فصل في قوله‏:‏ ‏وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا‏
 
فصل
قوله‏:‏ ‏(‏وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا‏)‏ ينبغي أن يعرف أن هذا الحديث شريف القدر، عظيم المنزلة؛ ولهذا كان الإمام أحمد/ يقول‏:‏ هو أشرف حديث لأهل الشام، وكان أبو إدريس الخولاني إذا حدث به جَثَا على ركبتيه‏.‏ وراويه أبو ذر الذي ما أَظَلَّتِ الخضراء ولا أَقَلَّتِ الغبراء أصدق لهجة منه، وهو من الأحاديث الإلهية التي رواها الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه، وأخبر أنها من كلام اللّه ـ تعالى ـ وإن لم تكن قرآنًا‏.‏
وقد جمع في هذا الباب زاهر الشحامي وعبد الغني المقدسي وأبو عبد الله المقدسي وغيرهم ‏.‏
وهذا الحديث قد تضمن من قواعد الدين العظيمة في العلوم والأعمال والأصول والفروع؛ فإن تلك الجملة الأولي وهي قوله‏:‏ ‏(‏حرمت الظلم على نفسي‏)‏ يتضمن جل مسائل الصفات والقدر إذا أعطيت حقها من التفسير، وإنما ذكرنا فيها ما لابد من التنبيه عليه من أوائل النكت الجامعة‏.‏
وأما هذه الجملة الثانية وهي قوله‏:‏ ‏(‏وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا‏)‏ فإنها تجمع الدين كله؛ فإن ما نهي اللّه عنه راجع إلى الظلم، وكل ما أمر به راجع إلى العدل؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏ فأخبر أنه أرسل الرسل، وأنزل الكتاب والميزان؛ لأجل قيام الناس بالقسط‏.‏ وذكر أنه أنزل الحديد الذي به ينصر هذا الحق،/فالكتاب يهدي والسيف ينصر،وكفي بربك هاديا ونصيرًا‏.‏
ولهذا كان قوام الناس بأهل الكتاب وأهل الحديد، كما قال من قال من السلف‏:‏ صنفان إذا صلحوا صلح الناس‏:‏ الأمراء والعلماء‏.‏ وقالوا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏ ، أقوالا تجمع العلماء والأمراء؛ ولهذا نص الإمام أحمد وغيره على دخول الصنفين في هذه الآية؛ إذ كل منهما تجب طاعته فيما يقوم به من طاعة اللّه، وكان نواب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حياته؛ كعلي، ومعاذ، وأبي موسي، وعتاب بن أسيد، وعثمان بن أبي العاص، وأمثالهم، يجمعون الصنفين‏.‏ وكذلك خلفاؤه من بعده؛ كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ونوابهم‏.‏
ولهذا كـانت السـنة أن الذي يصلي بالناس صاحب الكتاب، والذي يقوم بالجهاد صاحب الحـديد‏.‏ إلى أن تفـرق الأمـر بعد ذلك، فإذا تفرق صار كـل مـن قـام بأمـر الحرب مـن جهاد الكفار وعقوبـات الفجار يجـب أن يطاع فيما يـأمـر بـه مـن طاعـة اللّه في ذلك، وكـذلك مـن قـام بجمـع الأمـوال وقسمها يجـب أن يطـاع فيما يأمـر بـه مـن طاعـة اللّه في ذلك، وكـذلك مـن قـام بالكتاب بتبليغ أخباره وأوامـره وبيانها يجب أن يصـدق ويطـاع فيما أخـبر بـه مـن الصـدق في ذلك، وفيما يأمـر بـه مـن طاعـة اللّه في ذلك‏.‏
/والمقصود هنا أن المقصود بذلك كله هو أن يقوم الناس بالقسط؛ ولهذا لما كان المشركون يحرمون أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، ويأمرون بأشياء ما أنزل الله بها من سلطان، أنزل الله في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما يذمهم على ذلك، وذكر ما أمر به هو وما حرمه هو فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 29‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ على اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏ ‏.‏
