تنازع الذين قالوا‏:‏ كلام الله غير مخلوق
 
والمقصود هنا أن الذين قالوا‏:‏ كلام الله غير مخلوق، تنازعوا / بعد ذلك على هذه الأقوال، مع أن أكثر الذين قالوا بعض هذه الأقوال لا يعلمون ما قال غيرهم، بل غاية ما عند أئمتهم المصنفين في هذا الباب معرفة قولين أو ثلاثة أو أربعة من هذه الأقوال ـ كقول المعتزلة والكُلاَّبية والسالمية والكرامية ـ ولا يعرفون أن في الإسلام من قال سوى ذلك، ويصنف أحدهم كتابًا كبيرًا في ‏[‏مقالات الإسلاميين‏]‏ وفي ‏[‏الملل والنحل‏]‏، ويذكر عامة الأقوال المبتدعة في هذا الباب، والقول المأثور عن السلف والأئمة لا يعرفه ولا ينقله، مع أن الكتاب والسنة مع المعقول الصريح لا يدل إلا عليه، وكل ما سواه أقوال متناقضة كما بسط في موضعه‏.‏
والقصد هنا أن من كان عنده أن قول المعتزلة مثلًا، أو قول المعتزلة والكرامية، أو قول هؤلاء وقول الكلابية، أو قول هؤلاء وقول السالمية، هو باطل من أقوال أهل البدع، لم يبق عنده قول أهل السنة إلا القول الآخر الذي هو ـ أيضًا ـ من الأقوال المبتدعة المخالفة لصريح المعقول وصحيح المنقول، فيفرع على ذلك القول ما يضيفه إلى السنة، ثم إذا تدبر نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف، وجدها تخالف ذلك القول أصلًا وفرعًا، كما وقع لمن أنكر فضل ‏[‏فاتحة الكتاب‏]‏ و ‏[‏آية الكرسي‏]‏ و‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ على غيرها من القـرآن، فإن عمـدتهم مـا قدمته من الأصل الفاسد‏.‏ أما كون الكلام واحدًا، فلا يتصـور فيه/تفاضل ولا تماثل ولا تعدد‏.‏ وأما كون صفات الرب لا تتفاضل ـ وربما قالوا‏:‏ القـديم لا يتفاضل، وهـو مـن جنس قـول الجهمية والمعتزلة ونحوهم‏:‏ القديم لا يتعدد، فهذا لفظ مجمل، فإن القديم إذا أريد به رب العالمين، فرب العالمين إله واحد لا شريك له، وإذا أريد به صفاته، فمن قال‏:‏ إن صفات الرب لا تتعدد، فهو يقول‏:‏ العلم هو القدرة، والقدرة هي الإرادة، والسمع والبصر هو العلم‏.‏ وقد يقول بعضهم أيضا‏:‏ العلم هو الكلام‏.‏ ويقول آخرون‏:‏ العلم والقدرة هو الإرادة، ثم قد يقولون‏:‏ إن الصفة هي الموصوف، فالعلم هو العالم، والقدرة هي القادر‏.‏ وهذه الأقوال صرح بها نفاة الصفات من الفلاسفة والجهمية ونحوهم كما حكيت ألفاظهم في غير هذا الموضع‏.‏ ومعلوم أن في هذه الأقوال من مخالفة المعقول الصريح والمنقول الصحيح ـ بل مخالفة المعلوم بالاضطرار للعقلاء‏.‏ والمعلوم بالاضطرار من دين الإسلام ودين الرسل ـ ما يبين أنها في غاية الفساد شرعًا وعقلًا‏.‏
ثم إن هؤلاء تأولوا نصوص الكتاب والسنة بتأويلات باطلة، منهم من قال‏:‏ المراد بكونه أعظم وأفضل وخيرًا كونه عظيما في نفسه، وامتنع هؤلاء من إجراء التفضيل عليه‏.‏ وحكي هذا عن الأشعري وابن الباقلاني وجماعة غيرهما‏.‏ ومعلوم أن من تدبر ألفاظ الكتاب والسنة، تبين له أنها لا تحتمل هذا المعنى، بل هو من نوع القرمطة، فإن الله/ـ تعالى ـ يقول‏:‏ ‏{‏نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأُبي‏:‏ ‏(‏أتدري أي آية معك في كتاب الله أعظم‏؟‏‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏لأعلمنك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها‏)‏، إلى غير ذلك مما تقدم ذكره‏.‏
