فصـل في نسيان الإنسان
 
فصـل
وهذا النسيان ـ نسيان الإنسان لنفسه ولما في نفسه ـ حصل بنسيانه لربه ولما أنزله‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 19‏]‏، وقال تعالى في حق المنافقين‏:‏ ‏{‏نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 67‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 126‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ‏}‏، يقتضي أن نسيان الله كان سببًا لنسيانهم أنفسهم، وأنهم لما نسوا الله عاقبهم بأن أنساهم أنفسهم‏.‏
/ ونسيانهم أنفسهم يتضمن إعراضهم وغفلتهم وعدم معرفتهم بما كانوا عارفين به قبل ذلك من حال أنفسهم، كما أنه يقتضي تركهم لمصالح أنفسهم‏.‏ فهو يقتضي أنهم لا يذكرون أنفسهم ذكرًا ينفعها ويصلحها، وأنهم لو ذكروا الله لذكروا أنفسهم‏.‏
وهذا عكس ما يقال‏:‏ ‏[‏من عرف نفسه عرف ربه‏]‏‏.‏ وبعض الناس يروى هذا عن النبى صلى الله عليه وسلم، وليس هذا من كلام النبى صلى الله عليه وسلم، ولا هو في شيء من كتب الحديث، ولا يعرف له إسناد‏.‏
ولكن يروى في بعض الكتب المتقدمة ـ إن صح ـ ‏(‏يا إنسان، اعرف نفسك، تعرف ربك‏)‏‏.‏ وهذا الكلام سواء كان معناه صحيحا أو فاسدًا لا يمكن الاحتجاج بلفظه، فإنه لم يثبت عن قائل معصوم‏.‏ لكن إن فسر بمعنى صحيح عرف صحة ذلك المعنى، سواء دل عليه هذا اللفظ أو لم يدل‏.‏
وإنما القول الثابت ما في القرآن، وهو قوله‏:‏ ‏{‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ‏}‏‏.‏ فهو يدل على أن نسيان الرب موجب لنسيان النفس‏.‏
وحينئذ،فمن ذكر الله ولم ينسه، يكون ذاكرًا لنفسه،فإنه لو / كان ناسيا لها ـ سواء ذكر الله أو نسيه ـ لم يكن نسيانها مسببا عن نسيان الرب‏.‏فلما دلت الآية على أن نسيان الإنسان نفسه مسبب عن نسيانه لربه، دل على أن الذاكر لربه لا يحصل له هذا النسيان لنفسه‏.‏
والذكر يتضمن ذكر ما قد علمه، فمن ذكر ما يعلمه من ربه ذكر ما يعلمه من نفسه‏.‏ وهو قد ولد على الفطرة التي تقتضى أنه يعرف ربه ويحبه ويوحده‏.‏ فإذا لم ينس ربه الذي عرفه، بل ذكره على الوجه الذي يقتضي محبته ومعرفته وتوحيده، ذكر نفسه، فأبصر ما كان فيها قبل من معرفة الله ومحبته وتوحيده‏.‏
وأهل البدع ـ الجهمية ونحوهم ـ لما أعرضوا عن ذكر الله ـ الذكر المشروع الذي كان في الفطرة وجاءت به الشرعة، الذي يتضمن معرفته ومحبته وتوحيده ـ نسوا الله من هذا الوجه‏.‏ فأنساهم أنفسهم من هذا الوجه، فنسوا ما كان في أنفسهم من العلم الفطري، والمحبة الفطرية، والتوحيد الفطري‏.‏
