الْبَابُ الْخَامِسُ أَدَبُ النَّفْسِ :آدَابُ الْمُوَاضَعَةِ وَالاصْطِلاَحِ:الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي الصَّبْرِ وَالْجَزَعِ
 

بسم الله الرحمن الرحيم

َ

الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي الصَّبْرِ وَالْجَزَعِ

اعْلَمْ أَنَّ مِنْ حُسْنِ التَّوْفِيقِ وَإِمَارَاتِ السَّعَادَةِ الصَّبْرُ عَلَى الْمُلِمَّاتِ وَالرِّفْقِ عِنْدَ النَّوَازِلِ، وَبِهِ نَزَلَ الْكِتَابُ وَجَاءَتْ السُّنَّةُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. يَعْنِي اصْبِرُوا عَلَى مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، وَصَابِرُوا عَدُوَّكُمْ، وَرَابَطُوا فِيهِ تَأْوِيلاَنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْجِهَادِ. وَالثَّانِي: عَلَى انْتِظَارِ الصَّلَوَاتِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {الا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يُحْبِطُ اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: إسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْمَكَارِهِ وَكَثْرَةُ الْخُطَى إلَى الْمَسْجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ}. فَنَزَلَ الْكِتَابُ بِتَأْكِيدِ الصَّبْرِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَدَبَ إلَيْهِ، وَجَعَلَهُ مِنْ عَزَائِمِ التَّقْوَى فِيمَا افْتَرَضَهُ وَحَثَّ عَلَيْهِ.

وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {الصَّبْرُ سِتْرٌ مِنْ الْكُرُوبِ وَعَوْنٌ عَلَى الْخُطُوبِ}. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: الصَّبْرُ مَطِيَّةٌ لاَ تَكْبُو، وَالْقَنَاعَةُ سَيْفٌ لاَ يَنْبُو. وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ: لَمْ أَسْمَعْ أَعْجَبَ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: لَوْ أَنَّ الصَّبْرَ وَالشُّكْرَ يُعَيِّرَانِ مَا بَالَيْت أَيَّهُمَا رَكِبْتُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَفْضَلُ الْعُدَّةِ الصَّبْرُ عَلَى الشِّدَّةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: مِنْ خَيْرِ خِلاَلِك الصَّبْرُ عَلَى اخْتِلاَلِك. وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: مَنْ أَحَبَّ الْبَقَاءَ فَلْيُعِدَّ لِلْمَصَائِبِ قَلْبًا صَبُورًا. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: بِالصَّبْرِ عَلَى مَوَاقِعِ الْكُرْهِ تُدْرَكُ الْحُظُوظُ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ، وَهُوَ عُبَيْدُ بْنُ الابْرَصِ: صَبِّرْ النَّفْسَ عِنْدَ كُلِّ مُلِمٍّ إنَّ فِي الصَّبْرِ حِيلَةَ الْمُحْتَالِ لاَ تُضَيِّقَنَّ فِي الامُورِ فَقَدْ تُكْشَفُ غِمَاؤُهَا بِغَيْرِ احْتِيَالِ رُبَّمَا تَجْزَعُ النُّفُوسُ مِنْ الامْرِ لَهُ فُرْجَةٌ كَحِلِّ الْعِقَالِ وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ فِي كِتَابِ الْيَتِيمَةِ: الصَّبْرُ صَبْرَانِ: فَاللِّئَامُ أَصْبَرُ أَجْسَامًا، وَالْكِرَامُ أَصْبَرُ نُفُوسًا.

وَلَيْسَ الصَّبْرُ الْمَمْدُوحُ صَاحِبُهُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَوِيَّ الْجَسَدِ عَلَى الْكَدِّ وَالْعَمَلِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ صِفَاتِ الْحَمِيرِ، وَلَكِنْ أَنْ يَكُونَ لِلنَّفْسِ غَلُوبًا، وَلِلْأُمُورِ مُتَحَمِّلًا، وَلِجَأْشِهِ عِنْدَ الْحِفَاظِ مُرْتَبِطًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ، وَهُوَ فِي كُلِّ قِسْمٍ مِنْهَا مَحْمُودٌ. فَأَوَّلُ أَقْسَامِهِ وَأَوْلاَهَا: الصَّبْرُ عَلَى امْتِثَالِ مَا أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِهِ، وَالانْتِهَاءُ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ بِهِ تَخْلُصُ الطَّاعَةُ وَبِهَا يَصِحُّ الدِّينُ وَتُؤَدَّى الْفُرُوضُ وَيُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ، كَمَا قَالَ فِي مُحْكِمِ الْكِتَابِ: {إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {الصَّبْرُ مِنْ الايمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ}. وَلَيْسَ لِمَنْ قَلَّ صَبْرُهُ عَلَى طَاعَةٍ حَظٌّ مِنْ بِرٍّ وَلاَ نَصِيبٌ مِنْ صَلاَحٍ، وَمَنْ لَمْ يَرَ لِنَفْسِهِ صَبْرًا يُكْسِبُهَا ثَوَابًا. وَيَدْفَعُ عَنْهَا عِقَابًا، كَانَ مِنْ سُوءِ الاخْتِيَارِ بَعِيدًا مِنْ الرَّشَادِ حَقِيقًا بِالضَّلاَلِ. وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رحمه الله تعالى: يَا مَنْ يَطْلُبُ مِنْ الدُّنْيَا مَا لاَ يَلْحَقُهُ أَتَرْجُو أَنْ تَلْحَقَ مِنْ الاخِرَةِ مَا لاَ تَطْلُبُهُ. وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ رحمه الله تعالى: أَرَاك امْرَأً تَرْجُو مِنْ اللَّهِ عَفْوَهُ وَأَنْتَ عَلَى مَا لاَ يُحِبُّ مُقِيمُ تَدُلُّ عَلَى التَّقْوَى وَأَنْتَ مُقَصِّرٌ فَيَا مَنْ يُدَاوِي النَّاسَ وَهُوَ سَقِيمُ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الصَّبْرِ إنَّمَا يَكُونُ لِفَرْطِ الْجَزَعِ وَشِدَّةِ الْخَوْفِ فَإِنَّ مَنْ خَافَ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - وَصَبَرَ عَلَى طَاعَتِهِ، وَمَنْ جَزَعَ مِنْ عِقَابِهِ وَقَفَ عِنْدَ أَوَامِرِهِ.