ومنهم من قال‏:‏ بل المراد بقوله‏:‏ ‏{‏بِخَيْرٍ مِّنْهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏، أي‏:‏ خير منها لكم، أي‏:‏ أكثر ثوابًا أو أقل تعبًا، وقال‏:‏ ما دل على أن بعضه أفضل من بعض، فليس هو تفضيـلًا لنفس الكـلام، بل لمتعلقه‏.‏ وهو أن تلاوة هذا والعمل به يحصل به من الأجر أكثر مما يحصـل بالآخـر‏.‏ فيقال لهـؤلاء‏:‏ ما ذكرتموه حجة عليكم، مع ما فيه من مخالفة النص‏.‏ وذلك أن كـون الثـواب على أحد القولين أو الفعلين أكثر منه على الثاني، إنما كان لأنه في نفسه أفضل؛ ولهذا إنما تنطق النصوص بفضل القول والعمل في نفسه، كما قد سئل النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة‏:‏ أي العمل أفضل‏؟‏ فيجيب بتفضيل عمل على عمل، وذلك مستلزم لرجحان ثوابه‏.‏ وأما رجحان الثواب مع تماثل العملين، فهذا مخالف للشرع والعقل‏.‏
وكذلك الكلام، ففي صحيح مسلم، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أفضل الكلام بعد القرآن أربع ـ وهن من القرآن ـ سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر‏)‏، /فأخبر أنها أفضل الكلام بعد القرآن مع كونها من القرآن، ففضل نفس هذه الأقوال بعد القرآن على سواها‏.‏ وكذلك في صحيح مسلم أنه سئل‏:‏ أي الكلام أفضل‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏ما اصطفى الله لملائكته‏:‏ سبحان الله وبحمده‏)‏‏.‏ وفي الموطأ وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي‏:‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير‏)‏، فأخبر أن هذا الكلام أفضل ما قاله هو والنبيون من قبله‏.‏ وفي سنن ابن ماجة عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏أفضل الذكر‏:‏ لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء‏:‏ الحمد لله‏)‏، وقد رواه ابن أبي الدنيا‏.‏ وفي الصحيحين أنه قال‏:‏ ‏(‏الإيمان بضع وستون ـ أو وسبعون ـ شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله‏)‏‏.‏ ومثل هذا كثير في النصوص يفضل العمل على العمل، والقول على القول، ويعلم من ذلك فضل ثواب أحدهما على الآخر‏.‏
أمـا تفضيل الثـواب بدون تفضيل نفس القول والعمل، فلم يرد به نقل ولا يقتضيه عقـل، فـإنه إذا كان القولان متماثلين من كل وجه، أو العملان متماثلين من كل وجه، كـان جعل ثـواب أحدهما أعظم مـن ثـواب الآخـر ترجيحًا لأحـد المتماثلين على الآخـر بلا مرجـح‏.‏ وهـذا أصل قول القدرية والجهمية الذين يقولون‏:‏ إن القادر يرجح أحد مقدوريه بـلا مرجـح، وظنـوا أنهم بهـذا الأصـل ينصرون الإسلام، فلا للإسلام/نصروا، ولا لعـدوه كسروا، بل تسلط عليهم سلف الأمـة وأئمتها بالتبديع والتضليل والتكفير والتجهيـل، وتسلط عليهم خصـومهم الدهـرية وغـيرهم بإلزامهم مخالفـة المعقـول، وجعلـوا ذلك ذريعة إلى الزيادة في مخالفة المشروع والمعقول كما جـرى للملحدين مع المبتدعين‏.‏
وأيضًا، فقول القائل‏:‏ إنه ليس بعض ذلك خيرًا من بعض بل بعضه أكثر ثوابًا، رد لخبر الله الصريح، فإن الله يقول‏:‏ ‏{‏نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏، فكيف يقال‏:‏ ليس بعضه خيرًا من بعض‏؟‏ وإذا كان الجميع متماثلًا في نفسه، امتنع أن يكون فيه شيء خيرًا مـن شيء‏.‏ وكون معنى الخير أكثر ثوابا مع كونه متماثلا في نفسه، أمر لا يدل عليه اللفظ حقيقة ولا مجازًا، فـلا يجـوز حمله عليه، فـإنه لا يعرف قط أن يقال‏:‏ هذا خير من هـذا وأفضل مـن هـذا مع تساوي الذاتين بصفاتهما مـن كل وجـه، بل لابد ـ مع إطـلاق هـذه العبارة ـ مـن التفاضل ولو ببعض الصفات، فأما إذا قدر أن مختارًا جعـل لأحـدهما مع التماثل مـا ليس للآخـر مع استوائهما بصفاتهما مـن كـل وجه، فهذا لا يعقل وجوده، ولو عقل لم يقل‏:‏ إن هذا خير من هذا أو أفضل لأمر لا يتصف به أحدهما البتة‏.‏
