فصل في الذين كانوا يقولون من العرب‏:‏ إن الملائكة بنات الله،وما نقل عنهم من أنه صاهر الجن
 
فصل
وأما الذين كانوا يقولون من العرب‏:‏ إن الملائكة بنات الله، وما نقل عنهم من أنه صاهر الجن، فولدت له الملائكة فقد نفاه الله عنه بامتناع الصاحبة، وبامتناع أن يكون منه جزء فإنه صمد، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 101‏]‏‏.‏ وهذا كما تقدم من أن الولادة لا تكون إلا من أصلين سواء في ذلك تولد الأعيان التي تسمي الجواهر، وتولد الأعراض والصفات، بل ولا يكون تولد الأعيان إلا بانفصال جزء من الوالد‏.‏فإذا امتنع أن يكون له صاحبة امتنع أن يكون له ولد، وقد علموا كلهم ألا صاحبة له لا من الملائكة ولا من الجن ولا من الإنس، فلم يقل أحد منهم‏:‏ إن له صاحبـة؛ فلهذا احتج بذلك عليهم‏.‏وما حكي عن بعض كفار العرب‏:‏ أنه صاهر الجن، فهذا فيه نظر، وذلك إن/كان قد قيل، فهو مما يعلم انتفاؤه من وجوه كثيرة، وكذلك ما قالته النصارى‏:‏ من أن المسيح ابن الله، وما قاله طائفة من اليهود‏:‏ إن العزير ابن الله، فإنه قد نفاه ـ سبحانه ـ بهذا وبهذا‏.‏
فـإن قيل‏:‏ أما عـوام النصارى، فـلا تنضبط أقوالهم، وأمـا الموجـود في كـلام علمائهم وكتبهم، فإنهم يقولون‏:‏ إن أقنوم الكلمة، ويسمونها الابن تَدَرَّع المسيح، أي‏:‏ اتخذه درعًا، كما يتدرع الإنسان قميصه، فاللاهوت تدرع الناسوت‏.‏ويقولون‏:‏ باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد‏.‏قيل قصدهم‏:‏ إن الرب موجود حي عليم، فالموجود هو الأب، والعلم هو الابن، والحياة هو روح القدس‏.‏هذا قول كثير منهم‏.‏ومنهم من يقول‏:‏ بل موجود عالم قادر‏.‏ويقول‏:‏ العلم هو الكلمة، وهو المتدرع‏.‏والقدرة‏:‏ هي روح القدس، فهم مشتركون في أن المتدرع هو أقنوم الكلمة وهي الابن‏.‏
ثم اختلفوا في التدرع واختلفوا‏:‏ هل هما جوهر أو جوهران‏؟‏ وهل لهما مشيء ة أو مشيء تان‏؟‏ ولهم في الحلول والاتحاد كلام مضطرب ليس هذا موضع بسطه، فإن مقالة النصارى فيها من الاختلاف بينهم ما يتعذر ضبطه، فإن قولهم ليس مأخوذًا عن كتاب منزل، ولا نبي مرسل، ولا هو موافق لعقول العقلاء، فقالت اليعقوبية‏:‏ صار جوهرًا واحدًا، وطبيعة واحدة، وأقنومًا واحدًا، كالماء في اللبن‏.‏وقالت/النسطورية‏:‏ بل هما جوهران وطبيعتان ومشيء تان؛ لكن حل اللاهوت في الناسوت حلول الماء في الظرف‏.‏وقالت الملكِيةُ‏:‏ بل هما جوهر واحد، له مشيء تان وطبيعتان، أو فعلان، كالنار في الحديد‏.‏
وقد ذهب بعض الناس إلى أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 72‏]‏، هم اليعقوبية، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 30‏]‏، هم الملكية، وقوله‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 73‏]‏، هم النسطورية وليس بشيء، بل الفِرَق الثلاث تقول المقالات التي حكاها الله ـ عز وجل ـ عن النصارى، فكلهم يقولون‏:‏ إنه الله، ويقولون‏:‏ إنه ابن الله، وكذلك في أمانتهم التي هم متفقون عليها، يقولون‏:‏ إله حق من إله حق، وأما قوله‏:‏ ‏{‏ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ‏}‏، فإنه قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏‏.‏
