فصل: قوله ‏لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم
 
فصل
ثم ذكر حالهم في النوعين سؤال بره وطاعة أمره اللذين ذكرهما في الحديث، حيث ذكر الاستهداء والاستطعام والاستكساء، وذكر الغفران والبر والفجور، فقال‏:‏ ‏(‏لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان منهم مسألته /ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيَط إذا أدخل البحر‏)‏،والخياط والمخيط‏:‏ما يخاط به، إذ الفعال والمفعل والمفعال من صيغ الآلات التي يفعل بها، كالمسعر، والمخلاب، والمنشار‏.‏ فبين أن جميع الخلائق إذا سألوا ـ وهم في مكان واحد وزمان واحد ـ فأعطي كل إنسان منهم مسألته، لم ينقصه ذلك مما عنده إلا كما ينقص الخياط ـ وهي الإبرة ـ إذا غمس في البحر‏.‏
وقوله‏:‏ ‏(‏لم ينقص مما عندي‏)‏ فيه قولان‏:‏
أحدهما‏:‏ أنه يدل على أن عنده أمورًا موجودة يعطيهم منها ما سألوه إياه، وعلى هذا فيقال‏:‏ لفظ النقص على حاله؛ لأن الإعطاء من الكثير، وإن كان قليلا، فلابد أن ينقصه شيئًا مـا‏.‏ ومـن رواه‏:‏ ‏(‏لم ينقص مـن ملكي‏)‏ يحمل على ما عنده، كما في هذا اللفظ؛ فإن قولـه‏:‏ ‏(‏مما عنـدي‏)‏ فيـه تخصيص ليس هو في قوله‏:‏ ‏(‏من ملكي‏)‏‏.‏ وقد يقال‏:‏ المعطي؛ إمـا أن يكـون أعيانًا قائمـة بنفسها، أو صفات قائمـة بغيرها‏.‏ فأما الأعيان فقد تنقل من محل إلى محل، فيظهر النقص في المحل الأول‏.‏ وأما الصفات فلا تنقل من محلها، وإن وجـد نظـيرها في محـل آخـر، كما يوجـد نظير علم المعلم في قلب المتعلم مـن غير زوال علم المعلم، وكما يتكلم المتكلم بكلام المتكلم قبله من غير انتقال كلام المتكلم الأول إلى/ الثاني‏.‏ وعلى هـذا فالصفات لا تنقص مما عنده شيئًا، وهي من المسؤول كالهدي‏.‏
وقد يجاب عن هذا بأنه هو من الممكن في بعض الصفات ألا يثبت مثلها في المحل الثاني حتى تزول عن الأول؛ كاللون الذي ينقص، وكالروائح التي تعبق بمكان وتزول، كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم على حمى المدينة أن تنقل إلى مَهيَعَة وهي الجحفة، وهل مثل هذا الانتقال بانتقال عين العرض الأول، أو بوجود مثله من غير انتقال عينه‏؟‏ فيه للناس قولان‏:‏ إذ منهم من يجوز انتقال الأعراض، بل من يجوز أن تجعل الأعراض أعيانًا، كما هو قول ضرار والنجار وأصحابهما، كبرغوث وحفص الفرد، لكن إن قيل‏:‏ هو بوجود مثله من غير انتقال عينه فذلك يكون مع استحالة العرض الأول وفنائه، فيعدم عن ذلك المحل ويوجد مثله في المحل الثاني‏.‏
القـول الثاني‏:‏ أن لفـظ النقص هنا كلفـظ النقص في حـديث موسـي والخضـر الذي في الصحيحين من حديث ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه‏:‏ ‏(‏أن الخضر قـال لموسي ـ لما وقـع عصفـور على قارب السفينـة فنقـر في البحـر ـ فقال‏:‏ يـا موسي، مـا نقص علمي وعلمـك مـن علم الله إلا كما نقص هـذا العصفور مـن هـذا البـحر‏)‏‏.‏ ومـن المعلـوم أن نفـس علم الله القائم بنفسـه لا يـزول مـنه/شيء بتعلـم العباد، وإنما المقصـود أن نسـبة علمي وعلـمك إلى علـم الله كنسـبة مـا علق بمنقار العصفـور إلى البحر‏.‏
ومن هذا الباب كون العلم يورث، كقوله‏:‏ ‏(‏العلماء ورثة الأنبياء‏)‏ ومنه قوله‏:‏ ‏{‏وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 16‏]‏ ، ومنه توريث الكتاب أيضًا كقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 32‏]‏ ، ومثل هذه العبارة من النقص، ونحوه تستعمل في هذا، وإن كان العلم الأول ثابتًا، كما قال سعيد بن المسيب لقتادة، وقد أقام عنده أسبوعًا سأله فيه مسائل عظيمة حتى عجب من حفظه، وقال‏:‏ نَزَفْتَنِي يا أعمى‏!‏ وإنْزَاف القليب، ونحوه هو رفع ما فيه بحيث لا يبقي فيه شيء‏.‏ ومعلوم أن قتادة لو تعلم جميع علم سعيد لم يَزُلْ علمه من قلبه كما يزول الماء من القليب، لكن قد يقال‏:‏ التعليم إنما يكون بالكلام، والكلام يحتاج إلى حركة وغيرها مما يكون بالمحل ويزول عنه؛ ولهذا يوصف بأنه يخرج من المتكلم؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 5‏]‏ ‏.‏