وقد قال طائفة من المفسرين‏:‏ ‏{‏نَسُواْ اللّهَ‏}‏، أي‏:‏ تركوا أمر الله ‏{‏ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ‏}‏، أى‏:‏ حظوظ أنفسهم حيث لم يقدموا لها خيرًا، هذا لفظ طائفة ـ منهم البغوى ـ ولفظ آخرين ـ منهم ابن الجوزي ـ ‏:‏ حين لم يعملوا بطاعته‏.‏ وكلاهما قال‏:‏ ‏{‏نَسُواْ اللّهَ‏}‏ أى‏:‏ تركوا أمر الله‏.‏
/ ومثل هذا التفسير يقع كثيرًا في كلام من يأتى بمجمل من القول يبين معنى دلت عليه الآية ولا يفسرها بما يستحقه من التفسير‏.‏ فإن قولهم‏:‏ ‏[‏تركوا أمر الله‏]‏‏.‏ هو تركهم للعمل بطاعته، فصار الأول هو الثاني‏.‏ والله ـ سبحانه ـ قال‏:‏ ‏{‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 19‏]‏، فهنا شيئان‏:‏ نسيانهم لله، ثم نسيانهم لأنفسهم الذي عوقبوا به‏.‏
فإن قيل‏:‏ هذا الثاني هو الأول لكنه تفصيل مجمل، كقوله‏:‏ ‏{‏وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏4‏]‏، وهذا هو هذا، قيل‏:‏ هو لم يقل‏:‏ ‏[‏نسوا الله فنسوا حظ أنفسهم‏]‏ حتى يقال‏:‏ هذا هو هذا، بل قال‏:‏‏{‏ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ‏}‏، فثم إنساء منه لهم أنفسهم‏.‏ ولو كان هذا هو الأول لكان قد ذكر ما يعذرهم به، لا ما يعاقبهم به‏.‏
فلو كان الثاني هو الأول لكان‏:‏ ‏{‏نَسُواْ اللّهَ‏}‏، أي‏:‏ تركوا العمل بطاعته، فهو الذي أنساهم ذلك‏.‏ ومعلوم فساد هذا الكلام لفظًا ومعنى‏.‏
ولو قيل‏:‏ ‏{‏نَسُواْ اللّهَ‏}‏، أى‏:‏ نسوا أمره، ‏{‏ فَأَنسَاهُمْ‏}‏ العمل بطاعته، أى‏:‏ تذكرها، لكان أقرب، ويكون النسيان الأول على بابه‏.‏ فإن من نسى نفس أمر الله لم يطعه‏.‏
/ ولكن هم فسروا نسيان الله بترك أمره‏.‏ وأمره الذي هو كلامه ليس مقدورًا لهم حتى يتركوه، إنما يتركون العمل به، فالأمر بمعنى المأمور به‏.‏
إلا أن يقال‏:‏ مرادهم بترك أمره هو ترك الإيمان به‏.‏ فلما تركوا الإيمان أعقبهم بترك العمل‏.‏ وهذا ـ أيضًا ـ ضعيف، فإن الإيمان الذي تركوه إن كان هو ترك التصديق ـ فقط ـ فكفي بهذا كفرًا وذنبًا‏.‏ فلا تجعل العقوبة ترك العمل به، بل هذا أشد‏.‏ وإن كان المراد بترك الإيمان، ترك الإيمان تصديقًا وعملا، فهذا هو ترك الطاعة كما تقدم‏.‏
وهؤلاء أتوا من حيث أرادوا أن يفسروا نسيان العبد بما قيل في نسيان الرب، وذاك قد فسر بالترك‏.‏ ففسروا هذا بالترك‏.‏ وهذا ليس بجيد، فإن النسيان المناقض للذكر جائز على العبد بلا ريب‏.‏ والإنسان يعرض عما أمر به حتى ينساه، فلا يذكره‏.‏ فلا يحتاج أن يجعل نسيانه تركًا مع استحضار وعلم‏.‏
وأما الرب تعالى فلا يجوز عليه ما يناقض صفات كماله ـ سبحانه وتعالى ـ وفي تفسير نسيانه الكفار بمجرد الترك نظر‏.‏
ثم هذا قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 126‏]‏ ‏.‏ / أي‏:‏ تركت العمل بها‏.‏ وهنا قال‏:‏ ‏{‏نَسُواْ اللّهَّ‏}‏، ولا يقال في حق الله‏:‏ ‏[‏تركوه‏]‏‏.‏