الْبَابُ الْخَامِسُ أَدَبُ النَّفْسِ :الْفَصْلُ السَّابِعُ: فِي الْمُرُوءَة 3
 

بسم الله الرحمن الرحيم

َ

الْفَصْلُ السَّابِعُ: فِي الْمُرُوءَة 3

وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ قُتَيْبَةَ لِرَجُلٍ اعْتَذَرَ إلَيْهِ: لاَ يَدْعُوَنَّكَ أَمْرٌ قَدْ تَخَلَّصْت مِنْهُ إلَى الدُّخُولِ فِي أَمْرٍ لَعَلَّك لاَ تَخْلُصُ مِنْهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: شَفِيعُ الْمُذْنِبِ إقْرَارُهُ، وَتَوْبَتُهُ اعْتِذَارُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: مَنْ لَمْ يَقْبَلْ التَّوْبَةَ عَظُمَتْ خَطِيئَتُهُ، وَمَنْ لَمْ يُحْسِنْ إلَى التَّائِبِ قَبُحَتْ إسَاءَتُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْكَرِيمُ مَنْ أَوْسَعَ الْمَغْفِرَةَ إذَا ضَاقَتْ بِالْمُذْنِبِ الْمَعْذِرَةُ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: الْعُذْرُ يَلْحَقُهُ التَّحْرِيفُ وَالْكَذِبُ وَلَيْسَ فِي غَيْرِ مَا يُرْضِيك لِي أَرَبُ وَقَدْ أَسَأْتُ فَبِالنُّعْمَى الَّتِي سَلَفَتْ الا مَنَنْتَ بِعَفْوٍ مَا لَهُ سَبَبُ وَإِنْ عَجَّلَ الْعُذْرَ قَبْلَ تَوْبَتِهِ وَقَدَّمَ التَّنَصُّلَ قَبْلَ إنَابَتِهِ فَالْعُذْرُ تَوْبَةٌ وَالتَّنَصُّلُ إنَابَةٌ فَلاَ يَكْشِفُ عَنْ بَاطِنِ عُذْرِهِ، وَلاَ يُعَنَّفُ بِظَاهِرِ غَدْرِهِ، فَيَكُونَ لَئِيمَ الظَّفَرِ سِيءَ الْمُكَافَأَةِ. وَقَدْ قِيلَ: مَنْ غَلَبَتْهُ الْحِدَةُ فَلاَ تَغْتَرَّ بِمَوَدَّتِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: شَافِعُ الْمُذْنِبِ خُضُوعُهُ إلَى عُذْرِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: اقْبَلْ مَعَاذِيرَ مَنْ يَأْتِيكَ مُعْتَذِرًا إنْ بَرَّ عِنْدَك فِيمَا قَالَ أَوْ فَجَرَا فَقَدْ أَطَاعَكَ مَنْ يُرْضِيكَ ظَاهِرُهُ وَقَدْ أَجَلَّكَ مَنْ يَعْصِيكَ مُسْتَتِرَا وَإِنْ تَرَكَ نَفْسَهُ فِي زَلَلِهِ، وَلَمْ يَتَدَارَكْ بِعُذْرِهِ وَتَنَصُّلِهِ، وَلاَ مَحَاهُ بِتَوْبَتِهِ، وَإِنَابَتِهِ، رَاعَيْت فِي الْمُتَارَكَةِ فَسَتَجِدُهُ لاَ يَنْفَكُّ فِيهَا مِنْ أُمُورٍ ثَلاَثَةٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ كَفَّ عَنْ سَيِّئِ عَمَلِهِ، وَأَقْلَعَ عَنْ سَالِفِ زَلَلِهِ، فَالْكَفُّ إحْدَى التَّوْبَتَيْنِ، وَالاقْلاَعُ أَحَدُ الْعُذْرَيْنِ. فَكُنْ أَنْتَ الْمُعْتَذِرُ عَنْهُ بِصَفْحِك وَالْمُتَنَصِّلُ لَهُ بِفَضْلِك. فَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: الْمُحْسِنُ عَلَى الْمُسِيءِ أَمِيرٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ وَقَفَ عَلَى مَا أَسْلَفَ مِنْ زَلَلِهِ غَيْرَ تَارِكٍ وَلاَ مُتَجَاوِزٍ فَوُقُوفُ الْمَرَضِ أَحَدُ البرأين، وَكَفُّهُ عَنْ الزِّيَادَةِ إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، وَقَدْ اسْتَبْقَى بِالْوُقُوفِ عَنْ الْمُتَجَاوِزِ أَحَدَ شَطْرَيْهِ فَعَوَّلَ بِهِ عَلَى صَلاَحِ شَطْرِهِ الاخَرِ. وَإِيَّاكَ وَإِرْجَاءَهُ فَإِنَّ الارْجَاءَ يُفْسِدُ شَطْرَ صَلاَحِهِ، وَالتَّلاَفِيَ يُصْلِحُ شَطْرَ فَسَادِهِ، فَإِنَّ مَنْ سَقِمَ مِنْ جِسْمِهِ مَا لَمْ يُعَالِجْهُ سَرَى السَّقَمُ إلَى صِحَّتِهِ، وَإِنْ عَالَجَهُ سَرَتْ الصِّحَّةُ إلَى سَقَمِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَتَجَاوَزَ مَعَ الاوْقَاتِ فَيَزِيدَ فِيهِ عَلَى مُرُورِ الايَّامِ، فَهَذَا هُوَ الدَّاءُ الْعُضَالُ فَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِدْرَاكُهُ وَتَأَتَّى اسْتِصْلاَحُهُ، وَذَلِكَ بِاسْتِنْزَالِهِ عَنْهُ إنْ عَلاَ، وَبِإِرْغَابِهِ إنْ دَنَا، وَبِعِتَابِهِ إنْ سَاوَى، وَالا فَآخِرُ الدَّاءِ الْعَيَاءِ الْكَيُّ. وَمَنْ بَلَغَتْ بِهِ الاعْذَارُ إلَى غَايَتِهَا فَلاَ لاَئِمَةَ عَلَيْهِ وَالْمُقِيمُ عَلَى شِقَاقِهِ بَاغٍ مَصْرُوعٌ.

