فصل في أن التولد لابد له من أصلين
 
فصل
والمقصود هنا أن التولد لابد له من أصلين، وإن ظن ظَانٌّ أن نفس الهواء الذي بين الزنادين يستحيل نارًا بسخونته من غير مادة تخرج منهما تنقلب نارًا فقد غلط؛ وذلك لأنه لا تخرج نار إن لم يخرج منهما مادة بالحك، ولا تخرج النار بمجرد الحك‏.‏
وأيضًا، فإنهم يقـدحون على شيء أسفل مـن الزنادين كالصُّوفَان والحِـَراق فتنزل النار عليه، وإنما ينزل الثقيـل، فلولا أن هناك جزءًا ثقيلًا من الزناد الحديد والحَجَرِ لما نزلت النار، ولو كـان الهـواء وحده انقلب نارًا لم ينزل؛ لأن الهواء طبعه الصعود لا الهبوط، لكن بعد أن تنقلب المادة الخارجة نارًا قد ينقلب الهواء القريب منها نارا، إما دُخَانًا وإما لهيبًا‏.‏
/والمقصود أن المتولدات خلقت من أصلين، كما خلق آدم من التراب والماء، وإلا فالتراب المحض الذي لم يختلط به ماء لا يخلق منه شيء، لا حيوان ولا نبات، والنبات جميعه إنما يتولد من أصلين ـ أيضًا ـ والمسيح خلق من مريم ونفخة جبريل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 21‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 91‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 17‏:‏ 19‏]‏‏.‏
وقد ذكر المفسرون أن جبريل نفخ في جيب درعها‏.‏والجَيْبُ‏:‏ هو الطوق الذي في العنق، ليس هو ما يسميه بعض العامة‏:‏ جيبًا، وهو ما يكون في مقدم الثوب لوضع الدراهم ونحوها‏.‏وموسى لما أمره اللّه أن يدخل يده في جيبه، هو ذلك الجيب المعروف في اللغة‏.‏وذكر أبو الفرج وغيره قولين‏:‏ هل كانت النفخة في جيب الدرع أو في الفرج‏؟‏ فإن من قال بالأول قال‏:‏ في فرج درعها، وإن من قال‏:‏ هو مخرج الولد قال‏:‏ الهاء كناية عن غير مذكور؛ لأنه إنما نفخ في درعها، لا في فرجها، وهذا ليس بشيء، بل هو عدول عن صريح القرآن‏.‏وهذا النقل إن كان ثابتًا لم يناقض القرآن، وإن لم يكن ثابتا لم يلتفت إليه؛ فإن من نقل أن جبريل نفخ في جيب الدرع، فمراده أنه صلى الله عليه وسلم لم/ يكشف بدنها، وكذلك جبريل كان إذا أتي النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة متجردة لم ينظر إليها متجردة، فنفخ في جيب الدرع فوصلت النفخة إلى فرجها‏.‏
والمقصود إنما هو النفخ في الفرج، كما أخبر اللّه به في آيتين، وإلا فالنفخ في الثوب فقط من غير وصول النفخ إلى الفرج مخالف للقرآن، مع أنه لا تأثير له في حصول الولد، ولم يقل ذلك أحد من أئمة المسلمين، ولا نقله أحد عن عالم معروف من السلف‏.‏
والمقصود هنا أن المسيح خلق من أصلين‏:‏ من نفخ جبريل، ومن أمه مريم، وهذا النفخ ليس هو النفخ الذي يكون بعد مضي أربعة أشهر والجنين مضغة؛ فإن ذلك نفخ في بدن قد خلق، وجبريل حين نفخ لم يكن المسيح خلق بعد، ولا كانت مريم حملت، وإنما حملت به بعد النفخ بدليل قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 19‏]‏، ‏{‏فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 22‏]‏‏.‏فلما نفخ فيها جبريل حملت به؛ ولهذا قيل في المسيح‏:‏ ‏{‏وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏، باعتبار هذا النفخ‏.‏وقد بين اللّه ـ سبحانه ـ أن الرسول الذي هو روحه، وهو جبريل، هو الروح الذي خاطبها، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا‏}‏، فقوله ‏{‏فَنَفَخْنَا فِيهَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 91‏]‏ أو‏:‏ ‏{‏فِيهِ مِن رُّوحِنَا‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 12‏]‏، أي‏:‏ من هذا الروح الذي هو جبريل، وعيسى روح من هذا الروح، فهو روح من اللّه بهذا /الاعتبار، ومن لابتداء الغاية‏.‏