ويقال‏:‏ قد أخرج العالم هذا الحديث ولم يخرج هذا، فإذا كان تعليم العلم بالكلام المستلزم زوال بعض ما يقوم بالمحل وهذا نزيف وخروج ـ كان كلام سعيد بن المسيب على حقيقته‏.‏ ومضمونه أنه في تلك السبع الليالي من كثرة ما أجابه وكلمه فارقه أمور قامت به من حركات وأصوات،/بل ومن صفات قائمة بالنفس كان ذلك نزيفًا، ومما يقوي هذا المعني أن الإنسان، وإن كان علمه في نفسه، فليس هو أمرًا لازمًا للنفس لزوم الألوان للمتلونات، بل قد يذهل الإنسان عنه ويغفل، وقد ينساه ثم يذكره، فهو شيء يحضر تارة ويغيب أخري‏.‏ وإذا تكلم به الإنسان وعلمه فقد تَكِلُّ النفس وتعي، حتى لا يقوي على استحضاره إلا بعد مدة، فتكون في تلك الحال خالية عن كمال تحققه واستحضاره الذي يكون به العالم عالمًا بالفعل، وإن لم يكن نفس ما زال هو بعينه القائم في نفس السائل والمستمع، ومن قال هذا يقول‏:‏ كون التعليم يرسخ العلم من وجه لا ينافي ما ذكرناه، وإذا كان مثل هذا النقص والنزيف معقولًا في علم العباد كان استعمال لفظ النقص في علم الله بناء على اللغة المعتادة في مثل ذلك، وإن كان هو ـ سبحانه ـ منزهًا عن اتصافه بضد العلم بوجه من الوجوه، أو عن زوال علمه عنه، لكن في قيام أفعال به وحركات نزاع بين الناس من المسلمين وغيرهم‏.‏
وتحقيق الأمر أن المراد ما أخذ علمي وعلمك من علم الله، وما نال علمي وعلمك من علم الله، وما أحاط علمي وعلمك من علم الله، كما قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏ ، إلا كما نقص أو أخذ أو نال هذا العصفور من هذا البحر، أي‏:‏ نسبة هذا إلى هذا كنسبة هذا إلى هذا، وإن كان المشبه به جسمًا ينتقل من محل إلى محل ويزول/ عن المحل الأول، وليس المشبه كذلك؛ فإن هذا الفرق هو فرق ظاهر يعلمه المستمع من غير التباس، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر‏)‏، فشبه الرؤية بالرؤية، وهي، وإن كانت متعلقة بالمرئي في الرؤية المشبهة والرؤية المشبه بها، لكن قد علم المستمعون أن المرئي ليس مثل المرئي، فكذلك هنا شبه النقص بالنقص، وإن كان كل من الناقص والمنقوص والمنقوص منه المشبه به، ليس مثل الناقص والمنقوص، والمنقوص منه المشبه به‏.‏
ولهذا كل أحد يعلم أن المعلم لا يزول علمه بالتعليم، بل يشبهونه بضوء السراج الذي يحدث، يقتبس منه كل أحد، ويأخذون ما شاؤوا من الشهب، وهو باق بحاله، وهذا تمثيل مطابق، فإن المستوقد من السراج يحدث الله في فتيلته أو وقوده نارًا من جنس تلك النار، وإن كان قد يقال‏:‏ إنها تستحيل عن ذلك الهواء مع أن النار الأولى باقية، كذلك المتعلم يجعـل في قلبـه مثل علم المعلم مع بقاء علم المعلم؛ ولهذا قال على ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ العلم يزكو على العمل، أو قال‏:‏ على التعليم، والمال ينقصه النفقة‏.‏ وعلى هذا فيقال في حديث أبي ذر‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏(‏مما عندي‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏من ملكي‏)‏ هو من هذا الباب، وحينئذ فله وجهان‏:‏
أحدهما‏:‏ أن يكون ما أعطاهم خارجًا عن مسمي ملكه ومسمي ما/ عنده، كما أن علم الله لا يدخل فيه نفس علم موسي والخضر‏.‏
والثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ بل لفظ الملك وما عنده يتناول كل شيء، وما أعطاهم فهو جزء من ملكه ومما عنده، ولكن نسبته إلى الجملة هذه النسبة الحقيرة‏.‏ ومما يحقق هذا القول الثاني أن الترمذي روي هذا الحديث من طريق عبد الرحمن بن غنم، عن أبي ذر مرفوعًا، فيه‏:‏ ‏(‏لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، ورطبكم ويابسكم، سألوني حتى تنتهي مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم ما سألوني، ما نقص ذلك مما عندي كمغرز إبرة لو غمسها أحدكم في البحر، وذلك أني جَوَادٌ ماجد واجد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له‏:‏ كن فيكون‏)‏، فذكره ـ سبحانه ـ أن عطاءه كلام، وعذابه كلام، يدل على أنه هو أراد بقوله‏:‏ ‏(‏من ملكي‏)‏ و‏(‏مما عندي‏)‏ أي‏:‏ من مقدوري، فيكون هذا في القدرة كحديث الخضر في العلم، والله أعلم‏.‏
ويؤيد ذلك أن في اللفظ الآخر الذي في نسخة أبي مسهر‏:‏ ‏(‏لم ينقص ذلك من ملكي شيئًا إلا كما ينقص البحر‏)‏، وهذا قد يقال فيه‏:‏ إنه استثناء منقطع، أي‏:‏ لم ينقص من ملكي شيئًا، لكن يكون حاله حال هذه النسبة، وقد يقال‏:‏ بل هو تام، والمعني على ما سبق‏.‏