وَقَدْ قِيلَ: مَنْ سَلَّ سَيْفَ الْبَغْيِ أَغْمَدَهُ فِي رَأْسِهِ فَهَذَا شَرْطٌ. وَأَمَّا الْمُسَامَحَةُ فِي الْحُقُوقِ؛ فَلِأَنَّ الاسْتِيفَاءَ مُوحِشٌ وَالاسْتِقْصَاءَ مُنَفِّرٌ وَمَنْ أَرَادَ كُلَّ حَقِّهِ مِنْ النُّفُوسِ الْمُسْتَصْعَبَةِ بِشُحٍّ أَوْ طَمَعٍ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الا بِالْمُنَافَرَةِ وَالْمُشَاقَّةِ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ الا بِالْمُخَاشَنَةِ وَالْمُشَاحَّةِ؛ لِمَا اسْتَقَرَّ فِي الطِّبَاعِ مِنْ مَقْتِ مَنْ شَاقَّهَا وَنَافَرَهَا، وَبُغْضِ مَنْ شَاحَّهَا وَنَازَعَهَا، كَمَا اسْتَقَرَّ حُبُّ مَنْ يَاسَرَهَا وَسَامَحَهَا فَكَانَ أَلْيَقُ لِأُمُورِ الْمُرُوءَةِ اسْتِلْطَافَ النُّفُوسِ بِالْمُيَاسَرَةِ وَالْمُسَامَحَةِ، وَتَأَلُّفَهَا بِالْمُقَارَبَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ عَاشَرَ إخْوَانَهُ بِالْمُسَامَحَةِ دَامَتْ لَهُ مَوَدَّاتُهُمْ. وَقَالَ بَعْضُ الادَبَاءِ: إذَا أَخَذْت عَفْوَ الْقُلُوبِ زَكَا رِيعُك، وَإِنْ اسْتَقْصَيْت أَكْدَيْتَ. وَالْمُسَامَحَةُ نَوْعَانِ فِي عُقُودٍ وَحُقُوقٍ. فَأَمَّا الْعُقُودُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا سَهْلَ الْمُنَاجَزَةِ، قَلِيلَ الْمُحَاجَزَةِ مَأْمُونَ الْغَيْبَةِ بَعِيدًا مِنْ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ.

رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {أَجْمِلُوا فِي طَلَبِ الدُّنْيَا فَإِنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا كُتِبَ لَهُ مِنْهَا}. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: {الا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: التَّغَابُنُ لِلضَّعِيفِ}. وَحَكَى ابْنُ عَوْنٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ اشْتَرَى لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ إزَارًا بِسِتَّةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ فَأَعْطَى التَّاجِرَ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ، فَقَالَ: ثَمَنُهُ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ. فَقَالَ: إنِّي اشْتَرَيْته لِرَجُلٍ لاَ يُقَاسِمُ أَخَاهُ دِرْهَمًا. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْمُسَاهَلَةَ فِي الْعُقُودِ عَجْزٌ، وَأَنَّ الاسْتِقْصَاءَ فِيهَا حَزْمٌ، حَتَّى أَنَّهُ لَيُنَافِسُ فِي الْحَقِيرِ، وَإِنْ جَادَ بِالْجَلِيلِ الْكَثِيرِ كَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ وَقَدْ مَاكَسَ فِي دِرْهَمٍ، وَهُوَ يَجُودُ بِمَا يَجُودُ بِهِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: ذَلِكَ مَالِي أَجْوَدُ بِهِ وَهَذَا عَقْلِي بَخِلْت بِهِ. وَهَذَا إنَّمَا يَنْسَاعُ مِنْ أَهْلِ الْمُرُوءَةِ فِي دَفْعِ مَا يُخَادِعُهُمْ بِهِ الادْنِيَاءُ، وَيُغَابِنُهُمْ بِهِ الاشِحَّاءُ، وَهَكَذَا كَانَتْ حَالُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ. فَأَمَّا مُمَاكَسَةُ الاسْتِنْزَالِ وَالاسْتِسْمَاحِ فَكَلاَ؛ لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِلْكَرْمِ وَمُبَايِنٌ لِلْمُرُوءَةِ. وَأَمَّا الْحُقُوقُ فَتَتَنَوَّعُ الْمُسَامَحَةُ فِيهَا نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي الاحْوَالِ، وَالثَّانِي فِي الامْوَالِ. فَأَمَّا الْمُسَامَحَةُ فِي الاحْوَالِ فَهُوَ إطْرَاحُ الْمُنَازَعَةِ فِي الرُّتَبِ وَتَرْكُ الْمُنَافَسَةِ فِي التَّقَدُّمِ. فَإِنَّ مُشَاحَّةَ النُّفُوسِ فِيهَا أَعْظَمُ وَالْعِنَادَ عَلَيْهَا أَكْثَرُ، فَإِنْ سَامَحَ فِيهَا وَلَمْ يُنَافِسْ كَانَ مَعَ أَخْذِهِ بِأَفْضَلِ الاخْلاَقِ وَاسْتِعْمَالِهِ لِأَحْسَنِ الادَابِ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ مِنْ إفْضَالِهِ بِرَغَائِبِ الامْوَالِ، ثُمَّ هُوَ أَزْيَدُ فِي رُتْبَتِهِ وَأَبْلَغُ فِي تَقَدُّمِهِ. وَإِنْ شَاحَّ فِيهَا وَنَازَعَ كَانَ مَعَ ارْتِكَابِهِ لِأَخْشَنِ الاخْلاَقِ وَاسْتِعْمَالِهِ لِأَهْجَنِ الادَابِ أَنْكَى فِي النُّفُوسِ مِنْ حَدِّ السَّيْفِ وَطَعْنِ السِّنَانِ، ثُمَّ هُوَ أَخْفَضُ لِلْمَرْتَبَةِ وَأَمْنَعُ مِنْ التَّقَدُّمِ.