قال أبو الفرج ابن الجوزي في قوله‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ‏}‏، قال المفسرون‏:‏ معنى الآية‏:‏ أن النصارى قالوا بأن الإلهية مشتركة بين الله وعيسى ومريم، كل واحد منهم إله‏.‏وذكر عن الزجاج‏:‏ الغلو‏:‏ مجاوزة القدر في الظلم، وغلو النصارى في عيسى قول بعضهم‏:‏ هو الله، وقول بعضهم‏:‏ هو ابن الله، وقول بعضهم‏:‏ هو ثالث /ثلاثة، فعلماء النصارى الذين فسروا قولهم‏:‏ هو ابن الله بما ذكروه من أن الكلمة هي الابن، والفرق الثلاث متفقة على ذلك، وفساد قولهم معلوم بصريح العقل من وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أنه ليس في شيء من كلام الأنبياء تسمية صفة الله ابنا ـ لا كلامه ولا غيره ـ فتسميتهم صفة الله ابنا تحريف لكلام الأنبياء عن مواضعه، وما نقلوه عن المسيح من قوله‏:‏ عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس، لم يُرَد بالابن‏:‏ صفة الله التي هي كلمته، ولا بروح القدس‏:‏ حياته، فإنه لا يوجد في كلام الأنبياء إرادة هذا المعنى، كما قد بسط هذا في الرد على النصارى‏.‏
الوجه الثاني‏:‏ أن هذه الكلمة ـ التي هي الابن ـ أهي صفة الله قائمة به‏؟‏ أم هي جوهر قائم بنفسه‏؟‏ فإن كانت صفته؛ بطل مذهبهم من وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن الصفة لا تكون إلهًا يخلق ويرزق ويحيي ويميت، والمسيح عندهم إله يخلق ويرزق، ويحيي ويميت، فإذا كان الذي تدرعه ليس بإله؛ فهو أولى ألا يكون إلهًا‏.‏
الثاني‏:‏ أن الصفة لا تقوم بغير الموصوف فلا تفارقه، وإن قالوا‏:‏ نزل عليه كلام الله أو قالوا‏:‏ إنه الكلمة أو غير ذلك، فهذا قدر مشترك بينه وبين سائر الأنبياء‏.‏
/الثالث‏:‏ أن الصفة لا تتحد، وتتدرع شيئًا إلا مع الموصوف، فيكون الأب نفسه هو المسيح، والنصارى متفقون على أنه ليس هو الأب، فإن قولهم متناقض ينقض بعضه بعضًا، يجعلونه إلها يخلق ويرزق، ولا يجعلونه الأب الذي هو الإله، ويقولون‏:‏ إله واحد، وقد شبهه بعض متكلميهم كيحيي بن عدي بالرجل الموصوف بأنه طبيب وحاسب وكاتب، وله بكل صفة حكم، فيقال‏:‏ هذا حق، لكن قولهم ليس نظير هذا، فإذا قلتم‏:‏ إن الرب موجود حي عالم، وله بكل صفة حكم، فمعلوم أن المتحد إن كان هو الذات المتصفة، فالصفات كلها تابعة لها، فإنه إذا تدرع زيد الطبيب الحاسب الكاتب درعًا كانت الصفات كلها قائمة به، وإن كان المتدرع صفة دون صفة عاد المحذور، وإن قالوا‏:‏ المتدرع الذات بصفة دون صفة، لزم افتراق الصفتين، وهذا ممتنع؛ فإن الصفات القائمة بموصوف واحد ـ وهي لازمة له ـ لا تفترق، وصفات المخلوقين قد يمكن عدم بعضها مع بقاء الباقي، بخلاف صفات الرب ـ تبارك وتعالى‏.‏