وأيضا، ففي الحديث الصحيح أنه قال في الفاتحة‏:‏ ‏(‏لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها‏)‏، فقد صرح الرسول/ بأن الله لم ينزل لها مثلًا، فمن قال‏:‏ إن كل ما نزل من كلام الله فهو مثل لها من كل وجه، فقد ناقض الرسول في خبره‏.‏
وأيضا، فقـد تقـدم قولـه‏:‏ ‏{‏أَحْسَنَ الْحَدِيثِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏، ومع تماثـل كل حديث لله، فليس القرآن أحسن من التوراة والإنجيل‏.‏ وكذلك تقدم ما خص الله به القرآن من الأحكام‏.‏
فإن قيل‏:‏ نحن نسلم لكم أن الله خص بعض كلامه من الثواب والأحكام بما لا يشركه فيه غيره، لكن هذا عندنا بمحض مشيئته، لا لاختصاص ذلك الكلام بوصف امتاز به عن الآخر، قيل‏:‏ أولًا‏:‏ هذا مخالف لصريح نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة مع مخالفته الصريح المعقول، ثم هذا مبني على أصل الجهمية والقدرية، وهو أن القادر المختار يرجح أحد يتكلم ولا أن يفعل، ثم صار الكلام والفعل ممكنًا من المتماثلين على الآخر بلا مرجح‏.‏ وهؤلاء لما جوزوا هذا قالوا‏:‏ إن الرب لم يزل معطلًا، وما كان يمكن في الأزل أن غير حدوث شيء، اقتضى انتقالهما من الامتناع إلى الإمكان، وقالوا‏:‏ إن القادر المرجح يرجح بلا مرجح‏.‏
ثم قـالت الجهمية‏:‏ والعبـد ليس بقادر في الحقيقـة، فـلا يرجح شيئا، بل الله هو الفاعل لفعله، وفعله هو نفس فعل الرب‏.‏ وقالت/القدرية‏:‏ العبد قادر تام القدرة يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا سبب حادث، ولا حاجة إلى أن يحدث اللّه ما به يختص به فعل أحدهما، بل هو ـ مع أن نسبته إلى الضدين‏:‏ الإيمان والكفر سواء ـ يرجح أحدهما بلا مرجح لا من اللّه ولا من العبد، ولا يفتقر إلى إعانة اللّه ولا إلى أن يجعله شائيًا، ولا يجعله يقيم الصلاة، ولا يجعله مسلمًا‏.‏ ومعلوم بالعقول خلاف هذا، واللّه ـ تعالى ـ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لكن المدح في هذا الكلام معناه أنه مطلق المشيء ة لا معوق له إذا أراد شيئًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يقولن أحدكم‏:‏ اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، فإن اللّه لا مُكْرِه له‏)‏‏.‏ فبين صلى الله عليه وسلم أنه لا يفعل إلا بمشيئته، ليس له مكره حتى يقال له‏:‏ افعل إن شئت، ولا يفعل إن لم يشأ‏.‏
فهو ـ سبحانه ـ إذا أراد شيئًا؛ كان قادرًا عليه لا يمنعه منه مانع‏.‏ لا يعني بذلك أنه يفعل لمجرد مشيء ة ليس معها حكمة، بل يفعل عندهم ما وجود فعله وعدمه بالنسبة إليه سواء من كل وجه، فإن هذا ليس بمدح، بل المعقول من هذا أنه صفة ذم، فمن فعل لمجرد إرادته الفعل من غير حكمة لفعله ولا تضمن غاية مجردة كان ألا يفعل خيرًا له‏.‏ وقد ذم اللّه ـ سبحانه ـ في كتابه من نسبه إلى هذا فقال تعالى‏:‏ /‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 27‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتعالى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ‏}‏
‏[‏المؤمنون‏:‏ 115، 116‏]‏، قال المفسرون‏:‏ العبث‏:‏ أن يعمل عملًا لا لحكمة، وهو جنس من اللعب‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 16، ، 17‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 36‏]‏‏.‏ قال المفسرون وأهل اللغة‏:‏ السدي‏:‏ المهمل الذي لا يؤمر ولا ينهى، كالذي يترك الإبل سدى مهملة‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 73‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ‏}‏
‏[‏الحجر 85،86‏]‏‏.‏
