كلام للإمام أحمد في رده على الجهمية
 
وكلام الإمام أحمد وغيره من السلف يحتمل أن يراد به هذا، فإن أحمد ذكر في رده على الجهمية‏:‏ أنها احتجت بثلاث آيات من المتشابه‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏، وقد فسر أحمد قوله‏:‏ / ‏{‏وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ‏}‏‏.‏ فإذا كانت هذه الآيات مما علمنا معناها لم تكن متشابهة عندنا، وهي متشابهة عند من احتج بها، وكان عليه أن يردها هو إلى ما يعرفه من المحكم، وكذلك قال أحمد في ترجمة كتابه الذي صنفه في الحبس، وهو ‏[‏الرد على الزنادقة والجهمية‏]‏ فيما شكت فيه من متشابه القرآن، وتأولته على غير تأويله، ثم فسر أحمد تلك الآيات آية آية، فبين أنها ليست متشابهة عنده بل قد عُرِفَ معناها‏.‏ وعلى هذا فالراسخون في العلم يعلمون تأويل هذا المتشابه، الذي هو تفسيره، وأما التأويل الذي هو الحقيقة الموجودة في الخارج فتلك لا يعلمها إلا الله، ولكن قد يقال‏:‏ هذا المتشابه الإضافي ليس هو المتشابه المذكور في القرآن، فإن ذلك قد أخبر الله أنه لا يعلم تأويله إلا الله، وإنما هذا كما يشكل على كثير من الناس آيات لا يفهمون معناها، وغيرهم من الناس يعرف معناها وعلى هذا فقد يجاب بجوابين‏:‏
أحدهما‏:‏ أن يكون في الآية قراءتان‏:‏ قراءة من يقف على قوله‏:‏ ‏[‏إلا الله‏]‏، وقراءة من يقف عند قوله‏:‏ ‏{‏وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ‏}‏، وكلتا القراءتين حق، ويراد بالأولى‏:‏ المتشابه في نفسه الذي استأثر الله بعلم تأويله، ويراد بالثانية‏:‏ المتشابه الإضافي الذي يعرف الراسخون تفسيره، وهو تأويله، ومثل هذا يقع في القرآن كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 46‏]‏، و‏{‏لِتَزُولَ‏}‏ فيه قراءتان مشهورتان بالنفي والإثبات، وكل قراءة لها معنى صحيح‏.‏
وكذلك القراءة المشهورة‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 25‏]‏، وقرأ طائفة من السلف‏:‏ ‏[‏لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة‏]‏ وكلا القراءتين حق، فإن الذي يتعدى حدود الله هو الظالم وتارك الإنكار عليه قد يجعل غير ظالم لكونه لم يشاركه، وقد يجعل ظالمًا باعتبار ما ترك من الإنكار الواجب، وعلى هذا قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 165‏]‏، فأنجى الله الناهين‏.‏ وأما أولئك الكارهون للذنب الذين قالوا‏:‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 164‏]‏، فالأكثرون على أنهم نجوا؛ لأنهم كانوا كارهين، فأنكروا بحسب قدرتهم‏.‏
وأمـا مـن ترك الإنكار مطلقًا فهـو ظالم يعـذب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه‏)‏‏.‏ وهذا الحديث موافق للآية‏.‏
والمقصود هنا أنه يصح النفي والإثبات باعتبارين، كما أن قوله‏:‏ ‏{‏لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً‏}‏ أي‏:‏ لا تختص بالمعتدين، بل يتناول من رأي المنكر فلم يغيره، ومن قرأ‏:‏ ‏[‏لتصيبن الذين ظلموا منكم/ خاصة‏]‏ أدخل في ذلك من ترك الإنكار مع قدرته عليه، وقد يراد بذلك أنهم يعذبون في الدنيا، ويبعثون على نياتهم، كالجيش الذين يغزون البيت فيخسف بهم كلهم، ويحشر المكره على نيته‏.‏
والجواب الثاني‏:‏ القطـع بأن المتشابـه المذكور في القرآن هو تشابهها في نفسها اللازم لها، وذاك الذي لا يعلم تأويلـه إلا الله، وأمـا الإضافي الموجود في كلام من أراد به التشابـه الإضافي، فمـرادهم أنهـم تكلموا فيما اشتـبه معناه وأشكـل معناه على بعض الناس، وأن الجهمية استدلوا بما اشتبه عليهم وأشكل، وإن لم يكن هو من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، وكثيرًا ما يشتبه على الرجل ما لا يشتبه على غيره‏.‏
