقًا، أو البقاء الذي لا تبقى إلا به، فيكون فناؤها لفوات شرطها‏.‏
ومن أسباب ذلك ظنهم، أو ظن من ظن منهم، أن الحوادث لا تحتاج إلى الله إلا حال إحداثها، لا حال بقائها، وقد قالوا‏:‏ إنه قادر على إفنائها‏.‏ فتكلفوا هذه الأقوال الباطلة‏.‏
وهؤلاء لا يحتجون على بقاء الرب بافتقار العالم إليه، بل بأنه قديم، وما وجب قدمه امتنع عدمه‏.‏ وإلا فالباقى حال بقائه لا يحتاج إلى الرب عندهم‏.‏
/ وهؤلاء شر من الذين سألوا موسى‏:‏ هل ينام ربك‏؟‏ فضرب الله لهم المثل بالقارورتين لما أرق موسى ليالى، ثم أمره بإمساك القارورتين فلما أمسكهما غلبه النوم فتكسرتا‏.‏ فبين الله له لو أخذته سنة أو نوم لتدكدك العالم‏.‏
وعلى رأى هؤلاء‏:‏ لو أخذته سنة أو نوم لم يعدم الباقى‏.‏ لكن منهم من يقول‏:‏ هو محتاج إلى إحداث الأعراض متوالية؛ لأن العرض عنده لا يبقى زمانين‏.‏ فمن هذا الوجه يقول‏:‏ إذ لو أخذته سنة أو نوم لم تحدث الأعراض التي تبقى بها الأجسام، لا لأن الأجسام في نفسها مفتقرة إليه في حال بقائها عنده‏.‏
وكذلك يقولون‏:‏ إن الإرادة لا تتعلق بالقديم، ولا بالباقى‏.‏ وكذلك القدرة عندهم لا تتعلق بالباقى، ولا العجز يصح أن يكون عجزًا عن الباقى والقديم عندهم؛ لأن العجز عندهم إنما يكون عجزًا عما تصح القدرة عليه‏.‏
وهؤلاء يقولون‏:‏ علة الافتقار إلى الخالق مجرد الحدوث‏.‏ وآخرون من المتفلسفة يقولون‏:‏ هو مجرد الإمكان، ويدَّعون أن القديم الأزلي الذي لم يزل ولا يزال هو مفتقر إلى الصانع‏.‏ فهذا يدعى أن الباقى المحدث لا يفتقر، وهذا يدعى أن الباقى القديم يفقتر وكلا القولين / فاسد، كما قد بسط في مواضع‏.‏
والحـق أن كل ما سوى الله حادث، وهو مفتقر إليه دائمًا‏.‏ وهو يبقيه ويعدمه،كما ينشئه ويحدثـه، كما يحدث الحوادث من التراب وغيره ثم يفنيها ويحيلها إلى التراب وغيره‏.‏
وهـؤلاء ادعى كثير منهم أن كـل مـا سوى الله يعدم ثم يعاد، وبعضهم قال‏:‏ هذا ممكن، لكنه موقوف على الخبر، والخبر لم يتعرض لذلك بنفي ولا إثبات‏.‏ وهذا هو المعاد عندهم‏.‏
وهذا لم يـأت بـه كتاب ولا سنة، ولا دل عليه عقل‏.‏ بل الكتاب والسنة يبين أن الله يحيل العالم من حال إلى حـال، كما يشـق السماء، ويجعـل الجبال كالعهـن، ويكـور الشمس، إلى غير ذلك مما أخـبر الله في كتابـه ـ لم يخـبر أن جميع الأشياء تعدم ثم تعاد‏.‏
ثم منهم من يقول‏:‏ إنها تعدم بعد ذلك لامتناع وجود حوادث لا آخر لها، كما تقوله الجهمية‏.‏ وهذا مما أنكره عليهم السلف والأئمة، كما قد ذكر في غير هذا الموضع‏.‏
وهؤلاء إنما قالوا هذا طردًا لقولهم بامتناع دوام جنس الحوادث، وقالوا‏:‏ ما وجب أن يكون له ابتداء وجب أن يكون له انتهاء، كما قد بسط هذا وبين فساد هذا الأصل‏.‏