حُكِيَ أَنَّ فَتًى مِنْ بَنِي هَاشِمٍ تَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إنَّ الادَابَ مِيرَاثُ الاشْرَافِ وَلَسْتُ أَرَى عِنْدَك مَنْ سَلَفِك إرْثًا. وَأَمَّا الْمُسَامَحَةُ فِي الامْوَالِ فَتَتَنَوَّعُ ثَلاَثَةَ أَنْوَاعٍ: مُسَامَحَةُ إسْقَاطٍ لِعُدْمٍ، وَمُسَامَحَةُ تَخْفِيفٍ لِعَجْزٍ، وَمُسَامَحَةُ إنْكَارٍ لِعُسْرَةٍ. وَهِيَ مَعَ اخْتِلاَفِ أَسْبَابِهَا تَفَضُّلٌ مَأْثُورٌ وَتَآلُفٌ مَشْكُورٌ. وَإِذَا كَانَ الْكَرِيمُ قَدْ يَجُودُ بِمَا تَحْوِيهِ يَدُهُ، وَيَنْفُذُ فِيهِ تَصَرُّفُهُ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يَجُودَ بِمَا خَرَجَ عَنْ يَدِهِ فَطَابَ نَفْسًا بِفِرَاقِهِ. وَقَدْ تَصِلُ الْمُسَامَحَةُ فِي الْحُقُوقِ إلَى مَنْ لاَ يَقْبَلُ الْبِرَّ وَيَأْبَى الصِّلَةَ فَيَكُونُ أَحْسَنَ مَوْقِعًا وَأَزْكَى مَحَلًّا. وَرُبَّمَا كَانَتْ الْمُسَامَحَةُ فِيهَا آمَنُ مِنْ رَدِّ السَّائِلِ وَمَنْعِ الْمُجْتَدِي؛ لِأَنَّ السَّائِلَ كَمَا اجْتَرَأَ عَلَى سُؤَالِك فَسَيَجْتَرِئُ عَلَى سُؤَالِ غَيْرِك إنْ رَدَدْته. وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ صَارَ أَسِيرَ حَقِّك، وَرَهِينَ دَيْنِك يَجِدُ بُدًّا مِنْ مُسَامَحَتِك وَمُيَاسَرَتِك، ثُمَّ لَك مَعَ ذَلِكَ حُسْنُ الثَّنَاءِ وَجَزِيلُ الاجْرِ. وَقَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ رحمه الله: الْمَرْءُ بَعْدَ الْمَوْتِ أُحْدُوثَةٌ يَفْنَى وَتَبْقَى مِنْهُ آثَارُهْ فَأَحْسَنُ الْحَالاتِ حَالُ امْرِئٍ تَطِيبُ بَعْدَ الْمَوْتِ أَخْبَارُهْ فَهَذِهِ حَالُ الْمُيَاسَرَةِ.

وَأَمَّا الافْضَالُ فَنَوْعَانِ: إفْضَالُ اصْطِنَاعٍ، وَإِفْضَالُ اسْتِكْفَافٍ وَدِفَاعٍ. فَأَمَّا إفْضَالُ الاصْطِنَاعِ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا أَسَدَاهُ جُودًا فِي شَكُورٍ. وَالثَّانِي: مَا تَأَلَّفَ بِهِ نَبْوَةَ نُفُورٍ. وَكِلاَهُمَا مِنْ شُرُوطِ الْمُرُوءَةِ لِمَا فِيهِمَا مِنْ ظُهُورِ الاصْطِنَاعِ، وَتَكَاثُرِ الاشْيَاعِ وَالاتْبَاعِ. وَمَنْ قَلَّتْ صَنَائِعُهُ فِي الشَّاكِرِينَ، وَأَعْرَضَ عَنْ تَأَلُّفِ النَّافِرِينَ، كَانَ فَرْدًا مَهْجُورًا، وَتَابِعًا مَحْقُورًا. وَلاَ مُرُوءَةَ لِمَتْرُوكٍ مُطَّرَحٍ، وَلاَ قَدْرَ لِمَحْقُورٍ مُهْتَضَمٍ.