وقد بين ـ سبحانه ـ الفرق بين ما أمر به وما نهى عنه، وبين مــن يحمــده ويكرمــه من أوليائه، ومن يذمه ويعاقبه من أعدائه، وأنهم مختلفـون لا يجوز التسوية بينهما، وجعل خلاف ذلك من المنكر الذي لا مساغ له، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏[‏الحجر:‏ 85 ،86]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 82‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ًامْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 21‏]‏، فبين أن هذا الحكم سيئ في نفسه ليس الحكم به مساويًا للحكم بالتفاضل‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ‏}‏
‏[‏الجاثية‏:‏ 22‏]‏، فأخبر أنه خلق الخلق ليجزي كل نفس بما كسبت، وأنه لا يظلم أحدًا فينقص من حسناته شيئا، بل كما قال‏:‏ ‏{‏وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏‏.‏
وقد نزه نفسه في غير موضع من القرآن أن يظلم أحدًا من خلقه، فلا يؤتيه أجره أو يحمل عليه ذنب غيره، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 112‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 28، ، 29‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ‏}‏
‏[‏هود 100،101‏]‏، وفي الحديث الصحيح الإلهي‏:‏ ‏(‏ياعبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا‏)‏‏.‏ وما تزعمه القدرية من أن تفضيل بعض عباده على بعض بفضله وإحسانه من باب الظلم جهل منهم، وكذلك جزاؤهم بأعمالهم التي جري/ بها القدر ليس بظلــم، فـــإن الواحد من الناس إذا عاقبه غيـره بسيئاته وانتصـف للمظلـــوم من الظالم، لم يكن ذلك ظلمًا منه باتفاق العقلاء، بل ذلـك أمر محمـــود منه، ولا يقول أحد‏:‏ إن الظالم معذور لأجل القدر‏.‏ فرب العالمين إذا أنصف بعض عباده من بعض وأخذ للمظلومين حقهم من الظالمين، كيف يكون ذلك ظلمًا منه لأجل القدر‏؟‏ ‏!‏ وكذلك الواحد من العباد إذا وضع كل شيء موضعه، فجعل الطيب مع الطيب في المكان المناسب له، وجعل الخبيث مع الخبيث في المكان المناسب له، كان ذلك عدلا منه وحكمة، فرب العالمين إذا وضع كل شيء موضعه ولم يجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، ولم يجعل المتقين كالفجار، ولا المسلمين كالمجرمين، والجنة طيبة لا يصلح أن يدخلها إلا طيب؛ ولهذا لا يدخلها أحد إلا بعد القصاص الذي ينظفهم من الخبث، كما ثبت في الصحيح، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن المؤمنين إذا عبروا الجسر - وهو الصراط المنصوب على متن جهنم ـ فإنهم يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، فإذا هذبوا ونقوا؛ أذن لهم في دخول الجنة‏)‏، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع‏.‏
والمقصود هنا أن ما يقوله القدرية من الظلم والعدل الذي يقيسون به الرب على عباده من بدعهم التي ضلوا بها وخالفوا بها الكتاب والسنة/وإجماع سلف الأمة ـ وكذلك مـن قابلهـم ـ فنفي حكمة الرب الثابتة في خلقه وأمره وما كتبه على نفسه من الرحمة، وما حرمه على نفسه من الظلم، وما جعله للمخلوقات والمشروعات من الأسباب التي شهد بها النص مع العقل والحس، واتفق عليها سلف الأمة وأئمة الدين، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 57‏]‏، ونحو ذلك، فإن هذه الأقاويل أصلها مأخوذ من الجهم بن صفوان ـ إمام غلاة المجبرة ـ وكان ينكر رحمة الرب، ويخرج إلى الجذمي فيقول‏:‏ أرحم الراحمين يفعل مثل هذا‏؟‏ ‏!‏ يريد بذلك أنه ما ثم إلا إرادة رجح بها أحد المتماثلين بلا مرجح، لا لحكمة ولا رحمة‏.‏