وَالْقِسْمُ الثَّانِي: الصَّبْرُ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ أَوْقَاتُهُ مِنْ رَزِيَّةٍ قَدْ أَجْهَدَهُ الْحُزْنُ عَلَيْهَا، أَوْ حَادِثَةٍ قَدْ كَدَّهُ الْهَمُّ بِهَا فَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَيْهَا يَعْقُبُهُ الرَّاحَةُ مِنْهَا، وَيُكْسِبُهُ الْمَثُوبَةَ عَنْهَا. فَإِنْ صَبَرَ طَائِعًا وَالا احْتَمَلَ هَمَّا لاَزِمًا وَصَبَرَ كَارِهًا آثِمًا. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي وَيَصْبِرْ عَلَى بَلاَئِي فَلْيَخْتَرْ رَبًّا سِوَايَ}. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ لِلْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ: إنَّك إنْ صَبَرْت جَرَى عَلَيْك الْقَلَمُ وَأَنْتَ مَأْجُورٌ، وَإِنْ جَزِعْتَ جَرَى عَلَيْك الْقَلَمُ وَأَنْتَ مَأْزُورٌ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو تَمَّامٍ فِي شَعْرِهِ فَقَالَ: وَقَالَ عَلِيٌّ فِي التَّعَازِي لِأَشْعَثَ وَخَافَ عَلَيْهِ بَعْضَ تِلْكَ الْمَآثِمِ: أَتَصْبِرُ لِلْبَلْوَى عَزَاءً وَخَشْيَةً فَتُؤْجَرُ أَوْ تَسْلُو سُلُوَّ الْبَهَائِمْ وَقَالَ شَبِيبُ بْنُ شَيْبَةَ لِلْمَهْدِيِّ: إنَّ أَحَقَّ مَا تَصْبِرُ عَلَيْهِ مَا لَمْ تَجِدْ إلَى دَفْعِهِ سَبِيلًا. وَأَنْشَدَ: وَلَئِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ فَاصْبِرْ لَهَا عَظُمَتْ مُصِيبَةُ مُبْتَلٍ لاَ يَصْبِرُ وَقَالَ آخَرُ: تَصَبَّرْتُ مَغْلُوبًا وَإِنِّي لَمُوجَعٌ كَمَا صَبَرَ الظَّمْآنُ فِي الْبَلَدِ الْقَفْرِ وَلَيْسَ اصْطِبَارِي عَنْك صَبْرَ اسْتِطَاعَةٍ وَلَكِنَّهُ صَبْرٌ أَمَرُّ مِنْ الصَّبْرِ.

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: الصَّبْرُ عَلَى مَا فَاتَ إدْرَاكُهُ مِنْ رَغْبَةٍ مَرْجُوَّةٍ، وَأَعْوَزَ نَيْلُهُ مِنْ مَسَرَّةٍ مَأْمُولَةٍ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَنْهَا يُعْقِبُ السَّلْوَ مِنْهَا، وَالاسَفُ بَعْدَ الْيَأْسِ خَرَقٌ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ أُعْطِيَ فَشَكَرَ، وَمُنِعَ فَصَبَرَ، وَظُلِمَ فَغَفَرَ، وَظَلَمَ فَاسْتَغْفَرَ، فَأُولَئِكَ لَهُمْ الامْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: اجْعَلْ مَا طَلَبْته مِنْ الدُّنْيَا فَلَمْ تَنَلْهُ مِثْلَ مَا لاَ يَخْطُرُ بِبَالِك فَلَمْ تَقُلْهُ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: إذَا مَلَكَ الْقَضَاءُ عَلَيْك أَمْرًا فَلَيْسَ يَحِلُّهُ غَيْرُ الْقَضَاءِ فَمَا لَك وَالْمُقَامُ بِدَارِ ذُلٍّ وَدَارُ الْعِزِّ وَاسِعَةُ الْفَضَاءِ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إنْ كُنْت تَجْزَعُ عَلَى مَا فَاتَ مِنْ يَدِك فَاجْزَعْ عَلَى مَا لاَ يَصِلُ إلَيْك. فَأَخَذَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ: لاَ تُطِلْ الْحُزْنَ عَلَى فَائِتٍ فَقَلَّمَا يُجْدِي عَلَيْكَ الْحَزَنْ سِيَّانِ مَحْزُونٌ عَلَى فَائِتٍ وَمُضْمِرٌ حُزْنًا لِمَا لَمْ يَكُنْ.

وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: الصَّبْرُ فِيمَا يُخْشَى حُدُوثُهُ مِنْ رَهْبَةٍ يَخَافُهَا، أَوْ يَحْذَرُ حُلُولَهُ مِنْ نَكْبَةٍ يَخْشَاهَا فَلاَ يَتَعَجَّلْ هَمَّ مَا لَمْ يَأْتِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْهُمُومِ كَاذِبَةٌ وَإِنَّ الاغْلَبَ مِنْ الْخَوْفِ مَدْفُوعٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {بِالصَّبْرِ يُتَوَقَّعُ الْفَرْجُ وَمَنْ يُدْمِنُ قَرْعَ بَابٍ يَلِجُ}. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رحمه الله: لاَ تَحْمِلَنَّ عَلَى يَوْمِك هَمَّ غَدِك، فَحَسْبُ كُلِّ يَوْمٍ هَمُّهُ. وَأَنْشَدَ الْجَاحِظُ لِحَارِثَةَ بْنِ زَيْدٍ: إذَا الْهَمُّ أَمْسَى وَهُوَ دَاءٌ فَأَمْضِهِ وَلَسْتَ بِمُمْضِيهِ وَأَنْتَ تُعَاذِلُهْ وَلاَ تُنْزِلَنَّ أَمْرَ الشَّدِيدَةِ بِامْرِئٍ إذَا هَمَّ أَمْرًا عَوَّقَتْهُ عَوَاذِلُهْ وَقُلْ لِلْفُؤَادِ إنْ تَجِدْ بِك ثَوْرَةً مِنْ الرَّوْعِ فَافْرَحْ أَكْثَرُ الْهَمِّ بَاطِلُهْ

وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: الصَّبْرُ فِيمَا يَتَوَقَّعُهُ مِنْ رَغْبَةٍ يَرْجُوهَا، وَيَنْتَظِرُ مِنْ نِعْمَةٍ يَأْمُلُهَا فَإِنَّهُ إنْ أَدْهَشَهُ التَّوَقُّعُ لَهَا، وَأَذْهَلَهُ التَّطَلُّعُ إلَيْهَا انْسَدَّتْ عَلَيْهِ سُبُلُ الْمَطَالِبِ وَاسْتَفَزَّهُ تَسْوِيلُ الْمَطَامِعِ فَكَانَ أَبْعَدَ لِرَجَائِهِ وَأَعْظَمَ لِبَلاَئِهِ. وَإِذَا كَانَ مَعَ الرَّغْبَةِ وَقُورًا وَعِنْدَ الطَّلَبِ صَبُورًا انْجَلَتْ عَنْهُ عَمَايَةُ الدَّهَشِ وَانْجَابَتْ عَنْهُ حِيرَةُ الْوَلَهِ، فَأَبْصَرَ رُشْدَهُ وَعَرَفَ قَصْدَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {الصَّبْرُ ضِيَاءٌ}. يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ يَكْشِفُ ظُلْمَ الْحِيرَةِ، وَيُوَضِّحُ حَقَائِقَ الامُورِ. وَقَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ: مَنْ صَبَرَ ظَفِرَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ: كَانَ مَكْتُوبًا فِي قَصْرِ أَزْدَشِيرِ: الصَّبْرُ مِفْتَاحُ الدَّرَكِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: بِحُسْنِ التَّأَنِّي تَسْهُلُ الْمَطَالِبُ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: مَنْ صَبَرَ نَالَ الْمُنَى، وَمَنْ شَكَرَ حَصَّنَ النُّعْمَى. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشِيرٍ: إنَّ الامُورَ إذَا سُدَّتْ مَطَالِبُهَا فَالصَّبْرُ يَفْتَقُ مِنْهَا كُلَّ مَا ارْتَتَجَا لاَ تَيْأَسَنَّ وَإِنْ طَالَتْ مُطَالَبَةٌ إذَا اسْتَعَنْتَ بِصَبْرٍ أَنْ تَرَى فَرَجَا أَخْلِقْ بِذِي الصَّبْرِ أَنْ يَحْظَى بِحَاجَتِهِ وَمُدْمِنِ الْقَرْعِ لِلْأَبْوَابِ أَنْ يَلِجَا.

وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: الصَّبْرُ عَلَى مَا نَزَلَ مِنْ مَكْرُوهٍ أَوْ حَلَّ مِنْ أَمْرٍ مَخُوفٍ. فَبِالصَّبْرِ فِي هَذَا تَنْفَتِحُ وُجُوهُ الارَاءِ، وَتُسْتَدْفَعُ مَكَائِدُ الاعْدَاءِ، فَإِنَّ مَنْ قَلَّ صَبْرُهُ عَزَبَ رَأْيُهُ، وَاشْتَدَّ جَزَعُهُ، فَصَارَ صَرِيعَ هُمُومِهِ، وَفَرِيسَةَ غُمُومِهِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَك إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الامُورِ}. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ بِالرِّضَى فِي الْيَقِينِ فَافْعَلْ، وَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَاصْبِرْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا}. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَالْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَالْيُسْرَ مَعَ الْعُسْرِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: الصَّبْرُ مُسْتَأْصِلُ الْحِدْثَانِ، وَالْجَزَعُ مِنْ أَعْوَانِ الزَّمَانِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: بِمِفْتَاحِ عَزِيمَةِ الصَّبْرِ تُعَالَجُ مَغَالِيقُ الامُورِ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: عِنْدَ انْسِدَادِ الْفَرَجِ تَبْدُو مَطَالِعُ الْفَرَجِ.

وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد عليهما السلام لَمَّا اسْتَكَدَّ شَيَاطِينَهُ فِي الْبِنَاءِ شَكَوْا ذَلِكَ إلَى إبْلِيسَ، لَعَنَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: أَلَسْتُمْ تَذْهَبُونَ فَرْغًا وَتَرْجِعُونَ مَشَاغِيلَ ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَفِي ذَلِكَ رَاحَةٌ. فَبَلَغَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ - فَشَغْلَهُمْ ذَاهِبِينَ وَرَاجِعِينَ فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَى إبْلِيسَ، لَعَنَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: أَلَسْتُمْ تَسْتَرِيحُونَ بِاللَّيْلِ ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ فَفِي هَذَا رَاحَةٌ لَكُمْ نِصْفُ دَهْرِكُمْ. فَبَلَغَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ رضي الله عنه فَشَغْلَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَى إبْلِيسَ، لَعَنَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: الانَ جَاءَكُمْ الْفَرَجُ، فَمَا لَبِثَ أَنْ أُصِيبَ سُلَيْمَانُ عليه السلام مَيِّتًا عَلَى عَصَاهُ. فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ يَعْمَلُ بِأَمْرِهِ وَيَقِفُ عَلَى حَدِّهِ فَكَيْفَ بِمَا جَرَتْ بِهِ الاقْدَارُ مِنْ أَيْدٍ عَادِيَةٍ، وَسَاقَهُ الْقَضَاءُ مِنْ حَوَادِثَ نَازِلَةٍ، هَلْ تَكُونُ مَعَ التَّنَاهِي الا مُنْقَرِضَةً وَعِنْدَ بُلُوغِ الْغَايَةِ الا مُنْحَسِرَةً ؟ وَأَنْشَدَ بَعْضُ الادَبَاءِ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه: خَلِيلَيَّ لاَ وَاَللَّهِ مَا مِنْ مُلِمَّةٍ تَدُومُ عَلَى حَيٍّ وَإِنْ هِيَ جَلَّتْ فَإِنْ نَزَلَتْ يَوْمًا فَلاَ تَخْضَعَنَّ لَهَا وَلاَ تُكْثِرْ الشَّكْوَى إذَا النَّعْلُ زَلَّتْ فَكَمْ مِنْ كَرِيمٍ قَدْ بُلِي بِنَوَائِبَ فَصَابَرَهَا حَتَّى مَضَتْ وَاضْمَحَلَّتْ وَكَمْ غَمْرَةٍ هَاجَتْ بِأَمْوَاجِ غَمْرَةٍ تَلَقَّيْتهَا بِالصَّبْرِ حَتَّى تَجَلَّتْ وَكَانَتْ عَلَى الايَّامِ نَفْسِي عَزِيزَةٌ فَلَمَّا رَأَتْ صَبْرِي عَلَى الذُّلِّ ذَلَّتْ فَقُلْتُ لَهَا: يَا نَفْسُ مُوتِي كَرِيمَةً فَقَدْ كَانَتْ الدُّنْيَا لَنَا ثُمَّ وَلَّتْ.

