فـصـل في تفسير قوله‏ تعالى:‏ ‏{‏الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ‏}‏
 
فـصـل
قوله‏:‏ ‏{‏الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1، 2‏]‏، بيــان لتعريفــه بما قد عرف من الخلق عمومًا، وخلق الإنسان خصوصًا، وإن هذا مما تعرف به الفطــرة كما تقدم‏.‏
ثم إذا عرف أنه الخالق فمن المعلوم بالضرورة أن الخالق لا يكون إلا قادرًا‏.‏ بل كل فعل يفعله فاعل، لا يكون إلا بقوة وقدرة، حتى أفعال الجمادات‏.‏ كهبوط الحجر والماء وحركة النار هو بقوة فيها‏.‏ وكذلك حركة النبات هي بقوة فيه‏.‏ وكذلك فعل كل حى من الدواب وغيرها هو بقوة فيها‏.‏ وكذلك الإنسان وغيره‏.‏
والخلق أعظم الأفعال، فإنه لا يقدر عليه إلا الله، فالقدرة عليه أعظم من كل قدرة، وليس لها نظير من قدر المخلوقين‏.‏
وأيضًا، فالتعليم بالقلم يستلزم القدرة‏.‏ فكل من الخلق والتعليم يستلزم القدرة‏.‏
/ وكذلك كل منهما يستلزم العلم‏.‏فإن المعلم لغيره يجب أن يكون هو عالمًا بما علمه إياه، وإلا فمن الممتنع أن يعلم غيره ما لا يعلمه هو‏.‏ فمن علم كل شيء ـ الإنسان غيره ـ ما لم يعلم، أولى أن يكون عالمًا بما علَّمَه‏.‏ والخلق ـ أيضًا ـ يستلزم العلم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وذلك من جهة أن الخلق يستلزم الإرادة‏.‏ فإن فعل الشيء على صفة مخصوصة ومقدار مخصوص دون ما هو خلاف ذلك لا يكون إلا بإرادة تخصص هذا عن ذاك‏.‏ والإرادة تستلزم العلم‏.‏ فلا يريد المريد إلا ما شعر به وتصور في نفسه، والإرادة بدون الشعور ممتنعة‏.‏
وأيضًا، فنفس الخلق ـ خلق الإنسان ـ هو فعل لهذا الإنسان الذي هو من عجائب المخلوقات‏.‏ وفيه من الإحكام والإتقان ما قد بهر العقول‏.‏ والفعل المحكم المتقن لا يكون إلا من عالم بما فعل‏.‏ وهذا معلوم بالضرورة‏.‏
فالخلق يدل على العلم من هذا الوجه، ومن هذا الوجه‏.‏
وقد قال في سورة الملك ‏{‏وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ‏}‏‏.‏ وهو بيان ما في المخلوقات من لطف الحكمة التي تتضمن إيصال الأمور إلى غاياتها بألطف الوجوه، كما قال يوسف ـ عليه السلام ـ‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 100‏]‏‏.‏ وهذا يستلزم العلم بالغاية المقصودة، والعلم بالطريق الموصل وكذلك الخبرة‏.‏
وبسط هذا يطول، إذ المقصود ـ هنا ـ التنبيه على ما في الآيات التي هي أول ما أنزل‏.‏
ثم إذا ثبت أنه قادر عالم، فذلك يستلزم كونه حيًا‏.‏ وكذلك الإرادة تستلزم الحياة‏.‏
والحي إذا لم يكن سميعًا بصيرًا متكلمًا، كان متصفًا بضد ذلك من العمى والصمم والخرس، وهذا ممتنع في حق الرب ـ تعالى‏.‏ فيجب أن يتصف بكونه سميعًا بصيرًا متكلمًا‏.‏
والإرادة؛ إما أن تكون لغاية حكيمة، أو لا‏.‏ فإن لم تكن لغاية حكيمة كانت سفهًا، وهو منزه عن ذلك، فيجب أن يكون حكيما‏.‏
وهو إما أن يقصد نفع الخلق والإحسان إليهم، أو يقصد مجرد ضررهم وتعذيبهم، أو لا يقصد واحدًا منهما، بل يريد ما يريد سواء كان كذا أو كذا‏.‏ والثاني شرير ظالم يتنزه الرب عنه، والثالث سفيه عابث‏.‏ فتعين أنه ـ تعالى ـ رحيم، كما أنه حكيم، كما قد بسط في مواضع‏.‏