ولهذا كان الذين وافقوه على قوله من المنتسبين إلى مذهب أهل السنة والجماعة يتناقضون؛ لأنهم إذا خاضوا في الشرع احتاجوا أن يسلكوا مسالك أئمة الدين في إثبات محاسن الشريعة وما فيها من الأمر بمصالح العباد، وما ينفعهم من النهي عن مفاسدهم وما يضرهم، وأن الرسول الذي بعث بها بعث رحمة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏، وقد وصفه اللّه - تعالى ـ بقوله‏:‏ ‏{‏وَرَحْمتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ‏}‏
‏[‏الأعراف‏:‏ 156، 157‏]‏، فأخبر أنه يأمر بما هو معروف وينهى عما هو منكر، ويحل ما هو طيب ويحرم ما هو خبيث‏.‏
ولو كان المعروف لا معنى له إلا المأمور به، والمنكر لا معنى له إلا ما حرم، لكان هذا كقول القائل‏:‏ يأمرهم بما يأمرهم وينهاهم عما ينهاهم، ويحل لهم ما أحل لهم ويحرم عليهم ما حرم عليهم‏.‏ وهذا كلام لا فائدة فيه، فضلًا عن أن يكون فيه تفضيل له على غيره‏.‏ ومعلوم أن كل من أمر بأمر يوصف بذلك، وكل نبي بعث فهذه حاله‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 160‏]‏، فَعُلِم أن الطيب وصف للعين، وأن اللّه قد يحرمهـا مع ذلك عقوبة للعباد، كما قال ـ تعالى ـ لما ذكر ما حرمه على بني إسرائيل‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 4‏]‏ فلو كان معنى الطيب هو ما أحل، كان الكلام لا فائدة فيه، فعلم أن الطيب والخبيث وصف قائم بالأعيان‏.‏
وليس المراد به مجرد التِذَاذ الأكــل، فإن الإنسان قد يلتذ بما يضره من السموم وما يحميه الطبيب منــه، ولا المراد بـه التِذَاذ طائفة من الأمم كالعرب، ولا كون العرب تعودته، فـــإن مجرد كون أمـة من الأمـــم تعودت أكله وطاب لها، أو كرهته لكونه ليس في بلادهـــا لا/ يوجب أن يحـــرم اللّه على جميع المؤمنـين ما لم تعتده طباع هؤلاء، ولا أن يحــل لجميع المؤمنين ما تعودوه‏.‏ كيف وقد كانت العرب قد اعتادت أكل الدم والميتة وغير ذلك وقد حرمه اللّه ـ تعالى‏؟‏ ‏!‏ وقد قـيــل لبعض العــــرب‏:‏ ما تأكلون‏؟‏ قال‏:‏ ما دب ودرج، إلا أم حبين‏.‏ فقال‏:‏ ليهن أم حبين العافيـــة‏.‏ ونفس قـــريش كانــــوا يأكلون خبائث حرمها اللّه، وكانوا يُعَافُون مطاعــــم لم يحرمها اللّه‏.‏ وفي الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قدم له لحــم ضَبٍّ فرفـــع يده ولم يأكــل، فقيل‏:‏ أحرام هو يارسول اللّه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا، ولكنــه لم يكن بأرض قومـــي فأجدني أعافه‏)‏‏.‏ فعلــــم أن كراهة قريش وغيرها لطعام من الأطعمة لا يكون موجبًا لتحريمه على المؤمنين من سائر العرب والعجم‏.‏
وأيضًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يحـرم أحد منهم ما كرهته العرب، ولم يبح كل ما أكلتـــه العرب، وقولــه تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏، إخبار عنه أنـــه سيفعــل ذلك، فأحل النبي صلى الله عليه وسلم الطيبات وحرم الخبائث مثل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، فإنها عادية باغية، فإذا أكلها الناس ـ والغاذي شبيه بالمغتذي ـ صار في أخلاقهم شوب من أخلاق هذه البهائم وهو البغي والعدوان، كما حرم الدم المسفوح؛ لأنه مجمع قوى النفس الشهوية الغضبية، وزيادته توجب طغيان هذه القوى وهو/مجرى الشيطان من البدن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم‏)‏‏.‏ ولهذا كان شهر رمضان إذا دخل صفدت الشياطين؛ لأن الصوم جنة‏.‏