وَلِتَسْهِيلِ الْمَصَائِبِ وَتَخْفِيفِ الشَّدَائِدِ أَسْبَابٌ إذَا قَارَنْت حَزْمًا، وَصَادَفْت عَزْمًا. هَانَ وَقْعُهَا، وَقَلَّ تَأْثِيرُهَا وَضَرَرُهَا. فَمِنْهَا: إشْعَارُ النَّفْسِ بِمَا تَعْلَمُهُ مِنْ نُزُولِ الْفَنَاءِ وَتَقَضِّي الْمُسِرِّ وَأَنَّ لَهَا آجَالا مُنْصَرِمَةٌ وَمُدَدًا مُنْقَضِيَةٌ، إذْ لَيْسَ لِلدُّنْيَا حَالٌ تَدُومُ وَلاَ لِمَخْلُوقٍ فِيهَا بَقَاءٌ. وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا الا كَمَثَلِ رَاكِبٍ مَالَ إلَى ظِلِّ شَجَرَةٍ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا}. وَسُئِلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه عَنْ الدُّنْيَا فَقَالَ: تَغُرُّ وَتَضُرُّ وَتَمُرُّ. وَسَأَلَ بَعْضُ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ جَلِيسًا لَهُ عَنْ الدُّنْيَا فَقَالَ: إذَا أَقْبَلَتْ أَدْبَرَتْ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: الدُّنْيَا أَمَدٌ وَالاخِرَةُ أَبَدٌ.

وَقَالَ أَنُوشِرْوَانَ: إنْ أَحْبَبْت أَنْ لاَ تَغْتَمَّ فَلاَ تَقْتَنِ مَا بِهِ تَهْتَمُّ. فَأَخَذَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الدَّهْرَ مِنْ سُوءِ فِعْلِهِ يُكَدِّرُ مَا أَعْطَى وَيَسْلُبُ مَا أَسْدَى فَمَنْ سَرَّهُ أَنْ لاَ يَرَى مَا يَسُوءُهُ فَلاَ يَتَّخِذْ شَيْئًا يَخَافُ لَهُ فَقْدَا وَأَنْشَدَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: لِحَكِيمِنَا بُقْرَاطَ خَيْرُ قَضِيَّةٍ وَوَصِيَّةٍ تَنْفِي الْهُمُومَ الرُّكَّدَا قَالَ الْهُمُومُ تَكُونُ مِنْ طَبْعِ الْوَرَى فِي لُبْثِ مَا فِي طَبْعِهِ أَنْ يَنْفَدَا فَإِذَا اقْتَنَيْتَ مِنْ الزُّجَاجَةِ قَابِلًا لِلْكَسْرِ فَانْكَسَرَتْ فَلاَ تَكُ مُكْمَدَا وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِسَعِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ: إنَّمَا الدُّنْيَا هِبَاتٌ وَعَوَارٍ مُسْتَرَدَّهْ شِدَّةٌ بَعْدَ رَخَاءٍ وَرَخَاءٌ بَعْدَ شِدَّهْ وَلَمَّا قُتِلَ بَزَرْجَمْهَرُ وُجِدَ فِي جَيْبِ قَمِيصِهِ رُقْعَةٌ فِيهَا مَكْتُوبٌ: إذَا لَمْ يَكُنْ جَدٌّ فَفِيمَ الْكَدُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْأَمْرِ دَوَامٌ فَفِيمَ السُّرُورُ، وَإِذَا لَمْ يُرِدْ اللَّهُ دَوَامَ مُلْكٌ فَفِيمَ الْحِيلَةُ. وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ: رَأَيْتُ حَيَاةَ الْمَرْءِ رَهْنًا بِمَوْتِهِ وَصِحَّتُهُ رَهْنًا كَذَلِكَ بِالسَّقَمِ إذَا طَابَ لِي عَيْشٌ تَنَغَّصَ طِيبُهُ بِصِدْقِ يَقِينِي أَنْ سَيَذْهَبُ كَالْحُلْمِ وَمَنْ كَانَ فِي عَيْشٍ يُرَاعِي زَوَالَهُ فَذَلِكَ فِي بُؤْسٍ وَإِنْ كَانَ فِي نِعَمِ وَمِنْهَا: أَنْ يَتَصَوَّرَ انْجِلاَءَ الشَّدَائِدِ وَانْكِشَافَ الْهُمُومِ، وَأَنَّهَا تُقَدَّرُ بِأَوْقَاتٍ لاَ تَنْصَرِمُ قَبْلَهَا، وَلاَ تَسْتَدِيمُ بَعْدَهَا، فَلاَ تَقْصُرُ بِجَزَعٍ وَلاَ تَطُولُ بِصَبْرٍ، وَأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ يَمُرُّ بِهَا يَذْهَبُ مِنْهَا بِشَطْرٍ وَيَأْخُذُ مِنْهَا بِنَصِيبٍ، حَتَّى تَنْجَلِيَ وَهُوَ عَنْهَا غَافِلٌ. وَحُكِيَ أَنَّ الرَّشِيدَ حَبَسَ رَجُلًا ثُمَّ سَأَلَ عَنْهُ بَعْدَ زَمَانٍ، فَقَالَ لِلْمُتَوَكِّلِ بِهِ: قُلْ لَهُ كُلُّ يَوْمٍ يَمْضِي مِنْ نِعَمِهِ يَمْضِي مِنْ بُؤْسِي مِثْلُهُ، وَالامْرُ قَرِيبٌ وَالْحُكْمُ لِلَّهِ تَعَالَى.

فَأَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ مَا أَنْتُمُو فِيهِ يَدُومُ لَكُمْ ظَنَنْتُ مَا أَنَا فِيهِ دَائِمًا أَبَدَا لَكِنَّنِي عَالِمٌ أَنِّي وَأَنَّكُمْ سَنَسْتَجْدِي خِلاَفَ الْحَالَتَيْنِ غَدَا وَأَنْشَدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ رَبَّك لَيْسَ تُحْصَى أَيَادِيهِ الْحَدِيثَةُ وَالْقَدِيمَهْ تَسَلَّ عَنْ الْهُمُومِ فَلَيْسَ شَيْءٌ يَقُومُ وَلاَ هُمُومُكَ بِالْمُقِيمَهْ لَعَلَّ اللَّهَ يَنْظُرُ بَعْدَ هَذَا إلَيْك بِنَظْرَةٍ مِنْهُ رَحِيمَهْ وَمِنْهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ فِي مَا وُقِيَ مِنْ الرَّزَايَا، وَكُفِيَ مِنْ الْحَوَادِثِ، مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ رَزِيَّتِهِ وَأَشَدُّ مِنْ حَادِثَتِهِ؛ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ مَمْنُوحٌ بِحُسْنِ الدِّفَاعِ. وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي أَثْنَاءِ كُلِّ مِحْنَةٍ مِنْحَةٌ}. وَقِيلَ لِلشَّعْبِيِّ فِي نَائِبَةٍ كَيْفَ أَصْبَحْت ؟ قَالَ: بَيْنَ نِعْمَتَيْنِ: خَيْرٌ مَنْشُورٌ وَشَرٌّ مَسْتُورٌ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: لاَ تَكْرَهْ الْمَكْرُوهَ عِنْدَ حَوْلِهِ إنَّ الْعَوَاقِبَ لَمْ تَزَلْ مُتَبَايِنَهْ كَمْ نِعْمَةٍ لاَ تَسْتَقِلُّ بِشُكْرِهَا لِلَّهِ فِي طَيِّ الْمَكَارِهِ كَامِنَهْ وَمِنْهَا: أَنْ يَتَأَسَّى بِذَوِي الْغِيَرِ، وَيَتَسَلَّى بِأُولِي الْعِبَرِ. وَيَعْلَمَ أَنَّهُمْ الاكْثَرُونَ عَدَدًا وَالاسْرَعُونَ مَدَدًا، فَيَسْتَجِدَّ مِنْ سَلْوَةِ الاسَى وَحُسْنِ الْعَزَا مَا يُخَفِّفُ شَجْوَهُ، وَيُقِلُّ هَلَعَهُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: أَلْصِقُوا بِذَوِي الْغِيَرِ تَتَّسِعْ قُلُوبُكُمْ. وَعَلَى مِثْلِ ذَلِكَ كَانَتْ مَرَاثِي الشُّعَرَاءِ.

قَالَ الْبُحْتُرِيُّ: فَلاَ عُجْبَ لِلْأُسْدِ إنْ ظَفِرَتْ بِهَا كِلاَبُ الاعَادِي مِنْ فَصِيحٍ وَأَعْجَمِي فَحَرْبَةُ وَحْشِيٍّ سَقَتْ حَمْزَةَ الرَّدَى وَمَوْتُ عَلِيٍّ مِنْ حُسَامِ ابْنِ مُلْجِمِ وَقَالَ أَبُو نُوَاسٍ: الْمَرْءُ بَيْنَ مَصَائِب لاَ تَنْقَضِي حَتَّى يُوَارَى جِسْمُهُ فِي رَمْسِهِ فَمُؤَجَّلٌ يَلْقَى الرَّدَى فِي أَهْلِهِ وَمُعَجَّلٌ يَلْقَى الرَّدَى فِي نَفْسِهِ وَمِنْهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ النِّعَمَ زَائِرَةٌ، وَأَنَّهَا لاَ مَحَالَةَ زَائِلَةٌ، وَأَنَّ السُّرُورَ بِهَا إذَا أَقْبَلَتْ مَشُوبٌ بِالْحَذَرِ مِنْ فِرَاقِهَا إذَا أَدْبَرَتْ، وَأَنَّهَا لاَ تَفْرَحُ بِإِقْبَالِهَا فَرَحًا حَتَّى تُعْقِبَ بِفِرَاقِهَا تَرَحًا، فَعَلَى قَدْرِ السُّرُورِ يَكُونُ الْحُزْنُ. وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: الْمَفْرُوحُ بِهِ هُوَ الْمَحْزُونُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: مَنْ بَلَغَ غَايَةَ مَا يُحِبُّ فَلْيَتَوَقَّعْ غَايَةَ مَا يَكْرَهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ نَائِبَةٍ إلَى انْقِضَاءٍ حَسُنَ عَزَاؤُهُ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلاَءِ. وَقِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رحمه الله: كَيْفَ تَرَى الدُّنْيَا ؟ قَالَ: شَغَلَنِي تَوَقُّعُ بَلاَئِهَا عَنْ الْفَرَحِ بِرَخَائِهَا. فَأَخَذَهُ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ فَقَالَ: تَزِيدُهُ الايَّامُ إنْ أَقْبَلَتْ شِدَّةَ خَوْفٍ لِتَصَارِيفِهَا كَأَنَّهَا فِي حَالِ إسْعَافِهَا تُسْمِعْهُ وَقْعَ تَخْوِيفِهَا وَمِنْهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ سُرُورَهُ مَقْرُونٌ بِمُسَاءَةِ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ حُزْنُهُ مَقْرُونٌ بِسُرُورِ غَيْرِهِ. إذْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَنْقُلُ مِنْ صَاحِبٍ إلَى صَاحِبٍ، وَتَصِلُ صَاحِبًا بِفِرَاقِ صَاحِبٍ. فَتَكُونُ سُرُورًا لِمَنْ وَصَلَتْهُ وَحُزْنًا لِمَنْ فَارَقَتْهُ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {مَا قَرَعْت عَصَا عَلَى عَصَا الا فَرِحَ لَهَا قَوْمٌ وَحَزِنَ آخَرُونَ}. وَقَالَ الْبُحْتُرِيُّ: مَتَى أَرَتْ الدُّنْيَا نَبَاهَةَ خَامِلٍ فَلاَ تَرْتَقِبْ الا خُمُولَ نَبِيهِ وَقَالَ الْمُتَنَبِّي: بِذَا قَضَتْ الايَّامُ مَا بَيْنَ أَهْلِهَا مَصَائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوَائِدُ وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ الادَبِ: الا إنَّمَا الدُّنْيَا غَضَارَةُ أَيْكَةٍ إذَا اخْضَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ جَفَّ جَانِبُ فَلاَ تَفْرَحَنَّ مِنْهَا لِشَيْءٍ تُفِيدُهُ سَيَذْهَبُ يَوْمًا مِثْلَ مَا أَنْتَ ذَاهِبُ وَمَا هَذِهِ الايَّامُ الا فَجَائِعٌ وَمَا الْعَيْشُ وَاللَّذَّاتُ الا مَصَائِبُ وَمِنْهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ طَوَارِقَ الانْسَانِ مِنْ دَلاَئِلِ فَضْلِهِ، وَمِحَنَهُ مِنْ شَوَاهِدِ نُبْلِهِ. وَلِذَلِكَ إحْدَى عِلَّتَيْنِ: إمَّا؛ لِأَنَّ الْكَمَالَ مُعْوِزٌ وَالنَّقْصُ لاَزِمٌ، فَإِذَا تَوَاتَرَ الْفَضْلُ عَلَيْهِ صَارَ النَّقْصُ فِيمَا سِوَاهُ. وَقَدْ قِيلَ: مَنْ زَادَ فِي عَقْلِهِ نَقَصَ مِنْ رِزْقِهِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَا انْتَقَصَتْ جَارِحَةٌ مِنْ إنْسَانٍ الا كَانَتْ ذَكَاءً فِي عَقْلِهِ}.

وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: مَا جَاوَزَ الْمَرْءُ مِنْ أَطْرَافِهِ طَرَفًا الا تَخَوَّنَهُ النُّقْصَانُ مِنْ طَرَفِ وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الادَبِ، لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ هِلاَلٍ الْكَاتِبِ: إذَا جَمَعَتْ بَيْنَ امْرَأَيْنِ صِنَاعَةٌ فَأَحْبَبْتَ أَنْ تَدْرِيَ الَّذِي هُوَ أَحْذَقُ فَلاَ تَتَفَقَّدْ مِنْهُمَا غَيْرَ مَا جَرَتْ بِهِ لَهُمَا الارْزَاقُ حِينَ تُفَرَّقُ فَحَيْثُ يَكُونُ النَّقْصُ فَالرِّزْقُ وَاسِعٌ وَحَيْثُ يَكُونُ الْفَضْلُ فَالرِّزْقُ ضَيِّقُ وَإِمَّا؛ لِأَنَّ ذَا الْفَضْلِ مَحْسُودٌ، وَبِالاذَى مَقْصُودٌ، فَلاَ يَسْلَمُ فِي بِرِّهِ مِنْ مُعَادٍ وَاشْتِطَاطِ مُنَاوٍ. وَقَالَ الصَّنَوْبَرِيُّ: مِحَنُ الْفَتَى يُخْبِرْنَ عَنْ فَضْلِ الْفَتَى كَالنَّارِ مُخْبِرَةٌ بِفَضْلِ الْعَنْبَرِ وَقَلَّمَا تَكُونُ مِحْنَةُ فَاضِلٍ الا مِنْ جِهَةِ نَاقِصٍ، وَبَلْوَى عَالِمٍ الا عَلَى يَدِ جَاهِلٍ. وَذَلِكَ لِاسْتِحْكَامِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمَا بِالْمُبَايَنَةِ، وَحُدُوثِ الانْتِقَامِ؛ لِأَجَلِ التَّقَدُّمِ. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: فَلاَ غَرْوَ أَنْ يُمْنَى عَلِيمٌ بِجَاهِلِ فَمِنْ ذَنَبِ التِّنِّينِ تَنْكَسِفُ الشَّمْسُ وَمِنْهَا: مَا يَعْتَاضُهُ مِنْ الارْتِيَاضِ بِنَوَائِبِ عَصْرِهِ، وَيَسْتَفِيدُهُ مِنْ الْحُنْكَةِ بِبَلاَءِ دَهْرِهِ، فَيَصْلُبُ عُودُهُ وَيَسْتَقِيمُ عَمُودُهُ، وَيَكْمُلُ بِأَدْنَى شِدَّتِهِ وَرَخَائِهِ، وَيَتَّعِظُ بِحَالَتَيْ عَفْوِهِ وَبَلاَئِهِ. حُكِيَ عَنْ ثَعْلَبٍ قَالَ: دَخَلْت عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ وَعَلَيْهِ خُلَعُ الرِّضَا بَعْدَ النَّكْبَةِ فَلَمَّا مَثُلْت بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لِي: يَا أَبَا الْعَبَّاسِ اسْمَعْ مَا أَقُولُ: نَوَائِبُ الدَّهْرِ أَدَّبَتْنِي وَإِنَّمَا يُوعَظُ الادِيبُ قَدْ ذُقْتُ حُلْوًا وَذُقْتُ مُرًّا كَذَاك عَيْشُ الْفَتَى ضُرُوبُ لَمْ يَمْضِ بُؤْسٌ وَلاَ نَعِيمٌ الا وَلِيَ فِيهِمَا نَصِيبُ كَذَاكَ مَنْ صَاحَبَ اللَّيَالِي تَغْدُوهُ مِنْ دَرِّهَا الْخُطُوبُ فَقُلْت: لِمَنْ هَذِهِ الابْيَاتُ ؟ قَالَ: لِي. وَمِنْهَا: أَنْ يَخْتَبِرَ أُمُورَ زَمَانِهِ، وَيَتَنَبَّهُ عَلَى صَلاَحِ شَأْنِهِ، فَلاَ يَغْتَرُّ بِرَخَاءٍ، وَلاَ يَطْمَعُ فِي اسْتِوَاءٍ، وَلاَ يُؤَمِّلُ أَنْ تَبْقَى الدُّنْيَا عَلَى حَالَةٍ، أَوْ تَخْلُو مِنْ تَقَلُّبٍ وَاسْتِحَالَةٍ، فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ الدُّنْيَا وَخَبَرَ أَحْوَالَهَا هَانَ عَلَيْهِ بُؤْسُهَا وَنَعِيمُهَا.

