فَصْـــل في كون الرسول صلى الله عليه وسلم هدى ورحمة للعالمين‏
 
فَصْـــل
الرسول صلى الله عليه وسلم بعثه الله ـ تعالى ـ هدى ورحمة للعالمين‏.‏ فإنه كما أرسله بالعلم والهدى، والبراهين العقلية والسمعية، فإنه أرسله بالإحسان إلى الناس، والرحمة لهم بلا عوض، وبالصبر على أذاهم / واحتماله‏.‏ فبعثه بالعلم، والكرم، والحلم، عليم هاد، كريم محسن، حليم صفوح‏.‏
قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52، 53‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏‏.‏ ونظائره كثيرة‏.‏
وقال‏:‏ ‏{‏قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 57‏]‏‏.‏وقال‏:‏‏{‏قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏47‏]‏‏.‏ وقال‏:‏‏{‏قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 90‏]‏‏.‏ فهو يعلم ويهدى ويصلح القلوب ويدلها على صلاحها في الدنيا والآخرة بلا عوض‏.‏
وهذا نعت الرسل كلهم، كل يقول‏:‏ ‏{‏وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 109‏]‏‏.‏ ولهذا قال أصحاب يس‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 20، 21‏]‏‏.‏
وهذه سبيل من اتبعه، كما قال‏:‏ ‏{‏قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 108‏]‏‏.‏
/ وأما المخالفون لهم، فقد قال عن المنتسبين إليهم مع بدعة‏:‏ ‏{‏إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 34‏]‏‏.‏ فهؤلاء أخذوا أموالهم ومنعوهم سبيل الله، ضد الرسل فكيف بمن هو شر من هؤلاء من علماء المشركين، والسحرة، والكهان‏؟‏ فهم أوكل لأموالهم بالباطل، وأصد عن سبيل الله من الأحبار والرهبان‏.‏
وهو ـ سبحانه ـ قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ‏}‏، فليس كلهم كذلك، بل قال في موضع آخر‏:‏ ‏{‏وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 82‏]‏‏.‏
وقد قال في وصف الرسول‏:‏ ‏{‏وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وفيها قراءتان‏.‏ فمن قرأ‏:‏ ‏[‏بظنين‏]‏، أي‏:‏ ما هو بمتهم على الغيب، بل هو صادق أمين فيما يخبر به‏.‏ ومن قرأ‏:‏ ‏{‏بِضَنِينٍ‏}‏، أى‏:‏ ما هو ببخيل، لا يبذله إلا بعوض، كالذين يطلبون العوض على ما ىعلمونه‏.‏
فوصفه بأنه يقول الحق فلا يكذب، ولا يكتم‏.‏ وقد وصف أهل الكتاب بأنهم يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا، وأنهم يشترون به ثمنًا قليلًا‏.‏
/ ومع هذا وهذا قد أمده بالصبر على أذاهم، وجعله كذلك يعطيهم ما هم محتاجون إليه غاية الحاجة ـ بلا عوض، وهم يكرهونه ويؤذونه عليه‏.‏
وهـذا أعظم مـن الذي يبذل الدواء النافـع للمرضي، ويسقيهم إيـاه بـلا عـوض ـ وهـم يؤذونه ـ كما يصنع الأب الشفيق‏.‏ وهو أب المؤمنين‏.‏
وكـذلك نعت أمـته بقـوله‏:‏ ‏{‏كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏، قـال أبو هريرة‏:‏ كنتم خير الناس للناس؛ تأتون بهم في السلاسل حتى تدخلوهم الجنة فيجاهدون، يبذلون أنفسهم وأموالهم لمنفعة الخلق وصلاحهم، وهم يكرهون ذلك لجهلهم، كما قال أحمد في خطبته‏:‏
الحمـد لله الذي جعـل ـ في كل زمان فَتْرَة من الرسل ـ بقايا من أهل العلم يدعون مـن ضـل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون ـ بكتاب الله ـ الموتى، ويُبَصِّرون ـ بنـور الله ـ أهـل العمى‏.‏ فكم مـن قتيـل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قـد هـدوه‏!‏ فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم‏!‏‏.‏ إلى آخر كلامه‏.‏
فهـذا هـذا، والحمد لله حمـدًا كثـيرًا طيبًا مباركًا فيـه‏.‏ وهـو ـ سبحانـه ـ يجـزي الناس بأعمالهم، والله في عون العبـد مـا كـان العبـد في عـون أخيه / فهو ينعم على الرسول بإنعامـه جزاء على إحسانهم، والجميـع منـه‏.‏ فهـو الرحمن الرحيم، الجواد الكريم، الحنان المنان، له النعمـة وله الفضل، وله الثناء الحسن، وله الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه‏.‏
وهـو ـ سبحانـه ـ يحب معالى الأخـلاق، ويكـره سفسافها‏.‏ وهـو يحب البصر النافـذ عنـد ورود الشبهات، ويحب العقـل الكامل عند حلول الشهوات‏.‏ وقد قيل ـ أيضًا ـ‏:‏ وقـد يحب الشجاعـة ولو على قتـل الحيات، ويحب السماحـة ولو بكـف مـن تمـرات‏.‏
والقرآن أخبر أنه يحب المحسنين، ويحب الصابرين‏.‏ وهذا هو الكرم والشجاعة‏.‏