الرابع‏:‏ أن المسيح ـ نفسه ـ ليس هو كلمات الله، ولا شيئًا من صفاته، بل هو مخلوق بكلمة الله، وسمي كلمة؛ لأنه خلق بكن من غير الحَبَلِ المعتاد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدم خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 34، 35‏]‏، ولو قدر أنه نفسه كلام الله، كالتوراة والإنجيل وسائر كلام الله، لم يكن كلام الله، ولا شيء من صفاته خالقًا ولا ربًا ولا إلها‏.‏فالنصارى إذا قالوا‏:‏ إن المسيح هو الخالق، كانوا ضالين من جهة جعل الصفة خالقة، ومن جهة جعله هو نفس الصفة، وإنما هو مخلوق بالكلمة، ثم قولهم بالتثليث وإن الصفات ثلاث باطل، وقولهم ـ أيضًا ـ بالحلول والاتحاد باطل، فقولهم يظهر بطلانه من هذه الوجوه وغيرها‏.‏
فلو قالوا‏:‏ إن الرب له صفات قائمة به، ولم يذكروا اتحادًا ولا حلولًا، كان هذا قول جماهير المسلمين المثبتين للصفات، وإن قالوا‏:‏ إن الصفات أعيان قائمة بنفسها، فهذا مكابرة، فهم يجمعون بين المتناقضين‏.‏
وأيضًا، فجعلهم عدد الصفات ثلاثة باطل؛ فإن صفات الرب أكثر من ذلك، فهو ـ سبحانه ـ موجود حي عليم قدير‏.‏والأقانيم عندهم التي جعلوها الصفات ليست إلا ثلاثة؛ ولهذا تارة يفسرونها بالوجود والحياة والعلم، وتارة يفسرونها بالوجود والقدرة والعلم، واضطرابهم كثير، فإن قولهم في نفسه باطل، ولا يضبطه عقل عاقل؛ ولهذا يقال‏:‏ لو اجتمع عشرة من النصارى، لافترقوا على أحد عشر قولا‏.‏
/وأيضًا، فكلمات الله كثيرة لا نهاية لها، كما قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 109‏]‏، وهذا قول جماهير الناس من المسلمين وغير المسلمين، وهذا مذهب سلف الأمة الذين يقولون‏:‏ لم يزل ـ سبحانه ـ متكلمًا بمشيء ته‏.‏وقول من قال‏:‏ إنه لم يزل قادرًا على الكلام لكن تكلم بمشيء ته، كلامًا قائمًا بذاته حادثا، وقول من قال‏:‏ كلامه مخلوق في غيره‏.‏
وأما من قال‏:‏ كلامه شيء واحد قديم العين، فهؤلاء منهم من يقول‏:‏ إنه أمور لا نهاية لها مع ذلك‏.‏ومنهم من يقول‏:‏ بل هو معنى واحد، ولكن العبارات عنه متعددة‏.‏وهؤلاء يمتنع عندهم أن يكون ذلك المعنى قائمًا بغير الله، وإنما يقوم بغيره عندهم العبارات المخلوقة، ويمتنع أن يكون المسيح شيئًا من تلك العبارات، فإذا امتنع أن يكون المسيح غير كلام الله ـ على قول هؤلاء ـ فعلى قول الجمهور أشد امتناعًا؛ لأن كلمات الله كثيرة، والمسيح ليس هو جميعها، بل ولا مخلوقًا بجميعها، إنما خُلِقَ بكلمة منها، وليس هو عين تلك الكلمة؛ فإن الكلمة صفة من الصفات، والمسيح عين قائم بنفسه‏.‏