وَأَنْشَدَ بَعْضُ الادَبَاءِ: إنِّي رَأَيْتُ عَوَاقِبَ الدُّنْيَا فَتَرَكْتُ مَا أَهْوَى لِمَا أَخْشَى فَكَّرْتُ فِي الدُّنْيَا وَعَالَمِهَا فَإِذَا جَمِيعُ أُمُورِهَا تَفْنَى وَبَلَوْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا فَإِذَا كُلُّ امْرِئٍ فِي شَأْنِهِ يَسْعَى أَسْنَى مَنَازِلِهَا وَأَرْفَعُهَا فِي الْعِزِّ أَقْرَبُهَا مِنْ الْمَهْوَى تَعْفُو مَسَاوِيهَا مَحَاسِنَهَا لاَ فَرْقَ بَيْنَ النَّعْيِ وَالْبُشْرَى وَلَقَدْ مَرَرْتُ عَلَى الْقُبُورِ فَمَا مَيَّزْتُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى أَتُرَاكَ تَدْرِي كَمْ رَأَيْتَ مِنْ الاحْيَاءِ ثُمَّ رَأَيْتُهُمْ مَوْتَى فَإِذَا ظَفِرَ الْمُصَابُ بِأَحَدِ هَذِهِ الاسْبَابِ تَخَفَّفَتْ عَنْهُ أَحْزَانُهُ، وَتَسَهَّلَتْ عَلَيْهِ أَشْجَانُهُ، فَصَارَ وَشْيَك السَّلْوَةِ قَلِيلَ الْجَزَعِ حَسَنَ الْعَزَاءِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ حَاذَرَ لَمْ يَهْلَعْ، وَمَنْ رَاقَبَ لَمْ يَجْزَعْ، وَمَنْ كَانَ مُتَوَقِّعًا لَمْ يَكُنْ مُتَوَجِّعًا. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: مَا يَكُونُ الامْرُ سَهْلًا كُلُّهُ إنَّمَا الدُّنْيَا سُرُورٌ وَحُزُونُ هَوِّنْ الامْرَ تَعِشْ فِي رَاحَةٍ قَلَّ مَا هَوَّنْتَ الا سَيَهُونُ تَطْلُبُ الرَّاحَةَ فِي دَارِ الْفَنَا ضَلَّ مَنْ يَطْلُبُ شَيْئًا لاَ يَكُونُ فَإِنْ أَغْفَلَ نَفْسَهُ عَنْ دَوَاعِي السَّلْوَةِ وَمَنَعَهَا مِنْ أَسْبَابِ الصَّبْرِ، تَضَاعَفَ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الاسَى وَهَمِّ الْجَزَعِ مَا لاَ يُطِيقُ عَلَيْهِ صَبْرًا وَلاَ يَجِدُ عَنْهُ سَلْوًا. وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ: إنَّ الْبَلاَءَ يُطَاقُ غَيْرُ مُضَاعَفٍ فَإِذَا تَضَاعَفَ صَارَ غَيْرَ مُطَاقِ فَإِذَا سَاعَدَهُ جَزَعُهُ بِالاسْبَابِ الْبَاعِثَةِ عَلَيْهِ، وَأَمَدَّهُ هَلَعُهُ بِالذَّرَائِعِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ، فَقَدْ سَعَى فِي حَتْفِهِ وَأَعَانَ عَلَى تَلَفِهِ. فَمِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ: تَذَكُّرُ الْمُصَابِ حَتَّى لاَ يَتَنَاسَاهُ، وَتَصَوُّرُهُ حَتَّى لاَ يَعْزُبَ عَنْهُ، وَلاَ يَجِدُ مِنْ التَّذْكَارِ سَلْوَةً، وَلاَ يَخْلِطُ مَعَ التَّصَوُّرِ تَعْزِيَةً. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: لاَ تَسْتَفِزُّوا الدُّمُوعَ بِالتَّذَكُّرِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَلاَ يَبْعَثُ الاحْزَانَ مِثْلُ التَّذَكُّرِ وَمِنْهَا: الاسَفُ وَشِدَّةُ الْحَسْرَةِ فَلاَ يَرَى مِنْ مُصَابِهِ خَلَفًا، وَلاَ يَجِدُ لِمَفْقُودِهِ بَدَلًا، فَيَزْدَادُ بِالاسَفِ وَلَهًا، وَبِالْحَسْرَةِ هَلَعًا.

وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: إذَا بُلِيتَ فَثِقْ بِاَللَّهِ وَارْضَ بِهِ إنَّ الَّذِي يَكْشِفُ الْبَلْوَى هُوَ اللَّهُ إذَا قَضَى اللَّهُ فَاسْتَسْلِمْ لِقُدْرَتِهِ مَا لِامْرِئٍ حِيلَةٌ فِيمَا قَضَى اللَّهُ الْيَأْسُ يَقْطَعُ أَحْيَانًا بِصَاحِبِهِ لاَ تَيْأَسَنَّ فَإِنَّ الصَّانِعَ اللَّهُ وَمِنْهَا: كَثْرَةُ الشَّكْوَى وَبَثُّ الْجَزَعِ. فَقَدْ قِيلَ فِي قوله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا}. إنَّهُ الصَّبْرُ الَّذِي لاَ شَكْوَى فِيهِ وَلاَ بَثَّ. رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {مَا صَبَرَ مَنْ بَثَّ}. وَحَكَى كَعْبُ الاحْبَارِ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ: مَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَشَكَا إلَى النَّاسِ فَإِنَّمَا يَشْكُو رَبَّهُ. وَحُكِيَ أَنَّ أَعْرَابِيَّةً دَخَلَتْ مِنْ الْبَادِيَةِ فَسَمِعَتْ صُرَاخًا فِي دَارٍ فَقَالَتْ: مَا هَذَا ؟ فَقِيلَ لَهَا: مَاتَ لَهُمْ إنْسَانٌ. فَقَالَتْ: مَا أَرَاهُمْ الا مِنْ رَبِّهِمْ يَسْتَغِيثُونَ، وَبِقَضَائِهِ يَتَبَرَّمُونَ، وَعَنْ ثَوَابِهِ يَرْغَبُونَ.

وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: مَنْ ضَاقَ قَلْبُهُ اتَّسَعَ لِسَانُهُ. وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لاَ تُكْثِرْ الشَّكْوَى إلَى الصَّدِيقِ وَارْجِعْ إلَى الْخَالِقِ لاَ الْمَخْلُوقِ لاَ يَخْرُجُ الْغَرِيقُ بِالْغَرِيقِ وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: لاَ تَشْكُ دَهْرَكَ مَا صَحَحْتَ بِهِ إنَّ الْغِنَى هُوَ صِحَّةُ الْجِسْمِ هَبْكَ الْخَلِيفَةَ كُنْتَ مُنْتَفِعًا بِغَضَارَةِ الدُّنْيَا مَعَ السَّقَمِ وَمِنْهَا: الْيَأْسُ مِنْ خَيْرِ مُصَابِهِ، وَدَرَكِ طُلاَبِهِ، فَيَقْتَرِنُ بِحُزْنِ الْحَادِثَةِ قُنُوطُ الايَاسِ فَلاَ يَبْقَى مَعَهَا صَبْرٌ، وَلاَ يَتَّسِعُ لَهَا صَدْرٌ. وَقَدْ قِيلَ: الْمُصِيبَةُ بِالصَّبْرِ أَعْظَمُ الْمُصِيبَتَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ: اصْبِرِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ فَإِنَّ الصَّبْرَ أَحْجَى رُبَّمَا خَابَ رَجَاءٌ وَأَتَى مَا لَيْسَ يُرْجَى وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَتَحْسَبُ أَنَّ الْبُؤْسَ لِلْحُرِّ دَائِمٌ وَلَوْ دَامَ شَيْءٌ عَدَّهُ النَّاسُ فِي الْعَجَبْ لَقَدْ عَرَّفَتْكَ الْحَادِثَاتُ بِبُؤْسِهَا وَقَدْ أُدِّبْتَ إنْ كَانَ يَنْفَعُكَ الادَبْ وَلَوْ طَلَبَ الانْسَانُ مِنْ صَرْفِ دَهْرِهِ دَوَامَ الَّذِي يَخْشَى لاَعْيَاهُ مَا طَلَبْ وَمِنْهَا: أَنْ يَعْرَى بِمُلاَحَظَةِ مِنْ حِيطَتْ سَلاَمَتُهُ وَحُرِسَتْ نِعْمَتُهُ حَتَّى الْتَحَفَ بِالامْنِ وَالدَّعَةِ، وَاسْتَمْتَعَ بِالثَّرْوَةِ وَالسَّعَةِ. وَيَرَى أَنَّهُ قَدْ خُصَّ مِنْ بَيْنِهِمْ بِالرَّزِيَّةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسَاوِيًا، وَأُفْرِدَ بِالْحَادِثَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُكَافِيًا، فَلاَ يَسْتَطِيعُ صَبْرًا عَلَى بَلْوَى، وَلاَ يَلْزَمُ شُكْرًا عَلَى نُعْمَى. وَلَوْ قَابَلَ بِهَذِهِ النَّظْرَةِ مُلاَحَظَةَ مَنْ شَارَكَهُ فِي الرَّزِيَّةِ وَسَاوَاهُ فِي الْحَادِثَةِ لَتَكَافَأَ الامْرَانِ فَهَانَ عَلَيْهِ الصَّبْرُ وَحَانَ مِنْهُ الْفَرَجُ. وَأَنْشَدْتُ لِامْرَأَةٍ مِنْ الْعَرَبِ: أَيُّهَا الانْسَانُ صَبْرًا إنَّ بَعْدَ الْعُسْرِ يُسْرَا كَمْ رَأَيْنَا الْيَوْمَ حُرًّا لَمْ يَكُ بِالامْسِ حُرَّا مَلَكَ الصَّبْرَ فَأَضْحَى مَالِكًا خَيْرًا وَشَرَّا اشْرَبْ الصَّبْرَ وَإِنْ كَانَ مِنْ الصَّبْرِ أَمَرَّا وَأَنْشَدْتُ لِبَعْضِ أَهْلِ الادَبِ: يُرَاعُ الْفَتَى لِلْخَطْبِ تَبْدُو صُدُورُهُ فَيَأْسَى وَفِي عُقْبَاهُ يَأْتِي سُرُورُهُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّيْلَ لَمَّا تَرَاكَمَتْ دُجَاهُ بَدَا وَجْهُ الصَّبَاحِ وَنُورُهُ فَلاَ تَصْحَبَنَّ الْيَأْسَ إنْ كُنْتَ عَالِمًا لَبِيبًا فَإِنَّ الدَّهْرَ شَتَّى أُمُورُهُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَلَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى حَادِثَةٍ وَتَمَاسَكَ فِي نَكْبَةٍ الا أَنَّ انْكِشَافَهَا وَشِيكًا، وَكَانَ الْفَرَجُ مِنْهُ قَرِيبًا. أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَهْلِ الادَبِ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الْكَاتِبَ حُبِسَ فِي السِّجْنِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً حَتَّى ضَاقَتْ حِيلَتُهُ وَقَلَّ صَبْرُهُ فَكَتَبَ إلَى بَعْضِ إخْوَانِهِ يَشْكُو لَهُ طُولَ حَبْسِهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ جَوَابَ رُقْعَتُهُ بِهَذَا: صَبْرًا أَبَا أَيُّوبَ صَبْرٌ مُبَرِّحُ فَإِذَا عَجَزْت عَنْ الْخُطُوبِ فَمَنْ لَهَا إنَّ الَّذِي عَقَدَ الَّذِي انْعَقَدَتْ لَهُ عُقَدُ الْمَكَارِهِ فِيكَ يَمْلِكُ حَلَّهَا صَبْرًا فَإِنَّ الصَّبْرَ يُعْقِبُ رَاحَةً وَلَعَلَّهَا أَنْ تَنْجَلِي وَلَعَلَّهَا فَأَجَابَهُ أَبُو أَيُّوبَ يَقُولُ: صَبَّرْتَنِي وَوَعَظْتَنِي وَأَنَا لَهَا وَسَتَنْجَلِي بَلْ لاَ أَقُولُ لَعَلَّهَا وَيَحُلُّهَا مَنْ كَانَ صَاحِبَ عَقْدِهَا كَرَمًا بِهِ إذْ كَانَ يَمْلِكُ حَلَّهَا فَلَمْ يَلْبَثْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي السَّجْنِ الا أَيَّامًا حَتَّى أُطْلِقَ مُكَرَّمًا. وَأَنْشَدَ ابْنُ دُرَيْدٍ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ: إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الْيَأْسِ الْقُلُوبُ وَضَاقَ لِمَا بِهِ الصَّدْرُ الرَّحِيبُ وَأَوْطَنَتْ الْمَكَارِهُ وَاطْمَأَنَّتْ وَأَرْسَتْ فِي مَكَانَتِهَا الْخُطُوبُ وَلَمْ تَرَ لِانْكِشَافِ الضُّرِّ وَجْهًا وَلاَ أَغْنَى بِحِيلَتِهِ الارِيبُ أَتَاك عَلَى قُنُوطٍ مِنْك غَوْثٌ يَمُنُّ بِهِ اللَّطِيفُ الْمُسْتَجِيبُ وَكُلُّ الْحَادِثَاتِ إذَا تَنَاهَتْ فَمَوْصُولٌ بِهَا الْفَرَجُ الْقَرِيبُ.