وهذه الآية تجمع أنواع المحرمات كما قد بيناه في غير هذا الموضع‏.‏ وتلك الآية تجمع أنواع الواجبات كما بيناه أيضًا، وقوله‏:‏ ‏{‏أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 29‏]‏ ، أمر مع القسط بالتوحيد الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، وهذا أصل الدين، وضده هو الذنب الذي لا يغفر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏ ، وهو الدين الذي أمر الله به جميع الرسل، وأرسلهم به إلى جميع الأمم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إليه أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 45‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وصى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إليكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَي وَعِيسَي أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 13‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عليمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51، 52‏]‏ ‏.‏
ولهذا ترجم البخاري في صحيحه ‏[‏باب ما جاء في أن دين الأنبياء واحد‏]‏ وذكر الحديث الصحيح في ذلك، وهو الإسلام العام الذي اتفق عليه جميع النبيين‏.‏ قال نوح عليه السلام‏:‏ ‏{‏وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 72‏]‏ وقال تعالى في قصة إبراهيم‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّي بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَي لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 131، 132‏]‏ ،‏{‏وَقَالَ مُوسَي يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعليه تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 84‏]‏ ، و قال تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 52‏]‏ ‏.‏ وقال في قصة بلقيس‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 44‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًي وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏ ‏.‏
/وهذا التوحيد - الذي هو أصل الدين-هو أعظم العدل،وضده وهـو الشرك أعـظم الظلم، كما أخرجا في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 82‏]‏ ، شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا‏:‏ أينا لم يظلم نفسه‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح‏:‏ إن الشرك لظلم عظيم‏)‏‏؟‏‏.‏ وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، أي الذنب أعظم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تجعل لله نِدّا وهو خلقك‏)‏ قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ثم أن تقتل ولدك خشية أن يُطْعَم معك‏)‏ قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تُزَاني بحليلة جارك‏)‏‏.‏ فأنزل الله تصديق ذلك‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ‏}‏ الآية ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏ ‏.‏
وقـد جـاء عـن غير واحـد مـن السلف، وروي مرفـوعًا ‏(‏الظلم ثلاثة دواوين‏:‏ فديوان لا يغفر الله منه شيئًا، وديوان لا يترك الله منه شيئًا، وديوان لا يعبأ الله به شيئًا؛ فأما الديـوان الذي لا يغفـر الله منـه شيئًا فهـو الشـرك؛ فإن الله لا يغفر أن يشرك به‏.‏ وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئًا فهو ظلم العباد بعضهم بعضًا؛ فإن الله لابد أن ينصف المظلوم من الظالم‏.‏ وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئًا فهو ظلم العبد نفسه فيما بينه وبين /ربه‏)‏ أي‏:‏ مغفرة هذا الضرب ممكنة بدون رضا الخلق؛ فإن شاء عذب هذا الظالم لنفسه وإن شاء غفر له‏.‏