ويحتمل كلام الإمام أحمد أنه لم يرد إلا المتشابه في نفسه، الذي يلزمه التشابه، لم يرد بشيء منه التشابه الإضافي، وقال‏:‏ تأولته على غير تأويله، أي‏:‏ غير تأويله الذي هو تأويله في نفس الأمر، وإن كان ذلك التأويل لا يعلمه إلا الله، وأهل العلم يعلمون أن المراد به ذلك التأويل، فلا يبقى مشكلًا عندهم محتملًا لغيره؛ ولهذا كان المتشابه في الخبريات إما عن الله، وإما عن الآخرة، وتأويل هذا كله لا يعلمه إلا الله، بل المحكم من القرآن قد يقال‏:‏ له تأويل كما للمتشابه تأويل، كما قال‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 53‏]‏، ومع هذا فذلك التأويل لا يعلم وقته وكيفيته إلا الله‏.‏ وقد يقال‏:‏ بل التأويل للمتشابه؛ لأنه في الوعد /والوعيد، وكله متشابه‏.‏ وأيضًا، فلا يلزم في كل آية ظنها بعض الناس متشابهًا أن تكون من المتشابه‏.‏
فقول أحمد‏:‏ احتجوا بثلاث آيات من المتشابه، وقوله‏:‏ ما شكت فيه من متشابه القرآن، قد يقال‏:‏ إن هؤلاء أو أن أحمد جعل بعض ذلك من المتشابه وليس منه، فإن قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، لم يرد به هنا الإحكام العام والتشابه العام الذي يشترك فيه جميع آيات القرآن، وهو المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فصلتْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 1‏]‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏، فوصفه هنا كله بأنه متشابه، أي‏:‏ متفق غير مختلف، يصدق بعضه بعضًا، وهو عكس المتضاد المختلف المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 8، 9‏]‏، فإن هذا التشابه يعم القرآن، كما أن إحكام آياته تعمه كله، وهنا قد قال‏:‏ ‏{‏مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ‏}‏، فجعل بعضه محكمًا وبعضه متشابهًا، فصار التشابه له معنيان، وله معنى ثالث وهو الإضافي‏.‏ يقال‏:‏ قد اشتبه علينا هذا، كقول بنى إسرائيل‏:‏ ‏{‏إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 70‏]‏، وإن كان في نفسه متميزًا منفصلًا بعضه عن بعض‏.‏ وهذا من باب اشتباه الحق/ بالباطل، كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث‏:‏ ‏(‏الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس‏)‏، فدل ذلك على أن من الناس من يعرفها، فليست مشتبهة على جميع الناس، بل على بعضهم، بخلاف ما لا يعلم تأويله إلا الله، فإن الناس كلهم مشتركون في عدم العلم بتأويله، ومن هذا ما يروي عن المسيح ـ عليه السلام ـ أنه قال‏:‏ الأمور ثلاثة‏:‏ أمر تبين رشده فاتبعوه، وأمر تبين غيه فاجتنبوه، وأمر اشتبه عليكم فكلوه إلى عالمه‏.‏
فهذا المشتبه على بعض الناس يمكن الآخرين أن يعرفوا الحق فيه ويبينوا الفرق بين المشتبهين، وهذا هو الذي أراده من جعل الراسخين يعلمون التأويل، فإنه جعل المشتبهات في القرآن من هذا الباب الذي يشتبه على بعض الناس دون بعض، ويكون بينهما من الفروق المانعة للتشابه ما يعرفه بعض الناس‏.‏ وهذا المعنى صحيح في نفسه لا ينكر‏.‏ ولا ريب أن الراسخين في العلم يعلمون ما اشتبه على غيرهم‏.‏ وقد يكون هذا قراءة في الآية كما تقدم، من أنه يكون فيها قراءتان؛ لكن لفظ التأويل على هذا يراد به التفسير‏.