الْبَابُ الْخَامِسُ أَدَبُ النَّفْسِ :الْفَصْلُ الثَّامِنُ: فِي آدَابٍ مَنْثُورَةٍ
 

بسم الله الرحمن الرحيم

َ

الْفَصْلُ الثَّامِنُ: فِي آدَابٍ مَنْثُورَةٍ

اعْلَمْ أَنَّ الادَابَ مَعَ اخْتِلاَفِهَا بِتَنَقُّلِ الاحْوَالِ وَتَغَيُّرِ الْعَادَاتِ لاَ يُمْكِنُ اسْتِيعَابُهَا، وَلاَ يُقْدَرُ عَلَى حَصْرِهَا، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ كُلُّ إنْسَانٍ مَا بَلَغَهُ الْوُسْعُ مِنْ آدَابِ زَمَانِهِ، وَاسْتَحْسَنَ بِالْعُرْفِ مِنْ عَادَاتِ دَهْرِهِ، وَلَوْ أَمْكَنَ ذَلِكَ لَكَانَ الاوَّلُ قَدْ أَغْنَى الثَّانِيَ عَنْهَا، وَالْمُتَقَدِّمُ قَدْ كَفَى الْمُتَأَخِّرَ تَكَلُّفَهَا، وَإِنَّمَا حَظُّ الاخِيرِ أَنْ يَتَعَانَى حِفْظَ الشَّارِدِ وَجَمْعَ الْمُفْتَرِقِ. ثُمَّ يَعْرِضَ مَا تَقَدَّمَ عَلَى حُكْمِ زَمَانِهِ، وَعَادَاتِ وَقْتِهِ، فَيُثْبِتَ مَا كَانَ مُوَافِقًا، وَيَنْفِيَ مَا كَانَ مُخَالِفًا، ثُمَّ يَسْتَمِدَّ خَاطِرَهُ فِي اسْتِنْبَاطِ زِيَادَةٍ وَاسْتِخْرَاجِ فَائِدَةٍ فَإِنْ أَسْعَفَ بِشَيْءٍ فَازَ بِدَرَكِهِ، وَحَظِيَ بِفَضِيلَتِهِ، ثُمَّ يُعَبِّرُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَا كَانَ مَأْلُوفًا مِنْ كَلاَمِ الْوَقْتِ وَعُرْفِ أَهْلِهِ فَإِنَّ لِأَهْلِ كُلِّ وَقْتٍ فِي الْكَلاَمِ عَادَةً تُؤْلَفُ، وَعِبَارَةً تُعْرَفُ؛ لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ وَأَسْبَقَ إلَى الافْهَامِ. ثُمَّ يُرَتِّبُ ذَلِكَ عَلَى أَوَائِلِهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَيُثْبِتُهُ عَلَى أُصُولِهِ وَقَوَاعِدِهِ حَسْبَمَا يَقْتَضِيهِ الْجِنْسُ فَإِنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْعُلُومِ طَرِيقَةً هِيَ أَوْضَحُ مَسْلَكًا وَأَسْهَلُ مَأْخَذًا. فَهَذِهِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ هِيَ حَظُّ الاخِيرِ فِيمَا يُعَانِيهِ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي كُلِّ تَصْنِيفٍ مُسْتَحْدَثٍ وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَكَانَ تَعَاطِي مَا تَقَدَّمَ بِهِ الاوَّلُ عَنَاءً ضَائِعًا وَتَكَلُّفًا مُسْتَهْجَنًا. وَنَرْجُو اللَّهَ أَنْ يُمِدَّنَا بِالتَّوْفِيقِ لِتَأْدِيَةِ هَذِهِ الشُّرُوطِ، وَتُنْهِضَنَا الْمَعُونَةُ بِتَوْفِيَةِ هَذِهِ الْحُقُوقِ، حَتَّى نَسْلَمَ مِنْ ذَمِّ التَّكَلُّفِ وَنَبْرَأَ مِنْ عُيُوبِ التَّقْصِيرِ، وَإِنْ كَانَ الْيَسِيرُ مَغْفُورًا وَالْخَاطِئُ مَعْذُورًا. فَقَدْ قِيلَ: مَنْ صَنَّفَ كِتَابًا فَقَدْ اسْتَهْدَفَ فَإِنْ أَحْسَنَ فَقَدْ اسْتَعْطَفَ، وَإِنْ أَسَاءَ فَقَدْ اسْتَقْذَفَ.

وَقَدْ مَضَتْ أَبْوَابٌ تَضَمَّنَتْ فُصُولًا رَأَيْتُ إتْبَاعَهَا بِمَا لَمْ أُحِبَّ الاخْلاَلَ بِهِ. فَمِنْ ذَلِكَ حَالُ الانْسَانِ فِي مَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ فَإِنَّ الدَّاعِيَ إلَى ذَلِكَ شَيْئَانِ: حَاجَةٌ مَاسَّةٌ وَشَهْوَةٌ بَاعِثَةٌ. فَأَمَّا الْحَاجَةُ فَتَدْعُو إلَى مَا سَدَّ الْجُوعَ وَسَكَّنَ الظَّمَأَ. وَهَذَا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ عَقْلًا وَشَرْعًا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ حِفْظِ النَّفْسِ وَحِرَاسَةِ الْجَسَدِ. وَلِذَلِكَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْوِصَالِ بَيْنَ صَوْمِ الْيَوْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُضْعِفُ الْجَسَدَ وَيُمِيتُ النَّفْسَ وَيُعْجِزُ عَنْ الْعِبَادَةِ. وَكُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْهُ الشَّرْعُ وَيَدْفَعُ عَنْهُ الْعَقْلُ، وَلَيْسَ لِمَنْ مَنَعَ نَفْسَهُ قَدْرَ الْحَاجَةِ حَظٌّ مِنْ بِرٍّ، وَلاَ نَصِيبٌ مِنْ زُهْدٍ؛ لِأَنَّ مَا حَرَمَهَا مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ بِالْعَجْزِ وَالضَّعْفِ أَكْثَرُ ثَوَابًا وَأَعْظَمُ أَجْرًا، إذْ لَيْسَ فِي تَرْكِ الْمُبَاحِ ثَوَابٌ يُقَابِلُ فِعْلَ الطَّاعَاتِ، وَإِتْيَانَ الْقُرَبِ، وَمَنْ أَخْسَرَ نَفْسَهُ رِبْحًا مَوْفُورًا، أَوْ أَحْرَمَهَا أَجْرًا مَذْخُورًا، كَانَ زُهْدُهُ فِي الْخَيْرِ أَقْوَى مِنْ رَغْبَتِهِ وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا التَّكْلِيفِ الا الشَّهْوَةُ بِرِيَائِهِ وَسُمْعَتِهِ.

