فَصـل في نظير القول في‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}
 
فَصـل
ونظير القول في‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏، القولان في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏، فإن للناس في هذه الآية قولين‏:‏
/أحدهما‏:‏ أنها خاصة بمن يموت كافرًا‏.‏ وهذا منقول عن مقاتل، كما قال في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏‏.‏ وكذلك نقل عن الضحاك‏.‏ قالا‏:‏ نزلت في مشركى العرب، كأبي جهل، وأبي طالب، وأبي لهب، ممن لم يسلم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ ونزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته‏.‏
وطائفة من المفسرين لم يذكروا غير هذا القول، كالثعلبى والبغوى وابن الجوزى‏.‏ قال البغوى‏:‏ هذه الآية في أقوام حقت عليهم كلمة الشقاوة في سابق علم الله‏.‏
وقال ابن الجوزي‏:‏ قال شيخنا على بن عبيد الله‏:‏ وهذه الآية وردت بلفظ العموم والمراد بها الخصوص؛ لأنها آذنت بأن الكفار حين إنذارهم لا يؤمنون، وقد آمن كثير من الكفار عند إنذارهم‏.‏ ولو كانت على ظاهرها في العموم لكان خبر الله بخلاف مخبره، فلذلك وجب نقلها إلى الخصوص‏.‏
والقول الثاني ‏:‏ أن الآية على مقتضاها، والمراد بها أن الإنذار وعدمه سواء بالنسبة إلى الكافر ما دام كافرًا ، لا ينفعه الإنذار ولا يؤثر فيه، كما قيل مثــل ذلك في الآيات‏:‏ إنها غير موجبة للإيمان‏.‏ وقد جمع بينهمــا في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 101‏]‏‏.‏
/فالآيات أفقية، وأرضية، وقرآنية، وهي أدلة العلم‏.‏ والإنذار يقتضى الخوف‏.‏ فالآيات لمن إذا عرف الحق عمل به، فهذا تنفعه الحكمة‏.‏ والإنذار لمن يعرف الحق وله هوى يصده فينذر بالعذاب الذي يدعوه إلى مخالفة هواه، وهو خوف العذاب‏.‏ وهذا هو الذي يحتاج إلى الموعظة الحسنة‏.‏ وآخر لا يقبل الحق فيحتاج إلى الجدل، فيجادل بالتي هي أحسن‏.‏
وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 111‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 45‏]‏، ‏{‏إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 11‏]‏‏.‏
فالمراد أن الكافر ما دام كافرًا لا يقبل الحق سواء أنذر أم لم ينذر، ولا يؤمن ما دام كذلك؛ لأن على قلبه وسمعه وبصره موانع تصد عن الفهم والقبول‏.‏ وهكذا حال من غلب عليه هواه‏.‏
هو -سبحانه- لم يقل‏:‏ ‏[‏إنهم لا يؤمنون‏]‏‏.‏ وقيل ذلك لمن سبقت عليه الشقوة، أو حقت عليه الكلمة، كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 96، 97‏]‏، فبين أن هؤلاء لا يؤمنون إلا حين لا ينفعهم إيمانهم وقت / رؤية العذاب الأليم، كإيمان فرعون المذكور قبلها‏.‏ وموسى قد دعا عليه فقال‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 88، 89‏]‏‏.‏
وأما إذا أطلق -سبحانه- الكفار فهو مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ‏}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏:‏ 111‏]‏، فبين أنهم قد يؤمنوا إذا شاء‏.‏
وآية البقرة مطلقة عامة‏.‏ فإنه ذكر في أول السورة أربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وبضع عشرة آية في المنافقين‏.‏ فبين حال الكافر المصر على كفره أن الإنذار لا ينفعه للحجب التي على قلبه وسمعه وبصره‏.‏ وليس قال‏:‏ إن الله لا يهدي أحدًا من هؤلاء، فيسمع ويقبل‏.‏ ولكن هو حين يكون كافرًا لا تتناوله الآية‏.‏ وهذا كما يقال في الكافر الحربي‏:‏لا يجوز أن تعقد له الذمة، ولا يكون قط من أهل دار الإسلام ما دام حربيًا‏.‏