‏ ووجه ذلك أنهم يعلمون تأويله من حيث الجملة، كما يعلمون تأويل المحكم، فيعرفون الحساب والميزان والصراط والثواب والعقاب، وغير ذلك مما أخبر الله به ورسوله معرفة مجملة، فيكونون عالمين بالتأويل، وهو ما يقع في الخارج على هذا/الوجه، ولا يعلمونه مفصلًا، إذ هم لا يعرفون كيفيته وحقيقته، إذ ذلك ليس مثل الذي علموه في الدنيا وشاهدوه، وعلى هذا يصح أن يقال‏:‏ علموا تأويله، وهو معرفة تفسيره، ويصح أن يقال‏:‏ لم يعلموا تأويله، وكلا القراءتين حق‏.‏
وعلى قراءة النفي هل يقال ـ أيضًا ـ‏:‏ إن المحكم له تأويل لا يعلمون تفصيله‏؟‏ فإن قوله‏:‏ وما يعلم تأويل ما تشابه منه إلا الله لا يدل على أن غيره يعلم تأويل المحكم، بل قد يقال‏:‏ إن من المحكم ـ أيضًا ـ ما لا يعلم تأويله إلا الله، وإنما خص المتشابه بالذكر؛ لأن أولئك طلبوا علم تأويله، أو يقال‏:‏ بل المحكم يعلمون تأويله لكن لا يعلمون وقت تأويله ومكانه وصفته‏.‏
وقد قال كثير من السلف‏:‏ إن المحكم ما يعمل به، والمتشابه ما يؤمن به، ولا يعمل به، كما يجىء في كثير من الآثار، ونعمل بمحكمه، ونؤمن بمتشابهه، وكما جاء عن ابن مسعود وغيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 121‏]‏، قال‏:‏ يحللون حلاله، ويحرمون حرامه، ويعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه‏.‏ وكلام السلف في ذلك يدل على أن التشابه أمر إضافي، فقد يشتبه على هذا ما لا يشتبه على هذا، فعلى كل أحد أن يعمل بما استبان له، وَيَكِلُ ما اشتبه عليه إلى الله، كقول أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ في الحديث الذي رواه/الثورى عن مغيرة ـ وليس بشيء ـ عن أبي العالية، قال‏:‏ قيل لأبي بن كعب‏:‏ أوصنى، فقال‏:‏ اتخذ كتاب الله إمامًا، ارض به قاضيًا، وحاكمًا، هو الذي استخلف فيكم رسوله شفيع مطاع، وشاهد لا يتهم، فيه خبر ما قبلكم، وخبر ما بينكم، وذكر ما قبلكم، وذكر ما فيكم‏.‏ وقال سفيان، عن رجل سماه، عن ابن أبزى، عن أبي قال‏:‏ فما استبان لك فاعمل به، وما شبه عليك فآمن به، وكِلْهُ إلى عالمه‏.‏
فمنهم من قال‏:‏ المتشابه هو المنسوخ، ومنهم من جعله الخبريات مطلقًا، فعن قتادة والربيع والضحاك والسدى‏:‏ المحكم‏:‏ الناسخ الذي يعمل به، والمتشابه‏:‏ المنسوخ يؤمن به ولا يعمل به‏.‏ وكذلك في تفسير العوفي عن ابن عباس‏.‏ وأما تفسير الوالبى عن ابن عباس فقال‏:‏ محكمات‏:‏ القرآن ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه، وما يؤمن به، ويعمل به‏.‏ والمتشابهات‏:‏ منسوخه، ومقدمه، ومؤخره، وأمثاله، وأقسامه، وما يؤمن به ولا يعمل به‏.‏
أما القـول الأول، فهو ـ والله أعلم ـ مأخوذ من قوله‏:‏ ‏{‏فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52‏]‏ فقابل بين المنسوخ وبين المحكم، وهو ـ سبحانه ـ إنما أراد نسخ ما ألقاه الشيطان، لم يرد نسخ ما أنزله، لكن هم جعلوا جنس المنسوخ متشابهًا؛ لأنه يشبه غيره في التلاوة والنظم، /وأنه كلام الله وقرآن ومعجز وغير ذلك من المعانى، مع أن معناه قد نسخ‏.‏
ومن جعل المتشابه كل ما لا يعمل به من المنسوخ، والأقسام، والأمثال؛ فلأن ذلك متشابه، ولم يؤمر الناس بتفصيله، بل يكفيهم الإيمان المجمل به، بخلاف المعمول به فإنه لابد فيه من العلم المفصل‏.‏ وهذا بيان لما يلزم كل الأمة، فإنهم يلزمهم معرفة ما يعمل به تفصيلًا ليعملوا به، وما أخبروا به فليس عليهم معرفته، بل عليهم الإيمان به، وإن كان العلم به حسنًا أو فرضًا على الكفاية فليس فرضًا على الأعيان، بخلاف ما يعمل به، ففرض على كل إنسان معرفة ما يلزمه من العمل مفصلًا، وليس عليه معرفة العلميات مفصلًا‏.‏