ثم يقال لهم‏:‏ تسميتكم العلم والكلمة ولدًا وابنًا تسمية باطلة باتفاق العلماء والعقلاء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الأنبياء‏.‏قالوا‏:‏ لأن الذات/يتولد عنها العلم والكلام كما يتولد ذلك عن نفس الرجل العالم منها، فيتولد من ذاته العلم والحكمة والكلام؛ فلهذا سميت الكلمة ابنا، قيل‏:‏ هذا باطل من وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن صفاتنا حادثة تحدث بسبب تعلمنا ونظرنا وفكرنا واستدلالنا، وأما كلمة الرب وعلمه، فهو قديم لازم لذاته، فيمتنع أن يوصف بالتولد، إلا أن يدعي المدعي أن كل صفة لازمة لموصوفها متولدة عنه، وهي ابن له، ومعلوم أن هذا من أبطل الأمور في العقول واللغات؛ فإن حياة الإنسان ونطقه ـ وغير ذلك من صفاته اللازمة له ـ لا يقال‏:‏ إنها متولدة عنه، وإنها ابن له‏.‏وأيضًا فيلزم أن تكون حياة الرب ـ أيضًا ـ ابنه ومتولدة، وكذلك قدرته؛ وإلا فما الفرق بين تولد العلم وتولد الحياة والقدرة وغير ذلك من الصفات‏؟‏ ‏!‏
وثانيها‏:‏ أن هذا إن كان من باب تولد الجواهر والأعيان القائمة بنفسها؛ فلابد له من أصلين، ولابد أن يخرج من الأصل جزء‏.‏وأما علمنا وقولنا، فليس عينًا قائمًا بنفسه، وإن كان صفة قائمة بموصوف، وعرضًا قائمًا في محل كعلمنا وكلامنا، فذاك ـ أيضًا ـ لا يتولد إلا عن أصلين، ولابد له من محل يتولد فيه‏.‏والواحد منا لا يحدث له العلم والكلام إلا بمقدمات تتقدم على ذلك، وتكون أصولًا للفروع، ويحصل العلم والكلام في محل لم يكن حاصلًا فيه قبل ذلك‏.‏
/فإن قلتم‏:‏ إن علم الرب كذلك، لزم أن يصير عالمًا بالأشياء بعد أن لم يكن عالمًا بها، وأن تصير ذاته متكلمة بعد أن لم يكن متكلمًا‏.‏ وهذا مع أنه كفر عند جماهير الأمم من المسلمين والنصارى وغيرهم فهو باطل في صريح العقل؛ فإن الذات التي لا تكون عالمة يمتنع أن تجعل نفسها عالمة بلا أحد يعلمها، والله ـ تعالى ـ يمتنع عليه أن يكون متعلمًا من خلقه، وكذلك الذات التي تكون عاجزة عن الكلام، يمتنع أن تصير قادرة عليه بلا أحد يجعلها قادرة، والواحد منها لا يولد جميع علومه، بل ثَمَّ علوم خلقت فيه لا يستطيع دفعها، فإذا نظر فيها حصلت له علوم أخرى، فلا يقول أحد من بني آدم‏:‏ إن الإنسان يولد علومه كلها، ولا يقول أحد‏:‏ إنه يجعل نفسه متكلمة بعد أن لم تكن متكلمة، بل الذي يقدره على النطق هو الذي أنطق كل شيء‏.‏
فإن قالوا‏:‏ إن الرب يولد بعض علمه، وبعض كلامه دون بعض، بطل تسمية العلم الذي هو الكلمة مطلقًا ـ الابن ـ وصار لفظ الابن إنما يسمي به بعض علمه، أو بعض كلامه، وهم يدَّعُونَ أن المسيح هو الكلمة، وهو أقنوم العلم مطلقًا، وذلك ليس متولدًا عنه كله، ولا يسمي كله ابنا باتفاق العقلاء‏.‏
وثالثها‏:‏ أن يقال‏:‏ تسمية علم العالم وكلامه ولدًا له لا يعرف في شيء من اللغات المشهورة، وهو باطل بالعقل؛ فإن علمه وكلامه كقدرته وعلمه، فإن/جاز هذا، جاز تسمية صفات الإنسان كلها الحادثة متولدات عنه له، وتسميتها أبناءه‏.‏ومن قال من أهل الكلام القدرية‏:‏ إن العلم الحاصل بالنظر متولد عنه، فهو كقوله‏:‏ إن الشِّبَع والرِّي متولد عن الأكل والشرب، لا يقول‏:‏ إن العلم ابنه وولده، كما لا يقول‏:‏ إن الشبع والري ابنه ولا ولده؛ لأن هذا من باب تولد الأعراض والمعاني القائمة بالإنسان، وتلك لا يقال‏:‏ إنها أولاده وأبناؤه‏.‏ومن استعار فقال‏:‏ بنيات فكره، فهو كما يقال‏:‏ بنيات الطريق‏.