فالكفار ما داموا كفارًا هم بهذه المثابة لهم موانع تمنعهم من الإيمان كما أن للمنافقين موانع تمنعهم ما داموا كذلك، وإن أنذروا‏.‏ وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 171‏]‏، فهذا مثل كل كافر ما دام كافرًا‏.‏
/وذلك لا يمنع أن يكونوا قد يسمعون إذا زال الغطاء الذي على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، فإنهم لا يسمعون لذلك المعني المشتق منه، وهو الكفر‏.‏ فما داموا هذه حالهم فهم كذلك، ولكن تغير الحال ممكن، كما قال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ‏}‏، وكما هو الواقع‏.‏
ومثل هذا يفيد أن الإنسان لا يعتقد أنه بدعائه وإنذاره وبيانه يحصل الهدى، ولو كان أكمل الناس، وأن الداعي ـ وإن كان صالحًا ناصحًا مخلصًا ـ فقد لا يستجيب المدعو؛ لا لنقص في الدعاء، لكن لفساد في المدعو‏.‏
وهذا لأن حصول المطلوب متوقف على فعل الفاعل وقبول القابل، كالسيف القاطع يؤثر بشرط قبول المحل فيه ـ لا يقطع الحجارة والحديد ونحو ذلك‏.‏ والنفخ يؤثر إذا كان هناك قابل ـ لا يؤثر في الرماد‏.‏
والدعاء، والتعليم، والإرشاد‏.‏ وكل ما كان من هذا الجنس، له فاعل وهو المتكلم بالعلم والهدى والنذارة، وله قابل وهو المستمع‏.‏ فإذا كان المستمع قابلا حصل الإنذار التام، والتعليم التام، والهدى التام‏.‏ وإن لم يكن قابلا قيل‏:‏ علمته فلم يتعلم، وهديته فلم يهتد، وخاطبته فلم يصغ، ونحو ذلك‏.‏
/ فقوله في القرآن‏:‏ ‏{‏هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏، هو من هذا‏.‏ إنما يهتدى من يقبل الاهتداء، وهم المتقون، لا كل أحد‏.‏ وليس المراد أنهم كانوا متقين قبل اهتدائهم، بل قد يكونوا كفارًا‏.‏ لكن إنما يهتدى به من كان متقيًا‏.‏ فمن اتقى الله اهتدى بالقرآن‏.‏ والعلم والإنذار إنما يكون بما أمر به القرآن‏.‏
وهكذا قوله‏:‏ ‏{‏لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 70‏]‏، الإنذار التام، فإن الحى يقبله‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 70‏]‏، فهم لم يقبلوا الإنذار‏.‏
ومثله قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 45‏]‏‏.‏
وعكسه قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏ أي‏:‏ كل من ضل به فهو فاسق‏.‏ فهو ذم لمن يضل به، فإنه فاسق‏.‏ ليس أنه كان فاسقًا قبل ذلك‏.‏
ولهذا تأولها سعد بن أبي وقاص في الخوارج، وسماهم ‏[‏فاسقين‏]‏؛ لأنهم ضلوا بالقرآن‏.‏ فمن ضل بالقرآن فهو فاسق‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏، من هذا الباب‏.‏ والتقدير‏:‏ من ختم على قبله وجعل على سمعه وبصره غشاوة فسواء عليك أنذرته أم لم تنذره هو لا يؤمن، أي‏:‏ ما دام كذلك ، / ولكن هذا قد يزول‏.‏
وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 45‏]‏، وحرزًا للأميين‏.‏ أنت عبدى ورسولى، سميتك ‏[‏المتوكل‏]‏، لست بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق‏.‏ ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر‏.‏ ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، فأفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صما، وقلوبًا غلفًا‏.‏
وقد قال‏:‏ ‏{‏لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 6، 7‏]‏، فدل على أن بعضهم يؤمنون‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 8 ـ 11‏]‏ فهذا هو الإنذار التام، وهو الإنذار الذي يقبله المنذر وينتفع به‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏ هو أصل الإنذار، كما يقال في البليد والمشغول الذهن بأمور الدنيا والشهوات‏:‏ سواء عليك أعلمته أم لم تعلمه لا يتعلم ولا يقبل الهدى، ويقال في الذكى الفارغ‏:‏ إنما يتعلم مثل هذا‏.‏ ثم المشغول قد يتفرغ‏.‏ وقد يصلح ذهن بعد فساده‏.‏ ويفسد بعد صلاحه لفساد قلبه وصلاحه‏.‏
وعلى هذا القول أكثر تفسير السلف، كما ذكره ابن إسحاق، وقد رواه ابن أبي حاتم وغيره‏.‏ قال ابن إسحاق، حدثنى محمد بن أبي / محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏، أي‏:‏ بما أنزل إليك، وإن قالوا‏:‏ إنا قد آمنا بما جاءنا قبلك، ‏{‏سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏، أي‏:‏ إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق فقد كفروا بما جاءك وبما عندهم مما جاءهم به غيرك‏.‏ فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا‏؟‏
فقد تبين أنهم لا يسمعون الإنذار؛ لكفرهم بما عندهم وما جاءهم من الحق‏.‏ ومعلوم أن منهم خلقًا تابوا بعد ذلك وآمنوا‏.‏
وروى عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال‏:‏ آيتان في قادة الأحزاب‏:‏‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏ قال‏:‏ هم الذين ذكرهم الله في هذه الآية‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 28‏]‏‏.‏
قلت‏:‏ جعلهم قادة الأحزاب لكونهم أضلوا الأتباع فأحلوهم دار البوار‏.‏ والأحزاب يوم الخندق قد أسلم عامة قادتها، وحسن إسلامهم، مثل عكْرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، وأبي سفيان‏.‏ وهؤلاء أسلم منهم من أسلم عام الفتح، وهم الطلقاء‏.‏ ومنهم من أسلم قبل ذلك‏.‏ والحزب الآخر غَطَفَان، وقد أسلموا أيضًا‏.‏
/ والآية لابد أن تتناول كفار أهل الكتاب،كما قال ابن إسحاق‏.‏ فإن السورة مدنية،وإن تناولت مع ذلك المشركين‏.‏فهي تعم كل كافر‏.‏ومقاتل،والضحاك يخصاها ببعض مشركى العرب‏.‏ وابن السائب يقول‏:‏ هي إنما نزلت في اليهود،منهم حيى بن أخْطَب‏.‏وكذلك ما ذكره ابن إسحاق،عن ابن عباس، أنها في اليهود، وأبو العالية يقول‏:‏ إنها نزلت في قادة الأحزاب‏.‏
والآية تعم هؤلاء كلهم وغيرهم، كما أن آيات المؤمنين والمنافقين كان سبب نزولها المؤمنين والمنافقين الموجودين وقت النزول، وهي تعمهم وغيرهم من المؤمنين والمنافقين إلى قيام الساعة‏.‏
والمقصود أن قوله‏:‏ ‏{‏سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏، كقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 52، 53‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 42، 43‏]‏‏.‏
وكل هذا فيه بيان أن مجرد دعائك وتبليغك وحرصك على هداهم ليس موجب ذلك، وإنما يحصل ذلك إذا شاء الله هداهم فشرح صدورهم للإسلام، كما قال تعالى‏:‏‏{‏إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 37‏]‏، ففيه تعزية لرسوله صلى الله عليه وسلم، وبينت الآية له أن تبليغك وإن لم يهتدوا به ففيه مصالح عظيمة غير ذلك‏.‏
وفيه بيان أن الهدى هدى الله‏.‏ فـ ‏{‏مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 17‏]‏، وقد قال له‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏‏.‏ ففيه تقرير التوحيد، وتقرير مقصود الرسالة‏.‏