وَأَمَّا الشَّهْوَةُ فَتَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ: شَهْوَةٌ فِي الاكْثَارِ وَالزِّيَادَةِ وَشَهْوَةٌ فِي تَنَاوُلِ الالْوَانِ الْمُلِذَّةِ. فَأَمَّا النَّوْعُ الاوَّلُ وَهُوَ شَهْوَةُ الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، وَالاكْثَارِ عَلَى مِقْدَارِ الْكِفَايَةِ، فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ؛ لِأَنَّ تَنَاوُلَ مَا زَادَ عَلَى الْكِفَايَةِ نَهَمٌ مُعَرٍّ وَشَرَهٌ مُضِرٌّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إيَّاكُمْ وَالْبِطْنَةَ فَإِنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلدِّينِ مُورِثَةٌ لِلسَّقَمِ مُكْسِلَةٌ عَنْ الْعِبَادَةِ}. وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: إنْ كُنْتَ بَطِنًا فَعُدَّ نَفْسَك زَمِنًا. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: أَقْلِلْ طَعَامًا تُحْمَدْ مَنَامًا. وَقَالَ بَعْضُ الادَبَاءِ: الرُّعْبُ لُؤْمٌ وَالنَّهَمُ شُؤْمٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: أَكْبَرُ الدَّوَاءِ تَقْدِيرُ الْغِذَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: فَكَمْ مِنْ لُقْمَةٍ مَنَعَتْ أَخَاهَا بِلَذَّةِ سَاعَةٍ أَكَلاَتِ دَهْرِ وَكَمْ مِنْ طَالِبٍ يَسْعَى لِأَمْرٍ وَفِيهِ هَلاَكُهُ لَوْ كَانَ يَدْرِي وَقَالَ آخَرُ: كَمْ دَخَلَتْ أَكْلَةٌ حَشَا شَرِهٍ فَأَخْرَجَتْ رُوحَهُ مِنْ الْجَسَدِ لاَ بَارَكَ اللَّهُ فِي الطَّعَامِ إذَا كَانَ هَلاَكُ النُّفُوسِ فِي الْمَعِدِ وَرُبَّ أَكْلَةٍ هَاضَتْ آكِلًا وَحَرَمَتْهُ مَآكِلَ. رَوَى أَبُو يَزِيدَ الْمَدَنِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُرَقَّعِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {إنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ وِعَاءً مَلِيئًا شَرًّا مِنْ بَطْنٍ فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ فَاعِلًا فَاجْعَلُوا ثُلُثًا لِلطَّعَامِ وَثُلُثًا لِلشَّرَابِ وَثُلُثًا لِلرِّيحِ}.

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي وَهُوَ شَهْوَةُ الاشْيَاءِ الْمَلَذَّةِ وَمُنَازَعَةُ النُّفُوسِ إلَى طَلَبِ الانْوَاعِ الشَّهِيَّةِ فَمَذَاهِبُ النَّاسِ فِي تَمْكِينِ النَّفْسِ فِيهَا مُخْتَلِفَةٌ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ صَرْفَ النَّفْسِ عَنْهَا أَوْلَى، وَقَهْرَهَا عَنْ اتِّبَاعِ شَهَوَاتِهَا أَحْرَى، لِيَذِلَّ لَهُ قِيَادُهَا. وَيَهُونَ عَلَيْهِ عِنَادُهَا؛ لِأَنَّ تَمْكِينَهَا وَمَا تَهْوَى بَطَرٌ يُطْغِي وَأَشَرٌ يُرْدِي؛ لِأَنَّ شَهَوَاتِهَا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ فَإِذَا أَعْطَاهَا الْمُرَادَ مِنْ شَهَوَاتِ وَقْتِهَا تَعَدَّتْهَا إلَى شَهَوَاتٍ قَدْ اسْتَحْدَثَتْهَا، فَيَصِيرُ الانْسَانُ أَسِيرَ شَهَوَاتٍ لاَ تَنْقَضِي، وَعَبْدَ هَوًى لاَ يَنْتَهِي. وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْحَالِ لَمْ يُرْجَ لَهُ صَلاَحٌ وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ فَضْلٌ.