والمقصود هنا أنه قد يكون الشيء من أصلين بانقلاب المادة التي بينهما إذا التقيا؛ كان بينهما مادة فتنقلب؛ وذلك لقوة حك أحدهما بالآخر فلابد من نقص أجزائها، وهذا مثل تولد النار بين الزنادين إذا قدح الحجر بالحديد، أو الشجر بالشجر، كالمرخ والعفار، فإنه بقوة الحركة الحاصلة من قدح أحدهما بالآخر يستحيل بعض أجزائهما، ويسخن الهواء الذي بينهما فيصير نارًا، والزندان كلما قدح أحدهما بالآخر نقصت أجزاؤهما بقوة الحك، فهذه النار استحالت عن الهواء وتلك الأجزاء بسبب قدح أحد الزندين بالآخر‏.‏
وكذلك النور الذي يحصل بسبب انعكاس الشعاع على ما يقابل المضيء، كالشمس والنار، فإن لفظ النور والضوء يقال تارة على الجسم القائم بنفسه، كالنار التي في رأس المصباح، وهذه لا تحصل إلا بمادة تنقلب نارًا كالحطب والدُّهْنِ، ويستحيل الهواء ـ أيضًا ـ نارًا، ولا ينقلب الهواء ـ أيضًا ـ نارًا إلا بنقص المادة التي اشتعلت، أو نقص الزندين‏.‏وتارة يراد بلفظ النور والضوء والشعاع‏:‏ الشعاع الذي يكون على الأرض والحيطان من الشمس، أو مـن النار، فهـذا عرض ليس بجسم قائم بنفسـه، لابـد له مـن محـل يقـوم بـه يكـون قابـلًا له، فلابـد في الشعاع مـن جسم مضيء، ولابـد مـن شيء يقابله حتى ينعكس عليه الشعاع‏.‏
/وكذلك النار الحاصلة في ذبالة المصباح إذا وضعت في النار، أو وضع فيها حطب؛ فإن النار تحيل أولًا المادة التي هي الدُّهْن أو الحطب، فيسخن الهواء المحيط بها فينقلب نارًا، وإنما ينقلب بعد نقص المادة‏.‏وكذلك الريح التي تحرك النار مثل ما تهب الريح فتشتعل النار في الحطب‏.‏ومثل ما ينفخ في الكِير وغيره تبقي الريح المنفوخة تضرم النار؛ لما في محل النار كالخشب والفحم من الاستعداد لانقلابه نارًا، وما في حركة الريح القوية من تحريك النار إلى المحل القابل له، وقد ينقلب ـ أيضًا ـ الهواء القريب من النار، فإن اللهب هو الهواء انقلب نارًا، مثل مافي ذبالة المصباح؛ ولهذا إذا طفئت صار دُخَانًا، وهو هواء مختلط بنار كالبخار، وهو هواء مختلط بماء، والغبار هواء مختلط بتراب‏.‏
وقد يسمى البخار دُخَانًا، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏‏.‏قال المفسرون‏:‏ بخار الماء، كما جاءت الآثار‏:‏ ‏(‏إن الله خلق السموات من بخار الماء‏)‏ وهو الدخان، فإن الدخان‏:‏ الهواء المختلط بشيء حار، ثم قد لا يكون فيه ماء، وهو الدخان الصِّرْف‏.‏ وقد يكون فيه ماء، فهو دخان، وهو بخار كبخار القدر‏.‏وقد يسمي الدخان بخارًا، فيقال لمن استجمر بالطيب‏:‏ تبخر، وإن كان لا رطوبة هنا، بل دخان الطيب سمي بخارًا‏.‏قال الجوهري‏:‏ بخار الماء‏:‏ ما يرتفع منه كالدخان، والبَخُور ـ بالفتح ـ‏:‏ ما يتبخر به؛ لكن إنما يصير الهواء نارًا /بعد أن تذهب المادة التي انقلبت نارًا، كالحطب والدهن، فلم تتولد النار إلا من مادة، كما لم يتولد الحيوان إلا من مادة‏.‏