فصل في قوله‏:‏ ‏يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته
 
فصل
وأما قوله‏:‏ ‏(‏يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، وكلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم‏)‏ فيقتضي أصلين عظيمين‏:‏
/أحدهما‏:‏ وجـوب التوكل على الله في الرزق المتضمن جَلْب المنفعة كالطعام، ودفع المضرة كاللباس، وأنـه لا يقدر غير الله على الإطعام والكسوة قدرة مطلقة‏.‏ وإنما القدرة التي تحصل لبعض العباد تكون على بعض أسباب ذلك؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَعلى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 5‏]‏ ، فالمأمور به هو المقدور للعباد، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 14‏:‏ 16‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 36‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 28‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 47‏]‏ فذم من يترك المأمور به اكتفاء بما يجري به القدر‏.‏
ومن هنا، يعرف أن السبب المأمور به أو المباح لا ينافي وجوب التوكل على الله في وجود السبب، بل الحاجة والفقر إلى الله ثابتة مع فعل السبب؛ إذ ليس في المخلوقات ما هو وحده سبب تام لحصول المطلوب؛ ولهذا لا يجب أن تقترن الحوادث بما قد يجعل سببًا إلا بمشيئة الله تعالى، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن‏.‏
فمـن ظـن الاستغناء بالسبب عـن التوكل فقد ترك ما أوجب الله عليه من التوكل، وأخَلَّ بواجب التوحيد؛ ولهذا يخذل أمثال هؤلاء/ إذا اعتمدوا على الأسباب‏.‏ فمن رجا نصرًا أو رزقًا من غير الله خذله الله، كما قال على - رضي الله عنه -‏:‏ لا يرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلا ربه، ولا يخافنَّ إلا ذنبه‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 2‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 107‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عليه يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 38‏]‏ ‏.‏
وهذا كما أن من أخذ يدخل في التوكل تاركًا لما أمر به من الأسباب فهو ـ أيضًا ـ جاهل ظالم، عاص لله بترك ما أمره، فإن فعل المأمور به عبادة لله‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عليه‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عليه تَوَكَّلْتُ وَإليه مَتَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 30‏]‏ ، وقال شعيب ـ عليه السلام ـ‏:‏ ‏{‏عليه تَوَكَّلْتُ وَإليه أُنِيبُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عليه تَوَكَّلْتُ وَإليه أُنِيبُ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 10‏]‏ ‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حتى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عليكَ تَوَكَّلْنَا وَإليكَ أَنَبْنَا وَإليكَ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏ ، فليس من فعل شيئًا أمر به وترك ما أمر به من التوكل بأعظم ذنبًا ممن فعل توكلًا أمر به وترك فعل ما أمر به من السبب؛ إذ كلاهما مخل ببعض ما وجب عليه، وهما، مع اشتراكهما في جنس الذنب، فقد يكون هذا أَلْوَم، وقد يكون الآخر، مع أن التوكل في الحقيقة من جملة الأسباب‏.‏
وقد روي أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضي بين رجلين‏.‏ فقال المقضي عليه‏:‏ حسبي الله ونعم الوكيل‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكَيْس، فإن غلبك أمر فقل‏:‏ حسبي الله ونعم الوكيل‏)‏‏.‏
وفي صحيـح مسلم عـن أبي هـريرة ـ رضي الله عنـه ـ عـن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏المؤمـن القوي خـير وأحب إلى الله مـن المؤمـن الضعيف وفي كـل خـير، احـرص على مـا ينفـعك، واستعـن بالله ولا تعجـز، فـإن أصابك شيء فلا تقل‏:‏ لو أني فعلت لكان كـذا وكـذا، ولكـن قـل‏:‏ قَدَّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان‏)‏، ففي قـوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏احرص على مـا ينفـعك واستعـن بالله ولا تعجز‏)‏ أمر بالتسبب المأمور به، وهو الحـرص على المنافع‏.‏ وأمر مع/ذلك بالتوكـل وهو الاستعانة بالله، فمن اكتفي بأحدهما فقد عصي أحد الأمرين، ونهي عن العجز الذي هو ضد الكيس‏.‏ كما قال في الحديث الآخـر‏:‏ ‏(‏إن الله يلـوم على العجـز، ولكـن عليك بالكيـس‏)‏، وكما في الحديث الشامي‏:‏ ‏(‏الكَيِّسُ مـن دان نفسـه وعمـل لما بعـد المـوت، والعاجز من أَتْبَع نفسه هواها وتمني على الله‏)‏، فالعاجز في الحـديث مقابل الكيس، ومن قال‏:‏ العاجز هو مقابل البر فقد حرف الحديث ولم يفهم معناه‏.‏ ومنه الحديث‏:‏ ‏(‏كل شيء بقدر حتى العجز والكيس‏)‏‏.‏