وَأَنْشَدْت لِأَبِي الْفَتْحِ الْبُسْتِيِّ: يَا خَادِمَ الْجِسْمِ كَمْ تَشْقَى بِخِدْمَتِهِ لِتَطْلُبَ الرِّبْحَ مِمَّا فِيهِ خُسْرَانُ أَقْبِلْ عَلَى النَّفْسِ وَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا فَأَنْتَ بِالنَّفْسِ لاَ بِالْجِسْمِ إنْسَانُ وَلِلْحَذَرِ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ مَا حُكِيَ أَنَّ أَبَا حَزْمٍ رحمه الله كَانَ يَمُرُّ عَلَى الْفَاكِهَةِ فَيَشْتَهِيهَا فَيَقُولُ: مَوْعِدُك الْجَنَّةُ. وَقَالَ آخَرُ: تَمْكِينُ النَّفْسِ مِنْ لَذَّاتِهَا أَوْلَى، وَإِعْطَاؤُهَا مَا اشْتَهَتْ مِنْ الْمُبَاحَاتِ أَحْرَى؛ لِمَا فِيهِ مِنْ ارْتِيَاحِ النَّفْسِ بِنَيْلِ شَهَوَاتِهَا، وَنَشَاطِهَا بِإِدْرَاكِ لَذَّاتِهَا، فَتَنْحَسِرُ عَنْهَا ذِلَّةُ الْمَقْهُورِ، وَبَلاَدَةُ الْمَجْبُورِ، وَلاَ تَقْصُرُ عَنْ دَرَكٍ وَلاَ تَعْصِي فِي نَهْضَةٍ وَلاَ تَكِلُّ عَنْ اسْتِعَانَةٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ تَوَسُّطُ الامْرَيْنِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِي إعْطَائِهَا كُلَّ شَهَوَاتِهَا بَلاَدَةٌ وَالنَّفْسُ الْبَلِيدَةُ عَاجِزَةٌ، وَفِي مَنْعِهَا عَنْ الْبَعْضِ كَفٌّ لَهَا عَنْ السَّلاَطَةِ، وَفِي تَمْكِينِهَا مِنْ الْبَعْضِ حَسْمٌ لَهَا عَنْ الْبَلاَدَةِ. وَهَذَا لَعَمْرِي أَشْبَهُ الْمَوَاهِبِ بِالسَّلاَمِ؛ لِأَنَّ التَّوَسُّطَ فِي الامُورِ أَحْمَدُ. وَإِذْ قَدْ مَضَى الْكَلاَمُ فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُتْبَعَ بِذِكْرِ الْمَلْبُوسِ.

اعْلَمْ أَنَّ الْحَاجَةَ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ أَدْعَى فَهِيَ إلَى الْمَلْبُوسِ مَاسَّةٌ وَبِهَا إلَيْهِ فَاقَةٌ؛ لِمَا فِي الْمَلْبُوسِ مِنْ حِفْظِ الْجَسَدِ وَدَفْعِ الاذَى وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَحُصُولِ الزِّينَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}. فَمَعْنَى قَوْلِهِ: {أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا}، أَيْ خَلَقْنَا لَكُمْ مَا تَلْبَسُونَ مِنْ الثِّيَابِ. يُوَارِي سَوْآتِكُمْ أَيْ يَسْتُرُ عَوْرَاتِكُمْ وَسُمِّيَتْ الْعَوْرَةُ سَوْأَة؛ لِأَنَّهُ يَسُوءُ صَاحِبَهَا انْكِشَافُهَا مِنْ جَسَدِهِ. وَقَوْلُهُ: وَرِيشًا، فِيهِ أَرْبَعَةِ تَأْوِيلاَتٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ الْمَالُ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَالثَّانِي أَنَّهُ اللِّبَاسُ وَالْعَيْشُ وَالنِّعَمُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَالثَّالِثُ أَنَّهُ الْمَعَاشُ وَهُوَ قَوْلُ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ، وَالرَّابِعُ أَنَّهُ الْجَمَالُ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ. وَقَوْلُهُ: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى}، فِيهِ سِتَّةُ تَأْوِيلاَتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ لِبَاسَ التَّقْوَى هُوَ الايمَانُ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ السَّمْتُ الْحَسَنُ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه. وَالرَّابِعُ: هُوَ خَشْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ الْحَيَاءُ وَهَذَا قَوْلُ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ. وَالسَّادِسُ: هُوَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ. وَقَوْلُهُ: ذَلِكَ خَيْرٌ فِيهِ تَأْوِيلاَنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى، ثُمَّ قَالَ: ذَلِكَ خَيْرٌ، أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْتُهُ خَيْرٌ كُلُّهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى لِبَاسِ التَّقْوَى وَمَعْنَى الْكَلاَمِ، وَإِنَّ لِبَاسَ التَّقْوَى خَيْرٌ مِنْ الرِّيَاشِ وَاللِّبَاسِ وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ.

فَلَمَّا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَ اللِّبَاسِ وَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الامْتِنَانِ عُلِمَ أَنَّهُ مَعُونَةٌ مِنْهُ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفِي اللِّبَاسِ ثَلاَثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا دَفْعُ الاذَى. وَالثَّانِي: سَتْرُ الْعَوْرَةِ. وَالثَّالِثُ: الْجَمَالُ وَالزِّينَةُ. فَأَمَّا دَفْعُ الاذَى بِهِ فَوَاجِبٌ بِالْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ دَفْعَ الْمَضَارِّ وَاجْتِلاَبَ الْمَنَافِعِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ}. فَأَخْبَرَ بِحَالِهَا وَلَمْ يَأْمُرْ بِهَا اكْتِفَاءً بِمَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ، وَاسْتِغْنَاءً بِمَا يَبْعَثُ عَلَيْهِ الطَّبْعُ. وَيَعْنِي بِالظِّلاَلِ الشَّجَرَ وَبِالاكْنَانِ جَمْعِ كِنٍّ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُسْتَكَنُ فِيهِ، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ ثِيَابَ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالصُّوفِ، وَبِقَوْلِهِ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ الدُّرُوعَ الَّتِي تَقِي الْبَأْسَ وَهُوَ الْحَرْبُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: تَقِيهِمْ الْحَرَّ وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَرْدَ، وَقَالَ: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَلَمْ يَذْكُرْ السَّهْلَ، فَعَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا أَصْحَابَ جِبَالٍ وَخِيَامٍ فَذَكَرَ لَهُمْ الْجِبَالَ وَكَانُوا أَصْحَابَ حَرٍّ دُونَ بَرْدٍ فَذَكَرَ لَهُمْ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ فِيمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ اكْتِفَاءٌ بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا عَنْ ذِكْرِ الاخَرِ إذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ السَّرَابِيلَ الَّتِي تَقِي الْحَرَّ أَيْضًا تَقِي الْبَرْدَ وَمَنْ اتَّخَذَ مِنْ الْجِبَالِ أَكْنَانًا اتَّخَذَ مِنْ السَّهْلِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ.