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَا طَاوَعَنِي النَّاسُ عَلَى شَيْءٍ أَرَدْتُهُ مِنْ الْحَقِّ حَتَّى بَسَطْتُ لَهُمْ طَرَفًا مِنْ الدُّنْيَا. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: أَقَلُّ مَا يَجِبُ لِلْمُنْعِمِ بِحَقِّ نِعْمَتِهِ أَنْ لاَ يَتَوَصَّلَ بِهَا إلَى مَعْصِيَتِهِ. وَأَنْشَدْت لِبَعْضِ الاعْرَابِ: مَنْ جَمَعَ الْمَالَ وَلَمْ يَجُدْ بِهِ وَتَرَكَ الْمَالَ لِعَامِ جَدْبِهِ هَانَ عَلَى النَّاسِ هَوَانَ كَلْبِهِ يَبْقَى الثَّنَاءُ وَتَذْهَبُ الامْوَالُ وَلِكُلِّ دَهْرٍ دَوْلَةٌ وَرِجَالُ مَا نَالَ مَحْمَدَةَ الرِّجَالِ وَشُكْرَهُمْ الا الْجَوَادُ بِمَالِهِ الْمِفْضَالُ لاَ تَرْضَ مِنْ رَجُلٍ حَلاَوَةَ قَوْلِهِ حَتَّى يُصَدِّقَ مَا يَقُولُ فِعَالُ فَإِنْ ضَاقَتْ بِهِ الْحَالُ عَنْ الاصْطِنَاعِ بِمَالِهِ فَقَدْ عَدِمَ مِنْ آلَةِ الْمَكَارِمِ عِمَادَهَا، وَفَقَدَ مِنْ شُرُوطِ الْمُرُوءَةِ سِنَادَهَا، فَلْيُوَاسِ بِنَفْسِهِ مُوَاسَاةَ الْمُسَاعِفِ وَلْيَسْعَدْ بِهَا إسْعَادَ الْمُتَأَلِّفِ.

