فصل في إذا علم أن بعض القرآن أفضل من بعض ـ تتمة ـ
 

وأما قول من قال‏:‏ إن هذا في شخص بعينه، ففي غاية الفساد لفظًا ومعنى، ثم إن اللّه إنما يخص الشيء المعين بحكم يخصه لمعنى يختص به كما قال لأبي بُرْدَة بن نِيارٍـ وكان قد ذبح في العيد قبل الصلاة ـ قبل أن يشرع لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الذبح يكون بعد الصلاة، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نذبح، فمن ذبح قبل الصلاة فليعد، فإنما هي شاة لحم قدمها لأهله‏)‏ ذكر له أبو بردة أنه ذبح قبل الصلاة، ولم يكن يعرف أن ذلك لايجوز، وذكر له أن عنده عناقًا خيرًا من جذعة فقال‏:‏ ‏(‏تجزي عنك ولا تجزي عن أحد بعدك‏)‏، فخصه بهذا الحكم؛ لأنه كان معذورًا في ذبحه قبل الصلاة، إذ فعل ذلك قبل شرع الحكم، /فلميكن ذلك الذبح منهيًا عنه بعد، مع أنه لميكن عنده إلا هذا السن‏.‏ وأما أمره لامرأة أبي حذيفة بن عتبة أن ترضع سالمًا مولاه خمس رضعات ليصير لها محرمًا، فهذا مما تنازع فيه السلف‏:‏ هل هو مختص، أو مشترك، وإذا قيل‏:‏ هذا لمن يحتاج إلى ذلك ـ كما احتاجت هي إليه ـ كان في ذلك جمع بين الأدلة‏.‏
وبالجملة، فالشارع حكيم لا يفرق بين متماثلين إلا لاختصاص أحدهما بما يوجب الاختصاص، ولايسوي بين مختلفين غير متساويين، بل قد أنكر ـ سبحانه ـ على من نسبه إلى ذلك وقبح منيحكم بذلك، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ًامْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 21‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 35 ‏:‏36‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 43‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أولي الْأَبْصَارِ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 2‏]‏، وإنما يكون الاعتبار إذا سوى بين المتماثلين، وأما إذا قيل‏:‏ ليس الواقع كذلك، فلا اعتبار‏.‏
وقد تنازع الناس في هذا الأصل، وهو أنه هل يخص بالأمر/والنهي مايخصه لا لسبب ولا لحكمة قط، بل مجرد تخصيص أحد المتماثلين على الآخر‏؟‏ فقال بذلك جهم بن صفوان ومن وافقه من الجبرية، ووافقهم كثير من المتكلمين المثبتين للقدر‏.‏ وأما السلف وأئمة الفقه والحديث والتصوف وأكثر طوائف الكلام المثبتين للقدر ـ كالكرَّامية وغيرهم ونفاته كالمعتزلة وغيرهم ـ فلا يقولون بهذا الأصل، بل يقولون‏:‏ هو ـ سبحانه ـ يخص مايخص من خلقه وأمره لأسباب ولحكمة له في التخصيص، كما بسط الكلام على هذا الأصل في مواضع‏.‏
وكذلك قول من قال‏:‏ يضعف لقارئها مقدار ما يعطاه قارئ ثلث القرآن بلا تضعيف، قول لايدل عليه الحديث، ولا في العقل مايدل عليه، وليس فيه مناسبة ولا حكمة، فإن النص أخبر أن قراءتها تعدل ثلث القرآن، وأن من قرأها فكأنما قرأ ثلث القرآن، فإن كان في هذا تضعيف، ففي هذا تضعيف، وإن لميكن في هذا تضعيف لميكن في الآخر، فتخصيص أحدهما بالتضعيف تحكم‏.‏ ثم جعل التضعيف بقدر ثلث القرآن إنما هو لما اختصت به السورة من الفضل، وحينئذ ففضلها هو سبب هذا التقدير من غير حاجة إلى نقص ثواب سائر القرآن‏.‏ وأيضًا، فهذا تحكم محض لا دليل عليه ولا سبب يقتضيه ولا حكمة فيه‏.‏ والناس كثيرًا ما يغلطون من جهة نقص علمهم وإيمانهم بكلام اللّه ورسوله وقدر ذلك، وما اشتمل عليه /ذلك من العلم الذي يفوق علم الأولين والآخرين‏.‏