وقد بسطنا الكلام في هذه الأبواب الشريفة والأصول الجامعة في القواعد، وبينا أنواع الظلم، وبينا كيف كان الشرك أعظم أنواع الظلم، ومسمي الشرك جليله ودقيقه؛ فقد جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏الشرك في هذه الأمة أخفي من دبيب النمل‏)‏‏.‏ وروي أن هذه الآية نزلت في أهل الرياء ‏{‏فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 110‏]‏ ، وكان شداد بن أوس يقول‏:‏ يا بقايا العرب، يا بقايا العرب، إنما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية‏.‏ قال أبو داود السجستاني ـ صاحب السنن المشهورة ـ‏:‏ الخفية حب الرياسة‏.‏ وذلك أن حب الرياسة هو أصل البغي والظلم، كما أن الرياء هو من جنس الشرك أو مبدأ الشرك‏.‏
والشرك أعظم الفساد كما أن التوحيد أعظم الصلاح؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 4‏]‏ ، إلى أن ختم السورة بقوله‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 83‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 4‏]‏ ، وقال‏:‏/ ‏{‏مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا على بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 32‏]‏ ، وقالت الملائكة‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ ‏.‏
فأصل الصلاح‏:‏ التوحيد والإيمان، وأصل الفساد‏:‏ الشرك والكفر‏.‏ كما قال عن المنافقين‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 11، 12‏]‏ ، وذلك أن صلاح كل شيء أن يكون بحيث يحصل له وبه المقصود الذي يراد منه؛ ولهذا يقول الفقهاء‏:‏ العقد الصحيح ما ترتب عليه أثره وحصل به مقصوده‏.‏ والفاسد ما لم يترتب عليه أثره ولم يحصل به مقصود، والصحيح المقابل للفاسد في اصطلاحهم هو الصالح‏.‏
وكان يكثر في كلام السلف‏:‏ هذا لا يصلح أو يصلح، كما كثر في كلام المتأخرين يصح ولا يصح، والله تعالى إنما خلق الإنسان لعبادته، وبدنه تَبَعٌُ لقلبه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد‏.‏ وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب‏)‏ وصلاح القلب‏:‏ في أن يحصل له وبه المقصود الذي خلق له من/ معرفة الله ومحبته وتعظيمه، وفساده في ضد ذلك‏.‏ فلا صلاح للقلوب بدون ذلك قط‏.‏
والقلب له قوتان‏:‏ العلم، والقصد‏.‏ كما أن للبدن الحس، والحركة الإرادية، فكما أنه متي خرجت قوي الحس والحركة عن الحال الفطري الطبيعي فَسَدت‏.‏ فإذا خرج القلب عن الحال الفطرية التي يولد عليها كل مولود وهي أن يكون مقرًا لربه، مريدًا له، فيكون هو منتهي قصده وإرادته وذلك هي العبادة؛ إذ العبادة‏:‏ كمال الحب بكمال الذل، فمتي لم تكن حركة القلب ووجهه وإرادته لله تعالى كان فاسدًا؛ إما بأن يكون معرضًا عن الله وعن ذكره غافلًا عن ذلك مع تكذيب أو بدون تكذيب، أو بأن يكون له ذكر وشعور، ولكن قصده وإرادته غيره؛ لكون الذكر ضعيفًا لم يجتذب القلب إلى إرادة الله ومحبته وعبادته‏.‏ وإلا فمتي قوي علم القلب وذكره أوجب قصده وعلمه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّي عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 29، 30‏]‏ ، فأمر نبيه بأن يعرض عمن كان معرضًا عن ذكر الله، ولم يكن له مراد إلا ما يكون في الدنيا‏.‏
وهذه حال من فسد قلبه، ولم يذكر ربه، ولم ينب إليه، فيريد وجهه ويخلص له الدين‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 30‏]‏ فأخبر أنهم/ لم يحصل لهم علم فوق ما يكون في الدنيا، فهي أكبر همهم ومبلغ علمهم‏.‏ وأما المؤمن فأكبر همه هو الله، وإليه انتهي علمه وذكره‏.‏ وهذا الآن باب واسع عظيم قد تكلمنا عليه في مواضعه‏.‏
وإذا كان التوحيد أصل صلاح الناس، والإشراك أصل فسادهم، والقسط مقرون بالتوحيد؛ إذ التوحيد أصل العدل، وإرادة العلو مقرونة بالفساد؛ إذ هو أصل الظلم -فهذا مع هذا وهذا مع هذا كالملزوزين في قرن، فالتوحيد وما يتبعه من الحسنات هو صلاح وعدل؛ ولهذا كان الرجل الصالح هو القائم بالواجبات، وهو البر، وهو العدل‏.‏ والذنوب التي فيها تفريط أو عدوان في حقوق ـ الله تعالى ـ وحقوق عباده هي فساد وظلم؛ ولهذا سمي قطاع الطريق مفسدين، وكانت عقوبتهم حقًا لله -تعالى- لاجتماع الوصفين، والذي يريد العلو على غيره من أبناء جنسه هو ظالم له باغ؛ إذ ليس كونك عاليا عليه بأولى من كونه عاليا عليك، وكلاكما من جنس واحد‏.‏ فالقسط والعدل أن يكونوا إخوة كما وصف الله المؤمنين بذلك‏.‏
والتوحيد، وإن كان أصل الصلاح، فهو أعظم العدل؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبابا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 64‏]‏ ؛ ولهذا كان تخصيصه/بالذكر في مثل قوله‏:‏‏{‏قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 29‏]‏ ، لا يمنع أن يكون داخلا في القسط، كما أن ذكر العمل الصالح بعد الإيمان لا يمنع أن يكون داخلا في الإيمان، كما في قوله‏:‏‏{‏وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 98‏]‏ ، و ‏{‏مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 7‏]‏ ، هذا إذا قيل‏:‏ إن اسم الإيمان يتناوله‏.‏ سواء قيل‏:‏ إنه في مثل هذا يكون داخلًا في الأول، فيكون مذكورًا مرتين، أو قيل‏:‏ بل عطفه عليه يقتضي أنه ليس داخلًا فيه هنا وإن كان داخلًا فيه منفردًا، كما قيل مثل ذلك في لفظ الفقراء والمساكين، وأمثال ذلك مما تتنوع دلالته بالإفراد والاقتران‏.‏ لكن المقصود أن كل خير فهو داخل في القسط والعدل، وكل شر فهو داخل في الظلم‏.‏
ولهذا كان العدل أمرًا واجبًا في كل شيء وعلى كل أحد، والظلم محرمًا في كل شيء ولكل أحد، فلا يحل ظلم أحد أصلًا، سواء كان مسلمًا أو كافرًا أو كان ظالمًا، بل الظلم إنما يباح، أو يجب فيه العدل عليه أيضًا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏ أي‏:‏ لا يحملنكم شنآن، أي‏:‏ بغض قوم ـ وهم الكفار ـ على عدم العدل ‏{‏قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَي‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اعْتَدَي عليكُمْ فَاعْتَدُواْ عليه بِمِثْلِ مَا اعْتَدَي عليكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 194‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 126‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 40‏]‏ ‏.‏
وقد دل على هذا قوله في الحديث‏:‏ ‏(‏يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا‏)‏ فإن هذا خطاب لجميع العباد ألا يظلم أحد أَحَدًا،وأمر العالم في الشريعة مَبنْي على هذا،وهو العدل في الدماء والأموال والأبضاع والأنساب، والأعراض؛ ولهذا جاءت السنة بالقصاص في ذلك، ومقابلة العَادي بمثل فعله‏.‏ لكن المماثلة قد يكون علمها أو عملها متعذرًا أو متعسرًا؛ ولهذا يكون الواجب ما يكون أقرب إليها بحسب الإمكان، ويقال‏:‏ هذا أمثل، وهذا أشبه‏.‏ وهذه الطريقة المثلي لما كان أمثل بما هو العدل والحق في نفس الأمر إذ ذاك معجوز عنه؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 152‏]‏ ،فذكر أنه لم يكلف نفسًا إلا وسعها حين أمر بِتَوْفِية الكيل والميزان بالقسط؛ لأن الكيل لابد له أن يفضل أحد المكيلين على الآخر ولو بحبة أو حبات، وكذلك التفاضل في الميزان قد يحصل بشيء يسير لا يمكن الاحتراز منه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 152‏]‏ ‏.‏