‏ ويقال‏:‏ ابن السبيل‏.‏ ويقال لطير الماء‏:‏ ابن ماء‏.‏وهذه تسمية مقيدة، قد عرف أنها ليس المراد بها ما هو المعقول من الأب والابن والوالد والولد‏.‏وأيضًا، فكلام الأنبياء ليس في شيء منه تسمية شيء من صفات الله ابنًا، فمن حمل شيئًا من كلام الأنبياء على ذلك فقد كذب عليهم، وهذا مما يقِر به علماء النصارى وما وجد عندهم من لفظ الإبن في حق المسيح وإسرائيل وغيرهما، فهو اسم للمخلوق لا لشيء من صفات الخالق، والمراد به أنه مكرم معظم‏.‏
ورابعها‏:‏ أن يقال‏:‏ فإذا قدر أن الأمر كذلك، فالذي حصل للمسيح إن كان هو ما علمه الله إياه من علمه وكلامه، فهذا موجود لسائر النبيين، فلا معنى لتخصيصه بكونه ابن الله، وإن كان هو أن العلم والكلام إله اتحد به فيكون العلم والكلام جوهرًا قائمًا بنفسه، فإن كان هو الأب فيكون المسيح هو الأب، وإن كان العلم والكلام جوهرًا آخر، فيكون إلهان قائمان /بأنفسهما، فتبين فساد ما قالوه بكل وجه‏.‏
وخامسها‏:‏ أن يقال‏:‏ من المعلوم عند الخاصة والعامة أن المعنى الذي خص به المسيح إنما هو أن خُلِقَ من غير أب، فلما لم يكن له أب من البشر، جعل النصارى الرب أباه، وبهذا ناظر نصاري نجران النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ إن لم يكن هو ابن الله، فقل لنا من أبوه‏؟‏ فعلم أن النصارى إنما ادعوا فيه البنوة الحقيقية، وأن ما ذكر من كلام علمائهم هو تأويل منهم للمذهب؛ ليزيلوا به الشناعة التي لا يبلغها عاقل، وإلا فليس في جعله ابن الله وجه يختص به معقول، فعلم أن النصارى جعلوه ابن الله، وأن الله أحْبَلَ مريم، والله هو أبوه، وذلك لا يكون إلا بإنزال جزء منه فيها، وهو ـ سبحانه ـ الصمد، ويلزمهم أن تكون مريم صاحبة وزوجة له؛ ولهذا يتألهونها كما أخبر الله عنهم‏.‏وأي معنى ذكروه في بنوة عيسى غير هذا لم يكن فيه فرق بين عيسى وبين غيره، ولا صار فيه معنى البنوة، بل قالوا ـ كما قال بعض مشركي العرب ـ‏:‏ إنه صاهر الجن فولدت له الملائكة‏.‏وإذا قالوا‏:‏ اتخذه ابنًا على سبيل الاصطفاء، فهذا هو المعنى الفعلي، وسيأتي إن شاء الله ـ تعالى ـ إبطاله‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏، ليس فيه أن بعض الله صار في عيسي، بل من لابتداء الغاية، كما قال‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 13‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 53‏]‏، وما أضيف إلى الله أو قيل هو منه فعلى وجهين‏:‏ إن كان عينًا قائمة بنفسها؛ فهو مملوك له، ومن لابتداء الغاية، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 17‏]‏، وقال في المسيح‏:‏ ‏{‏وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏‏.‏وما كان صفة لا يقوم بنفسه كالعلم والكلام فهو صفة له، كما يقال‏:‏ كلام الله، وعلم الله، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 102‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 114‏]‏‏.‏
وألفاظ المصادر يعبر بها عن المفعول، فيسمي المأمور به أمرًا، والمقدور قدرة، والمرحوم به رحمة، والمخلوق بالكلمة كلمة، فإذا قيل في المسيح‏:‏ إنه كلمة الله، فالمراد به أنه خُلِقَ بكلمة قوله‏:‏ ‏[‏كن‏]‏، ولم يخلق على الوجه المعتاد من البشر، وإلا فعيسى بشر قائم بنفسه ليس هو كلاما صفة للمتكلم يقوم به، وكذلك إذا قيل عن المخلوق‏:‏ إنه أمر الله، فالمراد أن الله كونه بأمره، كقوله‏:‏ ‏{‏أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 82‏]‏، فالرب ـ تعالى ـ أحد صمد، لا يجوز أن يتبعض ويتجزأ، فيصير، بعضه في غيره، سواء سمي ذلك روحًا أو غيره، فبطل ما يتوهمه النصارى من كونه ابنًا له، وتبين أنه عبد من عباد الله‏.‏
وقد قيل‏:‏ منشأ ضلال القوم أنه كان في لغة من قبلنا يعبر عن/ الرب بالأب، وبالابن عن العبد المربي الذي يربه الله ويربيه، فقال المسيح‏:‏ عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس، فأمرهم أن يؤمنوا بالله ويؤمنوا بعبده ورسوله المسيح، ويؤمنوا بروح القدس جبريل، فكانت هذه الأسماء لله، ولرسوله المَلَكي، ورسوله البشري، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 75‏]‏‏.‏
وقد أخبر ـ تعالى ـ في غير آية أنه أيد المسيح بروح القدس، وهو جبريل عند جمهور المفسرين، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 87‏]‏، فعند جمهور المفسرين أن روح القدس هو جبريل، بل هذا قول ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم، ودليل هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 101، 102‏]‏‏.‏وروي الضحاك عن ابن عباس‏:‏ أنه الاسم الذي كان يحيي به الموتي‏.‏وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ أنه الإنجيل‏.‏وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 22‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 2‏]‏ فما ينزله الله في قلوب أنبيائه مما تحيا به قلوبهم من الإيمان الخالص يسميه روحًا، وهو ما يؤيد الله به المؤمنين من عباده فكيف بالمرسلين منهم‏؟‏ ‏!‏ والمسيح ـ عليه السلام ـ من أولى العزم، فهو أحق بهذا من جمهور الرسل والأنبياء، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏‏.‏وقد ذكر الزجاج في تأييده بروح القدس ثلاثة أوجه‏:‏
أحدها‏:‏ أنه أيده به لإظهار أمره ودينه‏.‏
الثاني‏:‏ لدفع بني إسرائيل عنه إذ أرادوا قتله‏.‏
الثالث‏:‏ أنه أيده به في جميع أحواله‏.‏
ومما يبين ذلك أن لفظ الابن في لغتهم ليس مختصًا بالمسيح، بل عندهم أن الله ـ تعالى ـ قال في التوراة لإسرائيل‏:‏ أنت ابني بكري، والمسيح كان يقول‏:‏ أبي وأبوكم فيجعله أبا للجميع، ويسمي غيره ابنًا له، فعلم أنه لا اختصاص للمسيح بذلك، ولكن النصارى يقولون‏:‏ هو ابنه بالطبع، وغيره ابنه بالوضع، فيفرقون فرقًا لا دليل عليه، ثم قولهم‏:‏ هو ابنه بالطبع يلزم عليه من المحالات عقلًا وسمعًا ما يبين بطلانه‏.‏