ومن علم أن الرسول أعلم الخلق بالحق وأفصح الخلق في البيان وأنصح الخلق للخلق، علم أنه قد اجتمع في حقه كمال العلم بالحق وكمال القدرة على بيانه وكمال الإرادة له، ومع كمال العلم والقدرة والإرادة يجب وجود المطلوب على أكمل وجه، فيعلم أن كلامه أبلغ مايكون، وأتم مايكون، وأعظم مايكون بيانًا لما بينه في الدين من أمور الإلهية وغير ذلك، فمن وقر هذا في قلبه، لميقدر على تحريف النصوص بمثل هذه التأويلات التي إذا تدبرت وجد من أرادها بذلك القول من أبعد الناس عما يجب اتصاف الرسول به، وعلم أن من سلك هذا المسلك، فإنما هو لنقص ما أوتيه من العلم والإيمان، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فنسأل اللّه أنيجعلنا وإخواتنا ممن رفع درجاته من أهل العلم والإيمان‏.‏
وإذ قـد تبـين ضعف هـذه الأقوال ـ غير القـول الأول الذي نصرنـاه وهو قول ابن سُرَيج وغيره كالمهلب والأصيلي وغيرهما ـ فنقول‏:‏ قد علم أن تفاضل القرآن وغيره من كلام اللّه ليس باعتبار نسبته إلى المتكلم؛ فإنه ـ سبحانه ـ واحد، ولكن باعتبار معانيه التي يتكلم بها، وباعتبار ألفاظه المبينة لمعانيه‏.‏ والذي قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه فَضَّل من السور سورة الفاتحة وقال‏:‏ ‏(‏إنه لم ينزل في/التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها‏)‏‏.‏ والأحكام الشرعية تدل على ذلك، وقد بسط الكلام على معانيها في غير هذا الموضع‏.‏ وفَضَّل من الآيات آية الكرسي، وقال في الحديث الصحيح لأبي بن كعب‏:‏ ‏(‏أتدري أي آية في كتاب اللّه معك أعظم‏؟‏ ‏)‏ قال‏:‏ ‏{‏اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، فضرب بيده في صدره وقال ‏(‏ليهنك العلم أبا المنذر‏)‏، وليس في القرآن آية واحدة تضمنت ما تضمنته آية الكرسي، وإنما ذكر اللّه في أول سورة الحديد وآخر سورة الحشر عدة آيات لا آية واحدة‏.‏
وسنـبين ـ إن شاء اللّه ـ أنه إذا كانت ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏، تعدل ثلث القـرآن لم يلزم مـن ذلك أنها أفضـل مـن الفاتحـة، ولا أنها يكتفي بتلاوتها ثلاث مرات عـن تـلاوة القـرآن، بل قـد كره السلف أن تقرأ إذا قرئ القرآن كله إلا مرة واحدة كما كتبت في المصحف، فإن القـرآن يقرأ كما كتب في المصحف، لايزاد على ذلك ولاينقص منـه، والتكبير المأثـور عـن ابن كثير ليس هـو مسـندًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسنده أحـد إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا البَزِّي، وخـالف بذلك سائر مـن نقله فإنهم إنما نقلوه اختيارًا ممن هـو دون النبي صلى الله عليه وسلم وانفـرد هـو برفعـه، وضعفه نقلة أهل العلم بالحديث والرجال من علماء القـراءة وعلماء الحديث، كما ذكر ذلك غير/واحد من العلماء‏.‏ فالمقصود أن من السنة في الـقرآن أن يقرأ كما في المصاحف، ولكن إذا قرئت ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏، مفردة تقرأ ثلاث مرات وأكثر من ذلك، ومن قرأها فله من الأجر مايعدل ثلث أجر القرآن، لكن عدل الشيء ـ بالفتح ـ يكون من غير جنسه كما سنذكره ـ إن شاء اللّه‏.‏
والثواب أجناس مختلفة، كما أن الأموال أجناس مختلفة من مطعوم ومشروب وملبوس ومسكون ونقد وغير ذلك‏.‏ وإذا ملك الرجل من أحد أجناس المال مايعدل ألف دينار ـ مثلا ـ لميلزم من ذلك أن يستغني عن سائر أجناس المال، بل إذا كان عنده مال وهو طعام، فهو محتاج إلى لباس ومسكن وغير ذلك‏.‏ وكذلك إن كان من جنس غير النقد، فهو محتاج إلى غيره، وإن لم يكن معه إلا النقد، فهو محتاج إلى جميع الأنواع التي يحتاج إلى أنواعها ومنافعها‏.‏ والفاتحة فيها من المنافع ثناء ودعاء ممايحتاج الناس إليه ما لا تقوم ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ مقامه في ذلك، وإن كان أجرها عظيمًا، فذلك الأجر العظيم إنماينتفع به صاحبه مع أجر فاتحة الكتاب؛ ولهذا لو صلى بها وحدها بدون الفاتحة، لم تصح صلاته، ولو قدر أنه قرأ القرآن كله إلا الفاتحة لم تصح صلاته؛ لأن معاني الفاتحة فيها الحوائج الأصلية التي لابد للعباد منها‏.‏ وقد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع، وبين أن ما في الفاتحة من الثناء/والدعاء وهو قول‏:‏ ‏{‏اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عليهمْ غَيرِ المَغضُوبِ عليهمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6 ‏:‏7‏]‏، هو أفضل دعاء دعا به العبد ربه، وهو أوجب دعاء دعا به العبد ربه، وأنفع دعاء دعا به العبد ربه، فإنه يجمع مصالح الدين والدنيا والآخرة، والعبد دائما محتاج إليه لايقوم غيره مقامه، فلو حصل له أجر تسعة أعشار القرآن ـ دع ثلثه ـ ولم يحصل له مقصود هذا الدعاء، لم يقم مقامه ولم يسد مسده‏.‏
وهذا كما لو قدر أن الرجل تصدق بصدقات عظيمة، وجاهد جهادًا عظيمًا، يكون أفضل من قراءة القرآن مرات، وهو لم يصل ذلك اليوم الصلوات الخمس لم يقم ثواب هذه الأعمال مقام هذه، كما لو كان عند الرجل من الذهب والفضة والرقيق والحيوان والعقار أموال عظيمة، وليس عنده ما يتغدى به ويتعشى من الطعام، فإنه يكون جائعًا متألمًا فاسد الحال، ولايقوم مقام الطعام الذي يحتاج إليه تلك الأموال العظيمة؛ ولهذا قال الشيخ أبو مدين ـ رحمه اللّه‏:‏ أشرف العلوم علم التوحيد، وأنفع العلم أحكام العبيد‏.‏ فليس الأفضل الأشرف هو الذي ينفع في وقت، بل الأنفع في كل وقت مايحتاج إليه العبد في ذلك الوقت، وهو فعل ما أمر اللّه به وترك ما نهي اللّه عنه؛ ولهذا يقال‏:‏ المفضول في مكانه وزمانه أفضل من الفاضل؛ إذ دل الشرع على أن الصلاة أفضل من القراءة، والقراءة أفضل من الذكر، والذكر أفضل من /الدعاء، فهذا أمر مطلق‏.‏
وقد تحرم الصلاة في أوقات، فتكون القراءة أفضل منها في ذلك الوقت‏.‏ والتسبيح في الركوع والسجود هو المأمور به، والقراءة منهي عنها، ونظائر هذا كثيرة‏.‏ فهكذا يعلم الأمر في فضل ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ وغيرها، فقراءة الفاتحة في أول الصلاة أفضل من قراءتها، بل هو الواجب، والاجتزاء بها وحدها لايمكن، بل تبطل معه الصلاة؛ ولهذا وجب التقرب بالفرائض، قبل النوافل، والتقرب بالنوافل إنما يكون تقربًا إذا فعلت الفرائض لا كما ظنه بعض الاتحادية كصاحب ‏[‏الفتوحات المكية‏]‏ ونحوه، من أن قرب الفرائض تكون بعد قرب النوافل‏!‏ والنوافل تجعل الحق غطاءه، وتلك تجعل الحق عينه، فهذا بناء على أصله الفاسد من الاتحاد، كما بين‏.‏
وبين أن الحديث يناقض مذهبه من وجوه، كما رواه البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يقول اللّه‏:‏ من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولايزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، /وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه‏)‏‏.‏
وقد بين في هذا الحديث أن المتقرب ليس هو المتقرَّب إليه، بل هو غيره، وأنه ما تقرب إليه عبده بمثل أداء المفروض، وأنه لايزال بعد ذلك يتقرب بالنوافل حتى يصير محبوبًا للّه، فيسمع به، ويبصر به، ويبطش به، ويمشي به، ثم قال‏:‏ ‏(‏ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه‏)‏‏.‏ ففرق بين السائل والمسؤول، والمستعيذ والمستعاذ به، وجعل العبد سائلًا لربه مستعيذًا به‏.‏ وهذا حديث شريف جامع لمقاصد عظيمة ليس هذا موضعها، بل المقصود هنا الكلام على ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏
وقـد بينا أن أحسـن الوجـوه أن معاني القـرآن ثلاثـة أنواع‏:‏ توحيد، وقصص، وأحكام‏.‏ وهـذه السـورة ـ صفـة الرحمن ـ فيها التـوحيـد وحـده؛ وذلك لأن القـرآن كـلام اللّه‏.‏ والكـلام نوعـان‏:‏ إمـا إنشاء، وإمـا إخبار، والإخبار إمـا خـبر عن الخالق، وإمـا خبر عـن المخلـوق‏.‏ فالإنشاء هـو الأحكام كالأمـر والنهي‏.‏ والخـبر عـن المخلـوق هـو القصص‏.‏ والخـبر عـن الخـالق هـو ذكر أسمائـه وصفاتـه‏.‏ وليس في القـرآن سـورة هي وصـف الرحمـن محضًا إلا هـذه السـورة‏.‏ وفي الصحيـحـين عـن عائشـة ـ رضي اللّه تعالى عنها‏:‏ أن رسـول اللّه صلى الله عليه وسلم بعث رجـلًا على سـريـة، /فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏سلوه‏:‏ لأي شيء يصنع ذلك‏)‏ فسألوه، فقال‏:‏ لأنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأ بها‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أخبروه أن الله يحبه‏)‏‏.‏
وقال البخاري في باب ‏[‏الجمع بين السورتين في ركعة‏]‏‏:‏ وقال عبيد الله، عن ثابت، عن أنس‏:‏ كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، فكان كلما افتتح سورة يقرأ لهم بها في الصلاة مما يقرأ به، افتتح بـ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ حتى يفرغ منها، ثم يقرأ بسورة أخرى معها، فكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه وقالوا‏:‏ إنك تفتتح بهذه السورة ثم لا ترى أنها تجزيك حتى تقرأ بأخرى‏.‏ فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعها وتقرأ بأخرى، فقال‏:‏ ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت، وإن كرهتم ذلك تركتكم‏.‏ وكانوا يرون أنه من أفضلهم، وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر، فقال‏:‏ ‏(‏يا فلان، ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك‏؟‏ وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة‏؟‏‏)‏‏.‏ قال‏:‏ إني أحبها‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏حبك إياها أدخلك الجنة‏)‏‏.‏ وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنها تعدل ثلث القرآن‏)‏ حق كما أخبر به، فإنه صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق الذي لا ينطـق عن الهوى، لم يخرج من بين شفتيه إلا حق‏.‏
/والذين أشكل عليهم هذا القول لهم مأخذان‏:‏
أحدهما‏:‏ منع تفاضل كلام الله بعضه على بعض، وقد تبين ضعفه‏.‏
الثاني‏:‏ اعتقادهم أن الأجر يتبع كثرة الحروف، فما كثرت حروفه من الكلام يكون أجره أعظم‏.‏ قالوا‏:‏ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول‏:‏ الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف‏)‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث صحيح‏.‏ قالوا‏:‏ ومعلوم أن ثلث القرآن حروفه أكثر بكثير، فتكون حسناته أكثر‏.‏
فيقال لهم‏:‏ هذا حق كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الحسنات فيها كبار وصغار، والنبي صلى الله عليه وسلم مقصوده أن الله يعطي العبد بكل حسنة عشر أمثالها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 160‏]‏، فإذا قرأ حرفًا، كان ذلك حسنة، فيعطيه بقدر تلك الحسنة عشر مرات، لكن لم يقل‏:‏ إن الحسنات في الحروف متماثلة‏.‏ كما أن من تصدق بدينار يعطي بتلك الحسنة عشر أمثالها‏.‏ والواحد من بعد السابقين الأولين لو أنفق مثل أحــد ذهبًا ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهو إذا أنفق مدًا كان له بهذه الحسنة عشر أمثالها، ولكن/ لا تكون تلك الحسنة بقدر حسنة من أنفق مدًا من الصحابة السابقين‏.‏ ونظائر هذا كثيرة‏.‏ فكذلك حروف القرآن تتفاضل لتفاضل المعاني وغير ذلك‏.‏ فحروف الفاتحة له بكل حرف منها حسنة أعظم من حسنات حـروف مـن ‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ‏}‏، وإذا كان الشيء يعـدل غـيره، فعـدل الشيء ـ بالفتح ـ هو مساويه، وإن كان من غير جنسه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏، والصيام ليس من جنس الطعام والجزاء ولكنه يعادله في القدر‏.‏ وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 123‏]‏، أي‏:‏ فدية‏.‏ والفدية ما يعدل بالمفدي وإن كان من غير جنسه ‏{‏ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 1‏]‏ أي‏:‏ يجعلون له عدلًا، أي‏:‏ ندًا في الإلهية، وإن كانوا يعلمون أنه ليس من جنس الرب سبحانه‏.‏
ولو كان لرجل أموال من أصناف متنوعة، ولآخر ذهب بقدر ذلك، لكان مال هذا يعدل مال هذا وإن لم يكن من جنسه، ولهذا قد يكون عند الرجل من الذهب وغيره من الأموال ما يعدل شيئا عظيمًا، وإذا احتاج إلى دواء أو مركب أو مسكن أو نحو ذلك ولم يكن قادرًا على اشترائه، لم تنفعه تلك الأموال العظيمة‏.‏ فالقرآن يحتاج الناس إلى ما فيه من الأمر والنهي والقصص، وإن كان التوحيد أعظم من ذلك‏.‏ وإذا احتاج الإنسان إلى معرفة ما أمر به وما نهى عنه من الأفعال، أو/ احتاج إلى ما يؤمر به ويعتبر به من القصص والوعد والوعيد لم يسد غيره مسده، فلا يسد التوحيد مسد هذا، ولا تسد القصص مسد الأمر والنهي، ولا الأمر والنهي مسد القصص، بل كل ما أنزل الله ينتفع به الناس ويحتاجون إليه‏.‏