قَالَ الْمُتَنَبِّي: فَلْيُسْعِدْ النُّطْقُ إنْ لَمْ تُسْعَدْ الْحَالُ وَإِنْ كَانَ لاَ يَرَاهَا، وَإِنْ أَجْهَدَهَا الا تَبَعًا لِلْمُفْضِلِينَ قَلِيلَةً بَيْنَ الْمُكْثِرِينَ فَإِنَّ النَّاسَ لاَ يُسَاوَوْنَ بَيْنَ الْمُعْطِي وَالْمَانِعِ، وَلاَ يُقْنِعُهُمْ الْقَوْلُ دُونَ الْفِعْلِ، وَلاَ يُغْنِيهِمْ الْكَلاَمُ عَنْ الْمَالِ، وَيَرَوْنَهُ كَالصَّدَى إنْ رَدَّ صَوْتًا لَمْ يَجِدْ نَفْعًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: يَجُودُ بِالْوَعْدِ وَلَكِنَّهُ يَدْهُنُ مِنْ قَارُورَةٍ فَارِغَهْ فَكُلُّ مَا خَرَجَ عِنْدَهُمْ عَنْ الْمَالِ كَانَ فَارِغًا، وَكُلُّ مَا عَدَا الافْضَالَ بِهِ كَانَ هَيِّنًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ الْقَوْلِ فِي شُرُوطِ الافْضَالِ مَا أَقْنَعَ. وَأَمَّا إفْضَالُ الاسْتِكْفَافِ؛ فَلِأَنَّ ذَا الْفَضْلِ لاَ يَعْدَمُ حَاسِدَ نِعْمَةٍ وَمُعَانِدَ فَضِيلَةٍ يَعْتَرِيهِ الْجَهْلُ بِإِظْهَارِ عِنَادِهِ، وَيَبْعَثُهُ اللُّؤْمُ عَلَى الْبَذَاءِ بِسَفَهِهِ فَإِنْ غَفَلَ عَنْ اسْتِكْفَافِ السُّفَهَاءِ، وَأَعْرَضَ عَنْ اسْتِدْفَاعِ أَهْلِ الْبَذَاءِ، صَارَ عِرْضُهُ هَدَفًا لِلْمَثَالِبِ، وَحَالُهُ عُرْضَةً لِلنَّوَائِبِ، وَإِذَا اسْتَكْفَى السَّفِيهَ وَاسْتَدْفَعَ الْبَذِيءَ صَانَ عَرْضَهُ وَحَمَى نِعْمَتَهُ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَا وَقَى بِهِ الْمَرْءُ عِرْضَهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ}. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: ذُبُّوا بِأَمْوَالِكُمْ عَنْ أَحْسَابِكُمْ. وَامْتَدَحَ رَجُلٌ الزُّهْرِيَّ فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَتُعْطِي عَلَى كَلاَمِ الشَّيْطَانِ ؟ فَقَالَ: مَنْ ابْتَغَى الْخَيْرَ اتَّقَى الشَّرَّ. وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {مَنْ أَرَادَ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ فَلْيُعْطِ الشُّعَرَاءَ}. وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الشَّعْرَ سَاتِرٌ يَسْتُرُ بِهِ مَا ضَمِنَ مِنْ مَدْحٍ أَوْ هِجَاءٍ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قِيلَ: لاَ تُؤَاخِ شَاعِرًا فَإِنَّهُ يَمْدَحُك بِثَمَنٍ وَيَهْجُوك مَجَّانًا، وَلِاسْتِكْفَافِ السُّفَهَاءِ بِالافْضَالِ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخْفِيَهُ حَتَّى لاَ يَنْتَشِرَ فِيهِ مَطَامِعُ السُّفَهَاءِ فَيَتَوَصَّلُونَ إلَى اجْتِذَابِهِ بِسَبِّهِ، وَإِلَى مَالِهِ بِثَلْبِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَطَلَّبَ لَهُ فِي الْمُجَامَلَةِ وَجْهًا وَيَجْعَلَهُ فِي الافْضَالِ عَلَيْهِ سَبَبًا؛ لِأَنَّهُ لاَ يَرَى أَنَّهُ عَلَى السَّفَهِ وَاسْتِدَامَةِ الْبَذَاءِ.

وَاعْلَمْ أَنَّك مَا حَيِيتَ مَلْحُوظُ الْمَحَاسِنِ مَحْفُوظُ الْمَسَاوِئِ. ثُمَّ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ حَدِيثٌ مُنْتَشِرٌ لاَ يُرَاقِبُك صَدِيقٌ، وَلاَ يُحَامِي عَنْك شَقِيقٌ، فَكُنْ أَحْسَنَ حَدِيثٍ يُنْشَرُ يَكُنْ سَعْيُك فِي النَّاسِ مَشْكُورًا، وَأَجْرُك عِنْدَ اللَّهِ مَذْخُورًا. فَقَدْ رَوَى زِيَادُ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مَيْمُونٍ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ}. فَهَذَا مَا اقْتَضَاهُ هَذَا الْفَصْلُ مِنْ شُرُوطِ الْمُرُوءَةِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ كِتَابِنَا هَذَا مِنْ شُرُوطِهَا وَمَا اتَّصَلَ بِحُقُوقِهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. .

 

الْبَابُ الْخَامِسُ أَدَبُ النَّفْسِ :الْفَصْلُ السَّابِعُ: فِي الْمُرُوءَة 1

الْبَابُ الْخَامِسُ أَدَبُ النَّفْسِ :الْفَصْلُ السَّابِعُ: فِي الْمُرُوءَة 2