ومـن ذلك مـا روي البخاري في صحيحـه عـن ابن عباس قال‏:‏كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، يقـولون‏:‏ نحن المتوكلون‏.‏ فإذا قدموا سألوا الناس فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏ ، فمن فعل ما أمر به من التزود فاستعان به على طاعة الله وأحسن منه إلى من يكون محتاجًا كان مطيعًا لله في هذين الأمرين، بخلاف من ترك ذلك ملتفتًا إلى أزْواد الحجيج، كَلًا على الناس، وإن كان مع هذا قلبه غير ملتفت إلى معين، فهو ملتفت إلى الجملة، لكن إن كان المتزود غير قائم بما يجب عليه من التوكل على الله ومواساة المحتاج، فقد يكون في تركه لما أمر به من جنس هذا التارك للتزود المأمور به‏.‏
/وفي هذه النصوص بيان غلط طوائف؛طائفة تضعف أمر السبب المأمور به فتعده نقصًا، أو قدحًا في التوحيد والتوكل، وأن تركه من كمال التوكل والتوحيد، وهم في ذلك ملبوس عليهم، وقد يقترن بالغلط اتباع الهوي في إخلاد النفس إلى البطالة؛ ولهذا تجد عامة هذا الضرب - التاركين لما أمروا به من الأسباب ـ يتعلقون بأسباب دون ذلك، فإما أن يعلقوا قلوبهم بالخلق رغبة ورهبة، وإما أن يتركوا لأجل ما تبتلوا له من الغلو في التوكل واجبات أو مستحبات أنفع لهم من ذلك، كمن يصرف همته في توكله إلى شفاء مرضه بلا دواء أو نيل رزقه بلا سعي فقد يحصل ذلك، لكن كان مباشرة الدواء الخفيف، والسعي اليسير، وصرف تلك الهمة، والتوجه في عمل صالح ، أنفع له، بل قد يكون أوجب عليه من تبتله لهذا الأمر اليسير الذي قدره درهم، أو نحوه‏.‏
وفوق هؤلاء من يجعل التوكل والدعاء ـ أيضًا ـ نقصًا وانقطاعًا عن الخاصة؛ ظنًا أن ملاحظة ما فرغ منه في القدر هو حال الخاصة‏.‏
وقد قال في هذا الحديث‏:‏ ‏(‏كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏فاستكسوني أكسكم‏)‏ وفي الطبراني ـ أو غيره ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لِيَسْأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى شِسْعُ نعله إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر‏)‏‏.‏ وهذا قد يلزمه أن يجعل ـ أيضًا ـ استهداء الله وعمله بطاعته من ذلك/ وقولهم يوجب دفع المأمور به مطلقًا، بل دفع المخلوق والمأمور، وإنما غلطوا من حيث ظنوا أن سبق التقدير يمنع أن يكون بالسبب المأمور به، كمن يتزندق فيترك الأعمال الواجبة، بناء على أن القدر قد سبق بأهل السعادة وأهل الشقاوة، ولم يعلم أن القدر سبق بالأمور على ما هي عليه، فمن قدره الله من أهل السعادة كان مما قدره الله تيسيره لعمل أهل السعادة، ومن قدره من أهل الشقاء كان مما قدره أنه ييسره لعمل أهل الشقاء، كما قد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا السؤال في حديث على بن أبي طالب، وعمران بن حصين، وسراقة بن جُعْشُم، وغيرهم‏.‏
ومنه حديث الترمذي‏:‏ حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي خزامـة، عـن أبيـه‏.‏ قـال‏:‏ سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوي بها، ورقى نسترقي بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏هي من قدر الله‏)‏‏.‏
وطائفة تظن أن التوكل إنما هو من مقامات الخاصة المتقربين إلى الله بالنوافل، وكذلك قولهم في أعمال القلوب وتوابعها، كالحب والرجاء والخوف والشكر، ونحو ذلك‏.‏ وهذا ضـلال مبـين، بل جميـع هـذه الأمـور فروض على الأعيان باتفاق أهـل الإيمان، ومن تركها بالكلية/فهو إما كافر، وإما منافق، لكن الناس هم فيها كما هم في الأعمال الظاهرة؛ فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات، ونصوص الكتاب والسنة طَافِحَة بذلك، وليس هؤلاء المعرضون عن هذه الأمور ـ علمًا وعملًا ـ بأقل لوما من التاركـين لما أمـروا بـه مـن أعمال ظاهرة مع تلبسهم ببعض هذه الأعمال، بل استحقاق الذم والعقاب يتوجه إلى من ترك المأمور من الأمور الباطنة والظاهرة، وإن كانت الأمور الباطنة مبتدأ الأمور الظاهرة وأصولها، والأمور الظاهرة كمالها وفروعها التي لا تتم إلا بها‏.