وقد روي عن مجاهد وعكرمة‏:‏ المحكم‏:‏ ما فيه من الحلال والحرام، وما سوى ذلك متشابه يصدق بعضه بعضًا‏.‏ فعلى هذا القول يكون المتشابه هو المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏، والحلال مخالف للحرام، وهذا على قول مجاهد‏:‏ إن العلماء يعلمون تأويله، لكن تفسير المتشابه بهذا مع أن كل القرآن متشابه، وهنا خص البعض به فيستدل به على ضعف هذا القول‏.‏
وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، لو أريد بالمتشابه /تصديق بعضه بعضًا، لكان اتباع ذلك غير محذور، وليس في كونه يصدق بعضه بعضًا ما يمنع ابتغاء تأويله، وقد يحتج لهذا القول بقوله‏:‏ ‏{‏مُتَشَابِهَاتٌ‏}‏ فجعلها أنفسها متشابهات، وهذا يقتضي أن بعضها يشبه بعضًا ليست مشابهة لغيرها‏.‏
ويجاب عن هذا بأن اللفظ إذا ذكر في موضعين بمعنيين صار من المتشابه، كقوله‏:‏ ‏[‏إنا‏]‏ و‏[‏نحن‏]‏ المذكور في سبب نزول الآية‏.‏ وقد ذكر محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر ابن الزبير ـ لما ذكر قصة أهل نجران ونزول الآية ـ قال‏:‏ المحكم‏:‏ ما لا يحتمل من التأويل إلا وجهًا واحدًا، والمتشابه‏:‏ ما احتمل في التأويل أوجهًا‏.‏ ومعنى هذا‏:‏ أن ذلك اللفظ المحكم لا يكون تأويله في الخارج إلا شيئا واحدًا، وأما المتشابه فيكون له تأويلات متعددة، لكن لم يرد الله إلا واحدًا منها، وسياق الآية يدل على المراد‏.‏ وحينئذ، فالراسخون في العلم يعلمون المراد من هذا، كما يعلمون المراد من المحكم؛ لكن نفس التأويل الذي هو الحقيقة ووقت الحوادث ونحو ذلك لا يعلمونه لا من هذا ولا من هذا‏.‏
وقد قيل‏:‏ إن نصارى نجران احتجوا بقوله‏:‏ ‏{‏بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 39‏]‏، ‏{‏وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏، ولفظ‏:‏ كلمة الله، يراد به الكلام، ويراد به المخلوق بالكلام، ‏{‏وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏ يراد به ابتداء الغاية، ويراد به التبعيض‏.‏ فعلى هذا إذا قيل‏:‏ تأويله لا يعلمه إلا الله، المراد به الحقيقة، أي‏:‏ لا يعلمون كيف خلق/ عيسى بالكلمة، ولا كيف أرسل إليها روحه فتمثل لها بشرًا سويًا، ونفخ فيها من روحه‏.‏ وفي صحيح البخارى، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم‏)‏‏.‏
والمقصود هنا أنه لا يجوز أن يكون الله أنزل كلامًا لا معنى له، ولا يجوز أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم وجميع الأمة لا يعلمون معناه، كما يقول ذلك من يقوله من المتأخرين‏.‏ وهذا القول يجب القطع بأنه خطأ، سواء كان مع هذا تأويل القرآن لا يعلمه الراسخون، أو كان للتأويل معنيان‏:‏ يعلمون أحدهما، ولا يعلمون الآخر‏.‏ وإذا دار الأمر بين القول بأن الرسول كان لا يعلم معنى المتشابه من القرآن وبين أن يقال‏:‏ الراسخون في العلم يعلمون، كان هذا الإثبات خيرًا من ذلك النفي، فإن معنى الدلائــل الكثيــرة من الكتاب والسنة وأقوال السلف على أن جميع القرآن مما يمكن علمه وفهمه وتدبره، وهذا مما يجب القطع به، وليس معناه قاطع على أن الراسخين في العلم لا يعلمون تفسير المتشابه، فإن السلف قد قال كثير منهم‏:‏ إنهم يعلمون تأويله، منهم مجاهد ـ مع جلالة قدره ـ والربيع بن أنس، ومحمد بن جعفر بن الزبير، ونقلوا ذلك عن ابن عباس، وأنه قال‏:‏ أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله‏.‏