فإذا قرأ الإنسان‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ حصل له ثواب بقدر ثواب ثلث القرآن، لكن لا يجب أن يكون الثواب من جنس الثواب الحاصل ببقية القرآن، بل قد يحتاج إلى جنس الثواب الحاصل بالأمر والنهي والقصص، فلا تسد ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏، مسد ذلك، ولا تقوم مقامه، فلهذا لو لم يقرأ‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏، فإنه وإن حصل له أجر عظيم، لكن جنس الأجر الذي يحصل بقراءة غيرها لا يحصل له بقراءتها، بل يبقي فقيرًا محتاجًا إلى ما يتم به إيمانه من معرفة الأمر والنهي والوعد والوعيد ولو قام بالواجب عليه‏.‏ فالمعارف التي تحصل بقراءة سائر القرآن لا تحصل بمجرد قراءة هذه السورة، فيكون من قرأ القرآن كله أفضل ممن قرأها ثلاث مرات من هذه الجهة لتنوع الثواب، وإن كان قارئ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏، ثلاثًا يحصل له ثواب بقدر ذلك الثواب، لكنه جنس واحد ليس فيه الأنواع التي يحتاج إليها العبد، كمن معه ثلاثة آلاف دينار وآخر معه طعام ولباس ومساكن ونقد يعدل ثلاثة آلاف دينار، فإن هذا معه ما ينتفع به في جميع أموره، وذاك محتاج إلى ما مع هذا، وإن كان ما معه يعدل ما مع هذا، وكذلك لو كان معه/طعام من أشرف الطعام يساوي ثلاثة آلاف دينار، فإنه محتاج إلى لباس ومساكن، وما يدفع به الضرر من السلاح والأدوية وغير ذلك مما لا يحصل بمجرد الطعام‏.‏
ومما ينبغي أن يعلم‏:‏ أن فضل القراءة والذكر والدعاء والصلاة وغير ذلك قد يختلف باختلاف حال الرجل، فالقراءة بتدبر أفضل من القراءة بلا تدبر، والصلاة بخشوع وحضور قلب أفضل من الصلاة بدون ذلك‏.‏ وفي الأثر‏:‏ ‏(‏إن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدًا وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض‏)‏‏.‏ وكان بعض الشيوخ يرقي بــ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏، وكان لها بركة عظيمة، فيرقي بها غيره فلا يحصل ذلك فيقول‏:‏ ليس ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ من كل أحد تنفع كل أحد‏.‏
وإذا عرف ذلك، فقد يكون تسبيح بعض الناس أفضل من قراءة غيره، ويكون قراءة بعض السور من بعض الناس أفضل من قراءة غيره لــ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ وغيرها‏.‏ والإنسان الواحـد يختلف ـ أيضًا ـ حـاله، فقـد يفعـل العمل المفضول على وجه كامل، فيكون به أفضل من سائر أعمالـه الفاضلة‏.‏ وقـد غفـر الله لبغي لسَقْيها الكلب، كما ثبت ذلك في الصحيحين، وهـذا لِمَا حصـل لها في ذلك العمل مـن الأعمال القلبيـة وغيرهـا‏.‏ وقـد ينفق الرجل أضعاف ذلك فلا يغفر له؛ لعدم الأسباب المزكية للعمل، فإن الله إنما يتقبـل من المتقين‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم /في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه‏)‏ يقوله عن أصحابه السابقين الأولين ـ رضي الله عنهم‏.‏
فإذا قيل‏:‏ إن ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏، يعدل ثوابها ثواب ثلث القرآن، فلابد من اعتبار التماثل في سائر الصفات، وإلا فإذا اعتبر قراءة غيرها مع التدبر والخشوع بقراءتها مع الغفلة والجهل، لم يكن الأمر كذلك، بل قد يكون قول العبد‏:‏ ‏(‏سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر‏)‏ مع حضور القلب واتصافه بمعانيها أفضل من قراءة هذه السورة مع الجهل والغفلة، والناس متفاضلون في فهم هذه السورة، وما اشتملت عليه، كما أنهم متفاضلون في فهم سائر القرآن‏.‏