ولهذا كان القصاص مشروعًا إذا أمكن استيفاؤه من غير جنف، كالاقتصاص في الجروح التي تنتهي إلى عَظْم‏.‏ وفي الأعضاء التي تنتهي إلى مفصل، فإذا كان الجَنْفُ واقعًا في الاستيفاء عُدِل إلى بدله وهو/ الدية؛ لأنه أشبه بالعدل من إتلاف زيادة في المقتص منه، وهذه حجة من رأي من الفقهاء أنه لا قَوَدَ إلا بالسيف في العنق‏.‏ قال‏:‏ لأن القتل بغير السيف، وفي غير العنق لا نعلم فيه المماثلة، بل قد يكون التحريق والتغريق والتوسيط، ونحو ذلك أشد إيلاما‏.‏ لكن الذين قالوا‏:‏ يفعل به مثل ما فعل قولهم أقرب إلى العدل، فإنه مع تحري التسوية بين الفعلين يكون العبد قد فعل ما يقدر عليه من العدل‏.‏ وما حصل من تفاوت الألم خارج عن قدرته‏.‏
وأما إذا قطع يديه ورجليه، ثم وسطه، فقوبل ذلك بضرب عنقه بالسيف، أو رَضّ رأسه بين حجرين فضرب بالسيف، فهنا قد تيقنا عدم المعادلة والمماثلة‏.‏ وكنا قد فعلنا ما تيقنا انتفاء المماثلة فيه، وأنه يتعذر معه وجودها، بخلاف الأول فإن المماثلة قد تقع؛ إذ التفاوت فيه غير متيقن‏.‏
وكذلك القصاص في الضربة واللطمة، ونحو ذلك، عدل عنه طائفة من الفقهاء إلى التعزير؛ لعدم إمكان المماثلة فيه‏.‏ والذي عليه الخلفاء الراشدون، وغيرهم من الصحابة، وهو مَنْصُوص أحمد‏:‏ ما جاءت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثبوت القصاص به؛ لأن ذلك أقرب إلى العدل والمماثلة‏.‏ فإنا إذا تحرينا أن نفعل به من جنس فعله ونقرب/القدر من القدر كان هذا أمثل من أن نأتي بجنس من العقوبة تخالف عقوبته جنسًا وقدرًا وصفة‏.‏
وهذا النظر أيضًا في ضمان الحيوان والعقار، ونحو ذلك بمثله تقريبًا أو بالقيمة، كما نص أحمد على ذلك في مواضع ضمان الحيوان وغيره‏.‏ ونص عليه الشافعي فيمن خرب حائط غيره، أنه يبنيه كما كان‏.‏ وبهذا قضي سليمان ـ عليه السلام ـ في حكومة الحَرْث التي حكم فيها هو وأبوه، كما قد بين ذلك في موضعه‏.‏
فجميع هذه الأبواب المقصود للشريعة فيها تحري العدل بحسب الإمكان، وهو مقصود العلماء، لكن أفهمهم من قال بما هو أشبه بالعدل في نفس الأمر، وإن كان كل منهم قد أوتي علمًا وحكمًا؛ لأنه هو الذي أنزل الله به الكتب وأرسل به الرسل، وضده الظلم، كما قال سبحانه‏:‏ ‏(‏يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا‏)‏‏.‏
ولما كان العدل لابد أن يتقدمه علم -إذ من لا يعلم لا يدري ما العدل‏؟‏ والإنسان ظالم جاهل إلا من تاب الله عليه فصار عالمًا عادلًا- صار الناس من القضاة وغيرهم ثلاثة أصناف‏:‏العالم الجائر، والجاهل الظالم؛فهذان من أهل النار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏/ ‏(‏القضاة ثلاثة‏:‏ قاضيان في النار، وقاضٍ في الجنة‏:‏ رجل علم الحق وقضي به فهو في الجنة، ورجل قضي للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضي بخلافه فهو في النار‏)‏ فهذان القسمان كما قال‏:‏ ‏(‏من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ، ومن قال في القرآن برأيه فأخطأ فليتبوأ مقعده من النار‏)‏‏.‏
وكل من حكم بين اثنين فهو قاض، سواء كان صاحب حرب أو متولي ديوان أو منتصبـًا للاحتساب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏ حتى الذي يحكم بين الصبيان في الخطوط فإن الصحابة كانوا يعدونه من الحكام‏.‏ ولما كان الحكام مأمورين بالعدل والعلم، وكان المفروض إنما هو بما يبلغه جهد الرجل قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر‏)‏‏.‏