/وقول أحمد فيما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية، فيما شكت فيه من متشابه القرآن، وتأولته على غير تأويله، وقوله عن الجهمية‏:‏ إنها تأولت ثلاث آيات من المتشابه، ثم تكلم على معناها، دليل على أن المتشابه عنده تعرف العلماء معناه، وأن المذموم تأويله على غير تأويله، فأما تفسيره المطابق لمعناه، فهذا محمود ليس بمذموم، وهذا يقتضي أن الراسخين في العلم يعلمون التأويل الصحيح للمتشابه عنده، وهو التفسير في لغة السلف؛ ولهذا لم يقل أحمد ولا غيره من السلف‏:‏ إن في القرآن آيات لا يعرف الرسول ولا غيره معناها، بل يتلون لفظًا لا يعرفون معناه‏.‏ وهذا القول اختيار كثير من أهل السنة، منهم ابن قتيبة، وأبو سليمان الدمشقي، وغيرهما‏.‏
وابن قتيبة هو من المنتسبين إلى أحمد وإسحاق والمنتصرين لمذاهب السنة المشهورة، وله في ذلك مصنفات متعددة‏.‏ قال فيه صاحب كتاب ‏[‏التحديث بمناقب أهل الحديث‏]‏ وهو أحد أعلام الأئمة والعلماء والفضلاء، أجودهم تصنيفًا، وأحسنهم ترصيفًا، له زهاء ثلاثمائة مصنف، وكان يميل إلى مذهب أحمد، وإسحاق، وكان معاصرًا لإبراهيم الحربي، ومحمد بن نصر المروزي، وكان أهـل المغرب يعظمونه، ويقولون‏:‏ من استجاز الوقيعة في ابن قتيبة يتهم بالزندقة، ويقولون‏:‏ كل بيت ليس فيه شيء من تصنيفه فلا خير فيه‏.‏ قلت‏:‏ /ويقال‏:‏ هو لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة، فإنه خطيب السنة، كما أن الجاحظ خطيب المعتزلة‏.‏
وقد نقل عن ابن عباس ـ أيضًا ـ القول الآخر، ونقل ذلك عن غيره من الصحابة، وطائفة من التابعين، ولم يذكر هـؤلاء على قولهم نصًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصارت مسألة نزاع، فترد إلى الله وإلى الرسول، وأولئك احتجوا بأنه قرن ابتغاء الفتنة بابتغاء تأويله، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم ذم مبتغى المتشابه، وقال‏:‏ ‏(‏إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فاحذروهم‏)‏، ولهذا ضرب عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ صبيغ بن عسل لما سأله عن المتشابه، ولأنه قال‏:‏ ‏{‏وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، ولو كانت الواو واو عطف مفرد على مفرد لا واو الاستئناف التي تعطف جملة على جملة، لقال‏:‏ ويقولون‏.‏
فأجاب الآخرون عن هذا بأن الله قال‏:‏ ‏{‏لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 8‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 9‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 10‏]‏، قالوا‏:‏ فهذا عطف مفرد على مفرد، والفعل حال من المعطوف فقط، وهو نظير قوله‏:‏ ‏{‏وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا‏}‏، قالوا‏:‏ ولأنه لو كان المراد مجرد الوصف بالإيمان لم يخص الراسخين، بل قال‏:‏ والمؤمنون يقولون‏:‏ آمنا به، فإن كل مؤمن يجب عليه أن يؤمن به، فلما خص الراسخين في العلم بالذكر علم أنهم امتازوا بعلم تأويله، فعلموه لأنهم عالمون، وآمنوا به لأنهم يؤمنون، وكان إيمانهم به مع العلم أكمل في الوصف، وقد قال عقيب ذلك‏:‏ ‏{‏وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْباب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، وهذا يدل على أن هنا تذكرًا يختص به أولو الألباب، فإن كان ما ثم إلا الإيمان بألفاظ فلا يذكر لما يدلهم على ما أريد بالمتشابه‏.‏
ونظير هذا قوله في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏لَّـكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 162‏]‏، فلما وصفهم بالرسوخ في العلم، وأنهم يؤمنون، قرن بهم المؤمنين، فلو أريد هنا مجرد الإيمان لقال‏:‏ والراسخون في العلم والمؤمنون يقولون‏:‏ آمنا به، كما قال في تلك الآية لما كان مراده مجرد الإخبار بالإيمان جمع بين الطائفتين‏.‏
قالوا‏:‏ وأما الذم فإنما وقع على من يتبع المتشابه لابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، وهو حال أهل القصد الفاسد الذين يريدون القدح في القرآن فلا يطلبون إلا المتشابه لإفساد القلوب، وهي فتنتها به، ويطلبون تأويله وليس طلبهم لتأويله لأجل العلم والاهتداء، بل هذا /لأجل الفتنة، وكذلك صبيغ بن عسل ضربه عمر؛ لأن قصده بالسؤال عن المتشابه كان لابتغاء الفتنة، وهذا كمن يورد أسئلة وإشكالات على كلام الغير، ويقول‏:‏ ماذا أريد بكذا‏؟‏ وغرضه التشكيك والطعن فيه، ليس غرضه معرفة الحق، وهؤلاء هم الذين عناهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه‏)‏؛ ولهذا ‏{‏يَتَّبِعُونَ‏}‏ أي‏:‏ يطلبـون المتشابـه ويقصدونه دون المحكم، مثل المتبع للشيء الذي يتحراه ويقصده‏.‏ وهذا فعل من قصده الفتنة، وأما من سأل عن معنى المتشابه ليعرفه ويزيل ما عرض له من الشبه ـ وهو عالم بالمحكم متبع له، مؤمن بالمتشابه، لا يقصد فتنة ـ فهذا لم يذمه الله‏.‏ وهكذا كان الصحابة يقولون ـ رضي الله عنهم ـ‏:‏ مثل الأثر المعروف الذي رواه إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني وقد ذكره الطلمنكي‏:‏ حدثنا يزيد بن عبد ربه، ثنا بقية، ثنا عتبة بن أبي حكيم، ثنى عمارة بن راشد الكناني، عن زياد، عن معاذ بن جبل قال‏:‏ يقرأ القرآن رجلان‏:‏ فرجل له فيه هوى ونية يفليه فلي الرأس، يلتمس أن يجد فيه أمرًا يخرج به على الناس، أولئك شرار أمتهم، أولئك يعمي الله عليهم سبل الهدى‏.‏ ورجل يقرؤه ليس فيه هوى ولا نية يفليه فلي الرأس فما تبين له منه عمل به، وما اشتبه عليه وكله إلى الله، ليتفقهن فيه فقهًا ما فقهه قوم قط، حتى لو أن أحدهم مكث عشرين سنة، فليبعثن الله له من يبين له الآية التي أشكلت عليه، أو يفهمه إياها من قبل نفسه‏.‏ قال /بقية‏:‏ أشهدني ابن عيينة حديث عتبة هذا‏.‏
فهذا معاذ يذم من اتبع المتشابه لقصد الفتنة، وأما من قصده الفقه فقد أخبر أن الله لابد أن يفقهه بفهمه المتشابه فقهًا ما فقهه قوم قط‏:‏ قالوا‏:‏ والدليل على ذلك أن الصحابة كانوا إذا عرض لأحدهم شبهة في آية أو حديث سأل عن ذلك، كما سأله عمر فقال‏:‏ ألم تكن تحدثنا أنا نأتى البيت ونطوف به‏؟‏ وسأله ـ أيضًا ـ عمر‏:‏ ما بالنا نقصر الصلاة وقد أمنا‏؟‏ ولما نزل قوله‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 82‏]‏، شق عليهم وقالوا‏:‏ أينا لم يظلم نفسه حتى بين لهم، ولما نزل قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 284‏]‏، شق عليهم حتى بين لهم الحكمة في ذلك، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من نوقش الحساب عذب‏)‏ قالت عائشة‏:‏ ألم يقل الله‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 8‏]‏ قال‏:‏ ‏(‏إنما ذلك العرض‏)‏‏.‏
قالوا‏:‏ والدليل على ما قلناه إجماع السلف، فإنهم فسروا جميع القرآن‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفــه عند كل آية وأسأله عنها، وتلقوا ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال أبـو عبد الرحمن السلمي‏:‏ حدثنا الذين كانوا يقرؤوننا القـرآن ـ عثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما ـ أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى/يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا‏:‏ فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا، وكلام أهل التفسير من الصحابة والتابعين شامل لجميع القرآن، إلا ما قد يشكل على بعضهم فيقف فيه، لا لأن أحدًا من الناس لا يعلمه، لكن لأنه هو لم يعلمه‏.‏
وأيضًا، فإن الله قد أمر بتدبر القرآن مطلقًا ولم يستثن منه شيئا لا يتدبر، ولا قال‏:‏ لا تدبروا المتشابه، والتدبر بدون الفهم ممتنع، ولو كان من القرآن ما لا يتدبر لم يعرف، فإن الله لم يميز المتشابه بحد ظاهر حتى يجتنب تدبره‏.‏
وهذا ـ أيضًا ـ مما يحتجون به، ويقـولون‏:‏ المتشابه‏:‏ أمر نسبي إضافي، فقد يشتبه على هـذا مـا لا يشتبه على غيره، قالوا‏:‏ ولأن الله أخبر أن القرآن بيان وهدى وشفاء ونـور، ولم يستثن منه شيئا عن هذا الوصف، وهذا ممتنع بدون فهم المعنى، قالوا‏:‏ ولأن مـن العظيم أن يقال‏:‏ إن الله أنزل على نبيه كلامًا لم يكن يفهم معناه، لا هو ولا جبريل، بل وعلى قـول هؤلاء كان النبي صلى الله عليه وسلم يـحدث بأحاديث الصفات والقدر والمعاد، ونحو ذلك مما هو نظير متشابه القرآن عندهم، ولم يكن يعرف معنى ما يقوله، وهذا لا يظن بأقل الناس‏.‏
/وأيضًا، فالكـلام إنما المقصـود به الإفهام، فإذا لم يقصد به ذلك، كان عبثًا وباطلًا، والله ـ تعالى ـ قد نزه نفسه عن فعل الباطل والعبث، فكيف يقول الباطل والعبث ويتكلم بكلام ينزله على خلقه لا يريد به إفهامهم‏؟‏ ‏!‏ وهذا من أقوى حجج الملحدين‏.‏
وأيضًا، فما في القرآن آية إلا وقد تكلم الصحابة والتابعون لهم بإحسان في معناها، وبينوا ذلك‏.‏ وإذا قيل‏:‏ فقد يختلفون في بعض ذلك، قيل‏:‏ كما قد يختلفون في آيات الأمر والنهي، وآيات الأمر والنهي مما اتفق المسلمون على أن الراسخين في العلم يعلمون معناها‏.‏ وهذا ـ أيضًا ـ مما يدل على أن الراسخين في العلم يعلمون تفسير المتشابه، فإن المتشابه قد يكون في آيات الأمر والنهي، كما يكون في آيات الخبر، وتلك مما اتفق العلماء على معرفة الراسخين لمعناها، فكذلك الأخرى، فإنه على قول النفاة لم يعلم معنى المتشابه إلا الله، لا ملك ولا رسول ولا عالم، وهذا خلاف إجماع المسلمين في متشابه الأمر والنهي‏.‏
وأيضًا، فلفظ التأويل يكون للمحكم، كما يكون للمتشابه، كما دل القرآن والسنة وأقوال الصحابة على ذلك، وهم يعلمون معنى المحكم فكذلك معنى المتشابه‏.‏ وأي فضيلة في المتشابه حتى ينفرد الله بعلم معناه والمحكم أفضل منه وقد بين معناه لعباده، فأي فضيلة في المتشابه حتى يستأثر الله بعلم معناه، وما استأثر الله بعلمه كوقت الساعة لم ينزل به /خطابًا، ولم يذكر في القرآن آية تدل على وقت الساعة‏!‏ ونحن نعلم أن الله استأثر بأشياء لم يطلع عباده عليها، وإنما النزاع في كلام أنزله، وأخبر أنه هدى وبيان وشفاء، وأمر بتدبره، ثم يقال‏:‏ إن منه ما لا يعرف معناه إلا الله، ولم يبين الله ولا رسوله ذلك القدر الذي لا يعرف أحد معناه؛ ولهذا صار كل من أعرض عن آيات لا يؤمن بمعناها يجعلها من المتشابه بمجرد دعواه، ثم سبب نزول الآية قصة أهل نجران، وقد احتجوا بقوله‏:‏ ‏[‏إنَّا‏]‏ ‏[‏نَحْنُ‏]‏ وبقوله‏:‏ ‏{‏بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 45‏]‏، ‏{‏وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏، وهذا قد اتفق المسلمون على معرفة معناه، فكيف يقال‏:‏ إن المتشابه لا يعرف معناه لا الملائكة ولا الأنبياء، ولا أحد من السلف، وهو من كلام الله الذي أنزله إلينا، وأمرنا أن نتدبره ونعقله، وأخبر أنه بيان وهدى وشفاء ونور، وليس المراد من الكلام إلا معانيه، ولولا المعنى لم يجز التكلم بلفظ لا معنى له‏.‏
وقد قال الحسن‏:‏ ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا أنزلت، وماذا عنى بها‏.‏
ومن قال‏:‏ إن سبب نزول الآية سؤال اليهود عن حروف المعجم في ‏{‏الم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 1‏]‏، بحساب الجمل، فهذا نقل باطل‏.‏
أما أولًا‏:‏ فلأنه من رواية الكلبي‏.‏
/وأما ثانيًا‏:‏ فهـذا قد قيـل‏:‏ إنهم قالـوه في أول مَقدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينـة، وسورة آل عمـران إنما نـزل صـدرها متأخـرًا لما قدم وفد نجران بالنقل المستفيض المتواتر، وفيها فـرض الحج، وإنما فـرض سـنة تسـع أو عشـر، لم يفرض في أول الهجرة باتفاق المسلمين‏.‏
وأما ثالثًا‏:‏ فلأن حروف المعجم ودلالة الحرف على بقاء هذه الأمة، ليس هو من تأويل القرآن الذي استأثر الله بعلمه، بل إما أن يقال‏:‏ إنه ليس مما أراده الله بكلامه، فلا يقال‏:‏ إنه انفرد بعلمه، بل دعوى دلالة الحروف على ذلك باطل، وإما أن يقال‏:‏ بل يدل عليه، فقد علم بعض الناس ما يدل عليه، وحينئذ فقد علم الناس ذلك، أما دعوى دلالة القرآن على ذلك، وأن أحدًا لا يعلمه فهذا هو الباطل‏.‏
وأيضًا، فإذا كانت الأمـور العلمية التي أخـبر الله بها في القـرآن لا يعرفها الرسول، كان هـذا من أعظم قدح الملاحدة فيه، وكان حجة لما يقولونه من أنه كان لا يعرف الأمور العلمية، أو أنه كان يعرفها ولم يبينها، بل هـذا القول يقتضي أنه لم يكن يعلمها، فإن ما لا يعلمه إلا الله لا يعلمه النبي ولا غيره‏.‏
وبالجملة، فالدلائل الكثيرة توجب القطع ببطلان قول من يقول‏:‏ إن في القرآن آيات لا يعلم معناها الرسول ولا غيره‏.‏
/نعم قد يكون في القرآن آيات لا يعلم معناها كثير من العلماء، فضلًا عن غيرهم، وليس ذلك في آية معينة، بل قد يشكل على هذا ما يعرفه هذا، وذلك تارة يكون لغرابة اللفظ، وتارة لاشتباه المعنى بغيره، وتارة لشبهة في نفس الإنسان تمنعه من معرفة الحق، وتارة لعدم التدبر التام، وتارة لغير ذلك من الأسباب، فيجب القطع بأن قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، أن الصواب قول من يجعله معطوفًا، ويجعل الواو لعطف مفرد على مفرد، أو يكون كلا القولين حقًا، وهي قراءتان، والتأويل المنفي غير التأويل المثبت، وإن كان الصواب هو قول من يجعلها واو استئناف، فيكون التأويل المنفي علمه عن غير الله هو الكيفيات التي لا يعلمها غيره، وهذا فيه نظر، وابن عباس جاء عنه أنه قال‏:‏ أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله، وجاء عنه‏:‏ أن الراسخين لا يعلمون تأويله‏.‏
وجاء عنه أنه قال‏:‏ التفسير على أربعة أوجه‏:‏ تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، من ادعى علمه فهو كاذب‏.‏ وهذا القول يجمع القولين، ويبين أن العلماء يعلمون من تفسيره ما لا يعلمه غيرهم، وأن فيه ما لا يعلمه إلا الله، فأما من جعل الصواب قول من جعل الوقف عند قوله‏:‏ ‏[‏إلا الله‏]‏ وجعل التأويل بمعنى التفسير، فهذا خطأ قطعًا‏.‏