وَأَمَّا سَتْرُ الْعَوْرَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ هَلْ وَجَبَ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالشَّرْعِ ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: وَجَبَ سَتْرُهَا بِالْعَقْلِ لِمَا فِي ظُهُورِهَا مِنْ الْقُبْحِ، وَمَا كَانَ قَبِيحًا فَالْعَقْلُ مَانِعٌ مِنْهُ. الا تَرَى أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ لَمَّا أَكَلاَ مِنْ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَا عَنْهَا بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ تَنْبِيهًا لِعُقُولِهِمَا فِي سَتْرِ مَا رَأَيَاهُ مُسْتَقْبَحًا مِنْ سَوْآتِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا قَدْ كُلِّفَا سَتْرَ مَا لَمْ يَبْدُ لَهُمَا. وَلاَ كُلِّفَاهُ بَعْدَ أَنْ بَدَتْ لَهُمَا وَقَبْلَ سَتْرِهَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: بَلْ سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُ الْجَسَدِ الَّذِي لاَ يُوجِبُ الْعَقْلُ سَتْرَ بَاقِيهِ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ الْعَوْرَةُ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا يَلْزَمُ مِنْ سَتْرِهَا حُكْمًا شَرْعِيًّا.

وَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ وَأَكْثَرُ الْعَرَبِ مَعَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ وُفُورِ الْعَقْلِ وَصِحَّةِ الالْبَابِ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً وَيُحَرِّمُونَ عَلَى نُفُوسِهِمْ اللَّحْمَ وَالْوَدَكَ. وَيَرَوْنَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الْقُرْبَةِ، وَإِنَّمَا الْقُرَبُ مَا اُسْتُحْسِنَتْ فِي الْعَقْلِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}. يَعْنِي بِقَوْلِهِ: خُذُوا زِينَتَكُمْ، الثِّيَابَ الَّتِي تَسْتُرُ عَوْرَاتِكُمْ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا مَا حَرَّمْتُمُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مِنْ اللَّحْمِ وَالْوَدَكِ. وَفِي قوله تعالى: وَلاَ تُسْرِفُوا تَأْوِيلاَنِ: أَحَدُهُمَا: لاَ تُسْرِفُوا فِي التَّحْرِيمِ وَهَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ. وَالثَّانِي: لاَ تَأْكُلُوا حَرَامًا فَإِنَّهُ إسْرَافٌ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ. فَأَوْجَبَ بِهَذِهِ الايَةِ سَتْرَ الْعَوْرَةِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ الْعَقْلُ مُوجِبًا لَهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ سَتْرَهَا وَجَبَ بِالشَّرْعِ دُونَ الْعَقْلِ.

وَأَمَّا الْجَمَالُ وَالزِّينَةُ فَهُوَ مُسْتَحْسَنٌ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجِبَهُ عَقْلٌ أَوْ شَرْعٌ. وَفِي هَذَا النَّوْعِ قَدْ يَقَعُ التَّجَاوُزُ وَالتَّقْصِيرُ وَالتَّوَسُّطُ الْمَطْلُوبُ فِيهِ مُعْتَبَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي صِفَةِ الْمَلْبُوسِ وَكَيْفِيَّتِهِ. وَالثَّانِي: فِي جِنْسِهِ وَقِيمَتِهِ. فَأَمَّا صِفَتُهُ فَمُعْتَبَرَةٌ بِالْعُرْفِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا عُرْفُ الْبِلاَدِ فَإِنَّ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ زِيًّا مَأْلُوفًا، وَلِأَهْلِ الْمَغْرِبِ زِيًّا مَأْلُوفًا، وَكَذَلِكَ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْبِلاَدِ الْمُخْتَلِفَةِ عَادَاتٌ فِي اللِّبَاسِ مُخْتَلِفَةٌ. وَالثَّانِي: عُرْفُ الاجْنَاسِ فَإِنَّ لِلْأَجْنَادِ زِيًّا مَأْلُوفًا، وَلِلتُّجَّارِ زِيًّا مَأْلُوفًا، وَكَذَلِكَ لِمَنْ سِوَاهُمَا مِنْ الاجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ عَادَاتٌ فِي اللِّبَاسِ.

وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ عَادَاتُ النَّاسِ فِي اللِّبَاسِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِيَكُونَ اخْتِلاَفُهُمْ سِمَةً يَتَمَيَّزُونَ بِهَا، وَعَلاَمَةً لاَ يَخْفُونَ مَعَهَا، فَإِنْ عَدَلَ أَحَدٌ عَنْ عُرْفِ بَلَدِهِ وَجِنْسِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ خَرَقًا وَحُمْقًا. وَلِذَلِكَ قِيلَ: الْعُرْيُ الْفَادِحُ خَيْرٌ مِنْ الزِّيِّ الْفَاضِحِ. وَأَمَّا جِنْسُ الْمَلْبُوسِ وَقِيمَتُهُ فَمُعْتَبَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِالْمُكْنَةِ مِنْ الْيَسَارِ وَالاعْسَارِ فَإِنَّ لِلْمُوسِرِ فِي الزِّيِّ قَدْرًا، وَلِلْمُعْسِرِ دُونَهُ. وَالثَّانِي: بِالْمَنْزِلَةِ وَالْحَالِ فَإِنَّ لِذِي الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ فِي الزِّيِّ قَدْرًا، وَلِلْمُنْخَفِضِ عَنْهُ دُونَهُ لِيَتَفَاضَلَ فِيهِ عَلَى حَسَبِ تَفَاضُلِ أَحْوَالِهِمْ فَيَصِيرُوا بِهِ مُتَمَيِّزِينَ. فَإِنْ عَدَلَ الْمُوسِرُ إلَى زِيِّ الْمُعْسِرِ كَانَ شُحًّا وَبُخْلًا، وَإِنْ عَدَلَ الرَّفِيعُ إلَى زِيِّ الدَّنِيءِ كَانَ مَهَانَةً وَذُلًّا، وَإِنْ عَدَلَ الْمُعْسِرُ إلَى زِيِّ الْمُوسِرِ كَانَ تَبْذِيرًا وَسَرَفًا، وَإِنْ عَدَلَ الدَّنِيءُ إلَى زِيِّ الرَّفِيعِ كَانَ جَهْلًا وَتَخَلُّفًا. وَلُزُومُ الْعُرْفِ الْمَعْهُودِ، وَاعْتِبَارُ الْحَدِّ الْمَقْصُودِ، أَدَلُّ عَلَى الْعَقْلِ وَأَمْنَعُ مِنْ الذَّمِّ.

وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: إيَّاكُمْ لُبْسَتَيْنِ: لُبْسَةٌ مَشْهُورَةٌ وَلُبْسَةٌ مَحْقُورَةٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ مَا لاَ يَزْدَرِيك فِيهِ الْعُظَمَاءُ، وَلاَ يَعِيبُهُ عَلَيْك الْحُكَمَاءُ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: إنَّ الْعُيُونَ رَمَتْك إذْ فَاجَأَتْهَا وَعَلَيْك مِنْ شَهْرِ الثِّيَابِ لِبَاسُ أَمَّا الطَّعَامُ فَكُلْ لِنَفْسِك مَا تَشَا وَاجْعَلْ لِبَاسَك مَا اشْتَهَاهُ النَّاسُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرُوءَةَ أَنْ يَكُونَ الانْسَانُ مُعْتَدِلَ الْحَالِ فِي مُرَاعَاةِ لِبَاسِهِ مِنْ غَيْرِ إكْثَارٍ وَلاَ اطِّرَاحٍ، فَإِنَّ اطِّرَاحَ مُرَاعَاتِهَا وَتَرْكَ تَفَقُّدِهَا مَهَانَةٌ وَذُلٌّ، وَكَثْرَةَ مُرَاعَاتِهَا وَصَرْفَ الْهِمَّةِ إلَى الْعِنَايَةِ لَهَا دَنَاءَةٌ وَنَقْصٌ. وَرُبَّمَا تَوَهَّمَ بَعْضُ مَنْ خَلاَ مِنْ فَضْلٍ، وَعَرِيَ عَنْ تَمْيِيزٍ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرُوءَةُ الْكَامِلَةُ، وَالسِّيرَةُ الْفَاضِلَةُ؛ لِمَا يَرَى مِنْ تَمَيُّزِهِ بِذَلِكَ عَنْ الاكْثَرِينَ، وَخُرُوجِهِ عَنْ جُمْلَةِ الْعَوَامّ الْمُسْتَرْذَلِينَ. وَخَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا تَعَدَّى طَوْرَهُ، وَتَجَاوَزَ قَدْرَهُ، كَانَ أَقْبَحَ لِذِكْرِهِ، وَأَبْعَثَ عَلَى ذَمِّهِ. فَكَانَ كَمَا قَالَ الْمُتَنَبِّي: لاَ يُعْجِبَنَّ مُضِيمًا حُسْنُ بِزَّتِهِ وَهَلْ يَرُوقُ دَفِينًا جَوْدَةُ الْكَفَنِ وَحَكَى الْمُبَرِّدُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ كَانَ إذَا اتَّسَعَ لَبِسَ أَرَثَّ ثِيَابِهِ، وَإِذَا ضَاقَ لَبِسَ أَحْسَنَهَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إذَا اتَّسَعْتُ تَزَيَّنَتْ بِالْجُودِ، وَإِذَا ضِقْتُ فَبِالْهَيْئَةِ. وَقَدْ أَتَى ابْنُ الرُّومِيِّ بِأَبْلَغَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فِي شَعْرِهِ فَقَالَ: وَمَا الْحُلِيُّ الا زِينَةٌ لِنَقِيصَةٍ يُتَمِّمُ مِنْ حُسْنٍ إذَا الْحُسْنُ قَصَّرَا فَأَمَّا إذَا كَانَ الْجَمَالُ مُوَفِّرًا لِحُسْنِكَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى أَنْ يُزَوَّرَا وَلِذَلِكَ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ: لَيْسَتْ الْعِزَّةُ حُسْنَ الْبِزَّةِ.

وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: وَتَرَى سَفِيهَ الْقَوْمِ يُدَنِّسُ عِرْضَهُ سَفَهًا وَيَمْسَحُ نَعْلَهُ وَشِرَاكَهَا وَإِذَا اشْتَدَّ كَلَفُهُ بِمُرَاعَاةِ لِبَاسِهِ قَطَعَهُ ذَلِكَ عَنْ مُرَاعَاةِ نَفْسِهِ وَصَارَ الْمَلْبُوسُ عِنْدَهُ أَنْفَسَ، وَهُوَ عَلَى مُرَاعَاتِهِ أَحْرَصُ. وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: الْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ مَا يَخْدُمُك وَلاَ يَسْتَخْدِمُك. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ لِإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ: أَرَاك لاَ تُبَالِي مَا لَبِسْت ؟ فَقَالَ: أَلْبَسُ ثَوْبًا أَقِي بِهِ نَفْسِي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ ثَوْبٍ أَقِيهِ بِنَفْسِي. فَكَمَا أَنَّهُ لاَ يَكُونُ شَدِيدَ الْكَلَفِ بِهَا فَكَذَلِكَ لاَ يَكُونُ شَدِيدَ الاطِّرَاحِ لَهَا.

فَقَدْ حُكِيَ عَنْ ابْنِ عَائِشَةَ {أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرَ إلَيْهِ رَثَّ الْهَيْئَةِ فَقَالَ: مَا مَالُك ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ الْمَالِ قَدْ آتَانِي اللَّهُ. فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ إذَا أَنْعَمَ عَلَى امْرِئٍ نِعْمَةً أَنْ يَنْظُرَ إلَى أَثَرِهَا عَلَيْهِ}. وَقَدْ قِيلَ: الْمُرُوءَةُ الظَّاهِرَةُ فِي الثِّيَابِ الطَّاهِرَةِ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي غِلْمَانِهِ وَحَشَمِهِ إنْ اشْتَدَّ كَلَفُهُ بِهِمْ صَارَ عَلَيْهِمْ قَيِّمًا وَلَهُمْ خَادِمًا، وَإِنْ اطَّرَحَهُمْ قَلَّ رَشَادُهُمْ وَظَهَرَ فَسَادُهُمْ فَصَارُوا سَبَبًا لِمَقْتِهِ، وَطَرِيقًا إلَى ذَمِّهِ، لَكِنْ يَكُفُّهُمْ عَنْ سَيِّئِ الاخْلاَقِ وَيَأْخُذُهُمْ بِأَحْسَنِ الادَابِ لِيَكُونُوا كَمَا قَالَ فِيهِمْ الشَّاعِرُ: سَهْلُ الْفِنَاءِ إذَا مَرَرْتَ بِبَابِهِ طَلْقُ الْيَدَيْنِ مُؤَدَّبُ الْخُدَّامِ وَلْيَكُنْ فِي تَفَقُّدِ أَحْوَالِهِمْ عَلَى مَا يَحْفَظُ تَجَمُّلَهُ وَيَصُونُ مُبْتَذَلَهُ. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {ادَّهِنُوا يَذْهَبْ الْبُؤْسُ عَنْكُمْ، وَالْبَسُوا تَظْهَرْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَأَحْسِنُوا إلَى مَمَالِيكِكُمْ فَإِنَّهُ أَكْبَتُ لِعَدُوِّكُمْ}. وَلْيَتَوَسَّطْ فِيهِمْ مَا بَيْنَ حَالَتَيْ اللِّينِ وَالْخُشُونَةِ فَإِنَّهُ إنْ لاَنَ هَانَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ خَشُنَ مَقَتُوهُ وَكَانَ عَلَى خَطَرٍ مِنْهُمْ. حُكِيَ أَنَّ الْمُؤَبَّذُ سَمِعَ ضَحِكَ الْخَدَّامِ فِي مَجْلِسِ أَنُوشِرْوَانَ فَقَالَ: أَمَا تَمْنَعُ هَؤُلاَءِ الْغِلْمَانِ ؟ فَقَالَ أَنُوشِرْوَانَ: إنَّمَا بِهِمْ يَهَابُنَا أَعْدَاؤُنَا. وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ: حَشَمُ الصَّدِيقِ عُيُونُهُمْ بَحَّاثَةٌ لِصَدِيقِهِ عَنْ صِدْقِهِ وَنِفَاقِهِ فَلْيَنْظُرَنَّ الْمَرْءُ مِنْ غِلْمَانِهِ فَهُمْ خَلاَئِفُهُ عَلَى أَخْلاَقِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ لِلنَّفْسِ حَالَتَيْنِ: حَالَةُ اسْتِرَاحَةٍ إنْ حَرَّمْتُهَا إيَّاهَا كَلَّتْ، وَحَالَةُ تَصَرُّفٍ إنْ أَرَحْتهَا فِيهَا تَخَلَّتْ. فَالاوْلَى بِالانْسَانِ تَقْدِيرُ حَالَيْهِ: حَالُ نَوْمِهِ وَدَعَتِهِ، وَحَالُ تَصَرُّفِهِ وَيَقِظَتِهِ، فَإِنَّ لَهُمَا قَدْرًا مَحْدُودًا وَزَمَانًا مَخْصُوصًا يَضُرُّ بِالنَّفْسِ مُجَاوَزَةُ أَحَدِهِمَا، وَتَغَيُّرُ زَمَانِهِمَا. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {نَوْمَةُ الصُّبْحَةِ مَعْجَزَةٌ مَنْفَخَةٌ مَكْسَلَةٌ مَوْرَمَةٌ مَفْشَلَةٌ مَنْسَأَةٌ لِلْحَاجَةِ}.

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: النَّوْمُ ثَلاَثَةٌ: نَوْمُ خَرَقٍ وَهِيَ الصُّبْحَةُ، وَنَوْمُ خَلَقٍ وَهِيَ الْقَائِلَةُ، وَنَوْمُ حُمْقٍ وَهُوَ الْعَشِيُّ. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ يَزْدَانَ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {نَوْمُ الضُّحَى خَرَقٌ، وَالْقَيْلُولَةِ خَلَقٌ، وَنَوْمُ الْعَشِيِّ حُمْقٌ}.

وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: مَنْ لَزِمَ الرُّقَادَ عَدِمَ الْمُرَادَ. فَإِذَا أَعْطَى النَّفْسَ حَقَّهَا مِنْ النَّوْمِ وَالدَّعَةِ، وَاسْتَوْفَى حَقَّهُ بِالتَّصَرُّفِ وَالْيَقِظَةِ، خَلَصَ بِالاسْتِرَاحَةِ مِنْ عَجْزِهَا وَكَلاَلِهَا، وَسَلِمَ بِالرِّيَاضَةِ مِنْ بَلاَدَتِهَا وَفَسَادِهَا.

وَحُكِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ دَخَلَ عَلَى أَبِيهِ فَوَجَدَهُ نَائِمًا فَقَالَ: يَا أَبَتِ أَتَنَامُ وَالنَّاسُ بِالْبَابِ ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ نَفْسِي مَطِيَّتِي وَأَكْرَهُ أَنْ أُتْعِبَهَا فَلاَ تَقُومَ بِي. وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَسِّمَ حَالَةَ تَصَرُّفِهِ وَيَقِظَتِهِ عَلَى الْمُهِمِّ مِنْ حَاجَاتِهِ فَإِنَّ حَاجَةَ الانْسَانِ لاَزِمَةٌ وَالزَّمَانُ يَقْصُرُ عَنْ اسْتِيعَابِ الْمُهِمِّ، فَكَيْفَ بِهِ إنْ تَجَاوَزَ إلَى مَا لَيْسَ بِمُهِمٍّ هَلْ يَكُونُ الا: كَتَارِكَةٍ بَيْضَهَا بِالْعَرَاءِ وَمُلْبِسَةٍ بَيْضَ أُخْرَى جَنَاحَا ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَفَّحَ فِي لَيْلِهِ مَا صَدَرَ مِنْ أَفْعَالِ نَهَارِهِ، فَإِنَّ اللَّيْلَ أَخْطَرُ لِلْخَاطِرِ وَأَجْمَعُ لِلْفِكْرِ. فَإِنْ كَانَ مَحْمُودًا أَمْضَاهُ وَأَتْبَعَهُ بِمَا شَاكَلَهُ وَضَاهَاهُ، وَإِنْ كَانَ مَذْمُومًا اسْتَدْرَكَهُ إنْ أَمْكَنَ وَانْتَهَى عَنْ مِثْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَجَدَ أَفْعَالَهُ لاَ تَنْفَكُّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ فِيهَا الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ بِهَا، أَوْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ فِيهَا فَوَضَعَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، أَوْ يَكُونَ قَصَّرَ فِيهَا فَنَقَصَتْ عَنْ حُدُودِهَا، أَوْ يَكُونَ قَدْ زَادَ فِيهَا حَتَّى تَجَاوَزَتْ مَحْدُودَهَا.

وَهَذَا التَّصَفُّحُ إنَّمَا هُوَ اسْتِظْهَارٌ بَعْدَ تَقْدِيمِ الْفِكْرِ قَبْلَ الْفِعْلِ لِيَعْلَمَ بِهِ مَوَاقِعَ الاصَابَةِ وَيَنْتَهِزَ بِهِ اسْتِدْرَاكَ الْخَطَأِ. وَقَدْ قِيلَ: مَنْ كَثُرَ اعْتِبَارُهُ قَلَّ عِثَارُهُ. وَكَمَا يَتَصَفَّحُ أَحْوَالَ نَفْسِهِ فَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَتَصَفَّحَ أَحْوَالَ غَيْرِهِ، فَرُبَّمَا كَانَ اسْتِدْرَاكُهُ الصَّوَابَ مِنْهَا أَسْهَلَ بِسَلاَمَةِ النَّفْسِ مِنْ شُبْهَةِ الْهَوَى، وَخُلُوِّ الْخَاطِرِ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ، فَإِنْ ظَفِرَ بِصَوَابٍ وَجَدَهُ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ أَعْجَبَهُ جَمِيلٌ مِنْ فِعْلِهِ زَيَّنَ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ بِهِ. فَإِنَّ السَّعِيدَ مَنْ تَصَفَّحَ أَفْعَالَ غَيْرِهِ فَاقْتَدَى بِأَحْسَنِهَا وَانْتَهَى عَنْ سَيِّئِهَا. وَقَدْ رَوَى زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {السَّعِيد مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ}.

وَقَالَ ` الشَّاعِرُ: إنَّ السَّعِيدَ لَهُ مِنْ غَيْرِهِ عِظَةٌ وَفِي التَّجَارِبِ تَحْكِيمٌ وَمُعْتَبَرُ وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِطَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ: إذَا أَعْجَبَتْك خِصَالُ امْرِئٍ فَكُنْهُ يَكُنْ مِنْك مَا يُعْجِبُكْ فَلَيْسَ عَلَى الْمَجْدِ وَالْمَكْرُمَاتِ إذَا جِئْتَهَا حَاجِبٌ يَحْجُبُكْ فَأَمَّا مَا يَرُومُهُ مِنْ أَعْمَالِهِ، وَيُؤْثِرُ الاقْدَامَ عَلَيْهِ مِنْ مَطَالِبِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يُقَدِّمَ الْفِكْرَ فِيهِ قَبْلَ دُخُولِهِ فَإِنْ كَانَ الرَّجَاءُ فِيهِ أَغْلَبَ مِنْ الايَاسِ مِنْهُ وَحُمِدَتْ الْعَافِيَةُ فِيهِ سَلَكَهُ مِنْ أَسْهَلِ مَطَالِبِهِ وَأَلْطَفِ جِهَاتِهِ. وَبِقَدْرِ شَرَفِهِ يَكُونُ الاقْدَامُ، وَإِنْ كَانَ الايَاسُ أَغْلَبَ عَلَيْهِ مِنْ الرَّجَاءِ مَعَ شِدَّةِ التَّغْرِيرِ وَدَنَاءَةِ الامْرِ الْمَطْلُوبِ فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُتَعَرِّضًا.

فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إذَا هَمَمْت بِأَمْرٍ فَفَكِّرْ فِي عَاقِبَتِهِ فَإِنْ كَانَ رُشْدًا فَأَمْضِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيًّا فَانْتَهِ عَنْهُ}. وَقَالَتْ الْحُكَمَاءُ: طَلَبُ مَا لاَ يُدْرَكُ عَجْزٌ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: فَإِيَّاكَ وَالامْرَ الَّذِي إنْ تَوَسَّعَتْ مَوَارِدُهُ ضَاقَتْ عَلَيْك الْمَصَادِرُ فَمَا حَسَنٌ أَنْ يَعْذُرَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ عَاذِرُ.

وَلْيَعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ حِينٍ مِنْ أَيَّامِ عُمُرِهِ خُلُقًا، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ دَهْرِهِ عَمَلًا فَإِنْ تَخَلَّقَ فِي كِبَرِهِ بِأَخْلاَقِ الصِّغَرِ، وَتَعَاطَى أَفْعَالَ الْفُكَاهَةِ وَالْبَطَرِ، اسْتَصْغَرَهُ مَنْ هُوَ أَصْغَرُ وَحَقَّرَهُ مَنْ هُوَ أَقَلُّ وَأَحْقَرُ، وَكَانَ كَالْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ بِقَوْلِ الشَّاعِر: وَكُلُّ بَازٍ يَمَسُّهُ هَرَمٌ تَخَرَّا عَلَى رَأْسِهِ الْعَصَافِيرُ فَكُنْ أَيُّهَا الْعَاقِلُ مُقْبِلًا عَلَى شَانِكَ، رَاضِيًا عَنْ زَمَانِك، سِلْمًا لِأَهْلِ دَهْرِك، جَارِيًا عَلَى عَادَةِ عَصْرِك، مُنْقَادًا لِمَنْ قَدَّمَهُ النَّاسُ عَلَيْك، مُتَحَنِّنًا عَلَى مَنْ قَدَّمَك النَّاسُ عَلَيْهِ، وَلاَ تُبَايِنْهُمْ بِالْعُزْلَةِ عَنْهُمْ فَيَمْقُتُوك، وَلاَ تُجَاهِرْهُمْ بِالْمُخَالَفَةِ لَهُمْ فَيُعَادُوك، فَإِنَّهُ لاَ عَيْشَ لِمَمْقُوتٍ وَلاَ رَاحَةَ لِمُعَادِي. وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ الادَبِ لِبَعْضِهِمْ: إذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ فِي وَاحِدٍ وَخَالَفَهُمْ فِي الرِّضَا وَاحِدُ فَقَدْ دَلَّ إجْمَاعُهُمْ دُونَهُ عَلَى عَقْلِهِ أَنَّهُ فَاسِدُ.

وَاجْعَلْ نُصْحَ نَفْسِك غَنِيمَةَ عَقْلِك، وَلاَ تُدَاهِنْهَا بِإِخْفَاءِ عَيْبِك وَإِظْهَارِ عُذْرِك، فَيَصِرْ عَدُوُّك أَحْظَى مِنْك فِي زَجْرِ نَفْسِهِ بِإِنْكَارِك وَمُجَاهَرَتِك مِنْ نَفْسِك الَّتِي هِيَ أَخَصُّ بِك لِإِغْرَائِك لَهَا بِأَعْذَارِك وَمُسَاءَتِك. فَحَسْبُك سُوءًا رَجُلٌ يَنْفَعُ عَدُوَّهُ وَيَضُرُّ نَفْسَهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: أَصْلِحْ نَفْسَك لِنَفْسِك يَكُنْ النَّاسُ تَبَعًا لَك. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: مَنْ أَصْلَحَ نَفْسَهُ أَرْغَمَ أَنْفَ أَعَادِيهِ، وَمَنْ أَعْمَلَ جِدَّهُ بَلَغَ كُنْهَ أَمَانِيهِ.

وَقَالَ بَعْضُ الادَبَاءِ: مَنْ عَرَفَ مَعَابَهُ فَلاَ يَلُمْ مَنْ عَابَهُ. وَأَنْشَدَنِي أَبُو ثَابِتٍ النَّحْوِيُّ لِبَعْضِ الشُّعَرَاءِ: وَمَصْرُوفَةٌ عَيْنَاهُ عَنْ عَيْبِ نَفْسِهِ وَلَوْ بَانَ عَيْبٌ مِنْ أَخِيهِ لاَبْصَرَا وَلَوْ كَانَ ذَا الانْسَانُ يُنْصِفُ نَفْسَهُ لاَمْسَكَ عَنْ عَيْبِ الصَّدِيقِ وَقَصَّرَا فَهَذِّبْ أَيُّهَا الانْسَانُ نَفْسَك بِأَفْكَارِ عُيُوبِك وَانْفَعْهَا كَنَفْعِك لِعَدُوِّك فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ وَاعِظٌ لَمْ تَنْفَعْهُ الْمَوَاعِظُ. أَعَانَنَا اللَّهُ، وَإِيَّاكَ عَلَى الْقَوْلِ بِالْعَمَلِ وَعَلَى النُّصْحِ بِالْقَبُولِ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَكَفَى.