فَصـل في النزاع في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏
 
فَصـل
وهذا النزاع في قوله ‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏ ، هل هو خطاب لجنس الكفار ،كما قاله الأكثرون‏؟‏ أو لمن علم أنه يموت كافرًا، كما قاله بعضهم‏؟‏ يتعلق بمسمى ‏[‏الكافر‏]‏ ومسمى ‏[‏المؤمن‏]‏‏.‏
/ فطائفة تقول‏:‏ هذا إنما يتناول من وافي القيامة بالإيمان‏.‏ فاسم المؤمن -عندهم- إنما هو لمن مات مؤمنًا‏.‏ فأما من آمن ثم ارتد فذاك ليس عندهم بإيمان‏.‏
وهذا اختيار الأشعري، وطائفة من أصحاب أحمد، وغيرهم‏.‏ وهكذا يقال‏:‏ الكافر من مات كافرًا‏.‏
وهؤلاء يقولون‏:‏ إن حب الله وبغضه، ورضاه وسخطه، وولايته وعداوته، إنما يتعلق بالموافاة فقط‏.‏ فالله يحب من علم أنه يموت مؤمنًا‏.‏ ويرضى عنه ويواليه بحب قديم وموالاة قديمة‏.‏ ويقولون‏:‏ إن عمر حال كفره كان وليًا لله‏.‏
وهذا القول معروف عن ابن كُلاب ومن تبعه، كالأشعرى وغيره‏.‏
وأكثر الطوائف يخالفونه في هذا، فيقولون‏:‏ بل قد يكون الرجل عدوًا لله ثم يصير وليًا لله، ويكون الله يبغضه ثم يحبه‏.‏ وهذ مذهب الفقهاء والعامة‏.‏ وهو قول المعتزلة، والكرامية، والحنفية قاطبة، وقدماء المالكية، والشافعية، والحنبلية‏.‏
وعلى هـذا يـدل القـرآن، كقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏31‏]‏، ‏{‏وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏7‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 137‏]‏، فوصفهم بكفر بعد إيمان، وإيمان بعد كفر‏.‏ وأخبر عن الذين كفروا أنهم كفار، وأنهم إن انتهوا يغفر لهم ما قد سلف‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمًْ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 55‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 28‏]‏ ‏.‏
وفي الصحيحين في حديث الشفاعة‏:‏ تقول الأنبياء‏:‏ ‏(‏إن ربي قد غضب غضبًا لم يغضب قبله مثله‏.‏ ولن يغضب بعده مثله‏)‏‏.‏
وفي دعاء الحجاج عند الملتزم عن ابن عباس وغيره‏:‏ ‏[‏فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا، وإلا فمن الآن فارض عني‏]‏‏.‏ وبعضهم حذف‏:‏ ‏[‏فارض عني‏]‏، فظن بعض الفقهاء أنه ‏[‏فمن الآن‏]‏ أنه من ‏[‏المن‏]‏‏.‏ وهو تصحيف‏.‏ وإنما هو من حروف الجر كما في تمام الكلام، وإلا فمن الآن فارض عني‏.‏
فبين أنه يزداد رضا، وأنه يرضى في وقت محدود‏.‏ وشواهد هذا كثيرة‏.‏ وهو مبسوط في مواضع‏.‏