وهو ـ سبحانه ـ أخبر عمن لا يؤمن فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 96، 97‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 6‏]‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 7‏]‏‏.‏ فخص في هذه الآية، وفي تلك‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ‏}‏‏.‏ وهم الذين حق عليهم القول، أي‏:‏ حق عليهم ما قاله الله ـ سبحانه ـ وكتبه، وقدره‏.‏ فجعل الموجب هو التقدير السابق، وهو قوله‏.‏
والقول وإن كان قد يكون خبرًا مجردًا بما سيكون، وقد يكون قولا يتضمن أشياء كاليمين المتضمنة للحض والمنع، فقد ذكر في مواضع تقديم اليمين، كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 13‏]‏، ونحو ذلك‏.‏
/ فهو خبر عما قاله، أو قاله وكتبه‏.‏ وهو التقدير الذي يتضمن أنه قدر ما يفعله، وعلمه، وكتبه، كما تظاهرت النصوص بأن الله قدّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة‏.‏ والقدر تضمن علمه بما سيكون، ومشيئته لوجود ما قدره وعلم أن سيخلقه‏.‏
والقول قد يكون خبرًا، وقد يكون فيه معني الطلب ـ الحض والمنع ـ بالقسم، وإما لكتابته على نفسه، كقوله‏:‏ ‏{‏كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 54‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 47‏]‏، وقوله‏:‏ ‏(‏ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا‏)‏‏.‏
وأما قوله‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 71‏]‏، فهذا مختص بالكفار‏.‏ وهو الوعيد المتضمن الجزاء على الأعمال، كما قال تعالى لإبليس‏:‏ ‏{‏لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 85‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 129‏]‏ أي‏:‏ إن عذابهم له أجل مسمى، إما يوم القيامة، وإما في الدنيا كيوم بدر، وإما عقب الموت ـ وقد ذكر في الآية الأقوال الثلاثة‏.‏ فلولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لكان العذاب لزامًا، أي‏:‏ لازمًا لهم‏.‏ فإن المقتضي له قائم تام، وهو كفرهم‏.‏
/ وأما إذا أطلق القول على الكفار من غير تقييد، فإنه لايريد من لا يؤمن منهم‏.‏ فإن اللفظ لايدل على ذلك البتة‏.‏
وأيضًا، فإن هذا لا فائدة فيه، إذ كان أولئك غير معروفين، وإنما هم طائفة قد حق عليهم القول، وهم لايتميزون من غيرهم‏.‏ بل هو مأمور بإنذار الجميع، وفيهم من يؤمن ومن لا يؤمن‏.‏ فذكر اللفظ العام - وإرادة أولئك دون غيرهم ـ ليس فيه بيان للمراد الخاص‏.‏ وذكر المعني الذي أوجب أنهم لا يؤمنون قط، ولا فيه تعليق الحكم بالمعني العام‏.‏ وكلام الله ـ تعالى ـ يصان عن مثل ذلك‏.‏
وما ذكر من الموانع هي موجودة في كل من لم يقبل الإنذار، سواء كان كافرًا، أو منافقًا أو فاسقًا أو غير ذلك، لسبب يوجب ذلك، فيمتنع قبول الإنذار بسبب الموانع‏.‏ ولكن هذه الموانع قد تزول، فإنها ليست لازمة لكل كافر‏.‏
وإذا كان المانع ما سبق من القول الذي حق عليهم فقد لا يزول أبدًا، كما قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 96، 97‏]‏‏.‏
وقد يذكر هذا وهذا‏.‏
/ وأمـا إذا اقتصر على ذكـر الموانـع التي فيهم، ولم يذكر مـا سـبق من القول، فهذه الموانع يرجى زوالها ويمكن، ما لم يذكر معها ما يقتضى امتناع تغير حالهم وحصول الهدى‏.‏