فالطيبات التي أباحها هي المطاعم النافعة للعقول والأخلاق، والخبائث هي الضارة للعقول والأخلاق، كمــا أن الخمـــر أم الخبائث؛ لأنها تفســد العقول والأخلاق، فأباح اللّه للمتقين الطيبات التي يستعينـــون بها على عبـــادة ربهم التي خلقوا لها، وحرم عليهـــم الخبائث التي تضــرهم في المقصــود الــذي خلقوا له، وأمرهم مع أكلهــا بالشكر، ونهاهم عن تحريمها، فمن أكلها ولم يشكر ترك ما أمر اللّه به واستحق العقوبة‏.‏ ومن حرمها ـ كالرهبان ـ فقد تعدى حدود اللّه فاستحق العقوبة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 172‏]‏، وفي الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن اللّه ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها‏)‏، وفي حديث آخر‏:‏ ‏(‏الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏ 8‏]‏ أي‏:‏ عن شكره، فإنه لا يبيح شيئا ويعاقب من فعله، ولكن يسأله عن الواجب الذي أوجبه معه وعما حرمه عليه‏:‏ هل فرط بترك مأمور أو فعل محظور، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ‏}‏
‏[‏المائدة‏:‏ 87‏]‏، فنهاهم عن تحريم الطيبات‏.‏ كما كان طائفة من الصحابة قد عزموا على الترهب، فأنزل اللّه هذه الآية‏.‏ وفي الصحيحين أن رجالًا من الصحابة قال أحدهم‏:‏ أما أنا فأصوم لا أفطر‏.‏ وقال آخر‏:‏ أما أنا فأقوم لا أنام‏.‏ وقال آخر‏:‏ أما أنا فلا أقرب النساء‏.‏ وقال آخر‏:‏ أما أنا فلا آكل اللحم‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما بال رجال يقول أحدهم كذا وكذا‏.‏ ‏.‏ لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني‏)‏‏.‏ ولبسط هذه الأمور موضع آخر‏.‏
والمقصود هنا أن اللّه بين في كتابه وعلى لسان رسوله حكمته في خلقه وأمره كقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلًا‏}‏
‏[‏الإسراء‏:‏ 32‏]‏، فعلل التحريم بأنها فاحشة بدون النهي، وأن ذلك علة للنهي عنها، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏، فذكر براءته من هذا على وجه المدح له بذلك وتنزيهه عن ذلك، فدل على أن من الأمور ما لا يجوز أن يضاف إلى اللّه الأمر به، ليست الأشياء كلها مستوية في أنفسها ولا عنده، وأنه لا يخصص المأمور على المحظور لمجرد التحكم، بل يخصص المأمور بالأمر والمحظور بالحظر لما اقتضته حكمته‏.‏
/وقد تدبرت عامة ما رأيته من كلام السلف ـ مع كثرة البحث عنه، وكثرة ما رأيته من ذلك ـ هل كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان أو أحد منهم على ما ذكرته مـن هـذه الأقوال التي وجدتها في كتب أهل الكلام ـ من الجهمية والقدرية ومن تلقى ذلك عنهم ـ مثل دعوى الجهمية أن الأمور المتماثلة يأمر اللّه بأحدها وينهى عن الآخر لا لسبب ولا لحكمة، أو أن الأقوال المتماثلة والأعمال المتماثلة من كل وجه يجعل اللّه ثواب بعضها أكثر من الآخر بلا سبب ولا حكمة، ونحو ذلك مما يقولونه، كقولهم‏:‏ إن كلام اللّه كله متماثل، وإن كان الأجر في بعضه أعظم، فما وجدت في كلام السلف ما يوافق ذلك، بل يصرحون بالحكم والأسباب، وبيان ما في المأمور به من الصفات الحسنة المناسبة للأمر به، وما في المنهي عنه من الصفات السيئة المناسبة للنهي عنه، ومن تفضيل بعض الأقوال والأعمال في نفسها على بعض، ولم أر عن أحد منهم قط أنه خالف النصوص الدالة على ذلك، ولا استشكل ذلك، ولا تأوله على مفهومه، مع أنه يوجد عنهم في كثير من الآيات والأحاديث استشكال واشتباه، وتفسيرها على أقوال مختلفة قد يكون بعضها خطأ‏.‏ والصواب هو القول الآخر، وما وجدتهم في مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأُبي‏:‏ ‏(‏أي آية في كتاب اللّه أعظم‏؟‏‏)‏، وقوله في الفاتحة‏:‏ ‏(‏لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها‏)‏، /ونحو ذلك إلا مقرين لذلك قائلين بموجبه‏.‏