الفصل الأول:طلاقة القدرة في الكون
 

بسم الله الرحمن الرحيم

طلاقة القدرة في الكون

َ ولم تقف طلاقة قدرة الله في خلق الانسان عند هذا الحد، بل امتدت لتشمل كل أوجه الخلق، فألصل في الايجاد هو من ذكر وأنثى، ولكن الله سبحانه وتعالى بطلاقة قدرته خلق انسانا بدون ذكر أو أنثى وهو " آدم" عليه السلام، وخلق من ذكر بدون أنثى وهي " حواء"، خلقها من ضلع آدم عليه السلام، وخلق انسانا من انثى بدون ذكر وهو " عيسى" عليه السلام، وهذه كلها حدثت مرة واحدة لاثبات طلاقة قدرته، وهي لا تتكرر، لأنها تلفتنا الى طلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه ليس على قدرته قيود ولا حدود، فهو جل جلاله خالق الأسباب، وقدرته تبارك وتعالى فوق الأسباب، على أن هناك أشياء كثيرة عن طلاقة قدرة الله بالنسبة للانسان سنتحدث عنها تفصيلا في فصل قادم

نأتي الى طلاقة قدرة الله تعالى في ظواهر الكون، لو أخذنا المطر مثلا، الله سبحانه وتعالى بأسباب الكون جعل مناطق ممطرة في الكون، ومناطق لا ينزل فيها المطر، والعلماء كشف الله لهم من علمه ما جعلهم يضعون خريطة للأسباب تحدد المناطق الممطرة وغير الممطرة

يأتي الله سبحانه وتعالى في لفتة الى طلاقة قدرته، قتجد المناطق الممطرة لا تنزل فيها قطرة ماء وتصاب بالجدب، ويهلك الزرع والحيوان، وقد يموت الانسان عطشا، بالرغم من أن هذه المناطق كان المطر ينزل فيها وربما سار في أنهار ليروي غيرها من البلاد التي لا ينزل فيها المطر

فنجد مثلا منابع النيل التي هي مناطق غزيرة المطر، تأتي فيها سنوات جدب فلا يجد الناس الماء، ونجد بلادا كالولايات المتحدة وبلاد أوروبا يصيبها الجدب في سنوات، ولا يحدث هذا بشكل مستمر، بل في سنوات متباعدة، لو أن المطر ينزل بالأسباب وحدها ما وقع هذا الجدب في المناطق الغزيرة المطر، ولكن الله يريد أن يلفتنا الى طلاقة قدرته والى أن الماء الذي ينزل من السماء ليس خاضعا للأسباب وحدها، ولكن الي يحكمه هو طلاقة قدرة الله، حتى لا نعتقد أننا أخذنا الدنيا وملكناها بالأسباب، ولكي نعرف أن هناك طلاقة لقدرة الله سبحانه وتعالى هي التي تعطي وتمنع، وأنه جل جلاله فوق الأسباب وهو سبحانه المسبب يغيّر ويبدّل كما يشاء

فاذا جئنا الى الزرع، ذلك الذي فيه عمل للانسان، نجد مظاهر طلاقة القدرة، فالانسان يزرع الزرع والله يعطيه كل الأسباب، الماء موجود والكيماويات متوفرة، والأرض جيّدة، ثم بعد ذلك تأتي آفة لا يعرف أحد عنها شيئا، ولا يحسب حسابها فتقضي على هذا الزرع تماما، وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى

وأحيط بثمره فأصبح يقلّب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول ياليتني لم أشرك بربي أحدا الكهف 42

ونحن نعرف أن الآفات تصيب كل مكان في الأرض لا يعلو عليها علم مهما بلغ، وهكذا نعرف أن الأرض لا تعطينا الثمر بالأسباب وحدها، ولكن بقدرة الله سبحانه وتعالى التي هي فوق الأسباب، لكيلا نعبد الأسباب وننسى المسبب وهو الله تعالى

فاذا انتقلنا الى الحيوان نجد طلاقة القدرة واضحة، فهناك من الحيوان ما تزيد قوته على الانسان مرات ومرات، ولكن الله سبحانه وتعالى قد أخضعه وذلله للانسان، فتجد الصبي الصغير يقود الجمل أو الحصان ويضربه، والجمل مثلا يستطيع أن يقضي عليه بضربة قدم واحدة ولكنه لا بفعل شيئا ويمضي ذليلا مطيعا ولا يرد على الايذاء رغم قدرته على ذلك، ونجد الكلب مثلا يحرس صاحبه ويدافع عنه لأن الله ذلله له

فاذا جئنا الى الذئب أو الى الثعب من نفس فصيلة الكلب نجده يفترس الانسان ويقتله، ولو أن هذا التذليل للحيوان بقدرة الانسان لاستطاع كما ذلل الجمل والبقرة والكلب أن يذلل الذئب والثعلب وغيرهما من الحيوانات، ولكن الله يريد أن يلفتنا الى أن هذا التذليل بقدرته سبحانه وتعالى، ان الثعبان الصغير وهو حشرة ضئيلة الحجم يقتل الانسان، دون أن يستطيع أن يذلله، ليلفتنا الله سبحانه الى أن كل شيء بقدرته وجعل موازين القوة والضخامة تختل، حتى لا يقال ان هذا الحيوان قوي بحجمه أو بالقوة التي خلقت له، بل جعل أضعف الأشياء يمكن أن يكون قاتلا للبشر

ثم نأتي الى الجماد، الأرض من طبيعتها ثبات قشرتها حتى يستطيع الناس أن يعيشوا عليها، ويبنوا مساكنهم، ويمارسوا حياتهم، ولو أن قشرة الأرض لم تكن ثابتة لاستحالة الحياة عليها، ولاستحالت عمارتها، والله سبحانه وتعالى يريد منا عمارة الأرض، ولذلك جعل قشرتها ثابتة صلبة، ولكن في بعض الأحيان تتحول الى عدم ثبات، فتنفجر البراكين ملقية بالحمم، وتحدث الزلازل التي تدمر كل ما على المكان الذي تقع فيه

ويتقدم العلم ويكشف الله بعضا من علمه لبعض خلقه ما يشاء، ولكن يبقى الانسان عاجزا على أن يتنبأ بالزلازل، فيأتي الزلزال في أكثر بلاد الدنيا تقدما ليفاجئ أهلها دون أن يشعروا بقرب وقوعه، بل انه من طلاقة قدرة الله تعالى أنه أعطى بعض الحيوانات، التي ليس لها عقول تفكر، ولا علم ولا حضارة، أعطاها غريزة الاحساس بقرب وقوع الزلزال، ولذلك فهي تسارع بمغادرة المكان أو يحدث لها هياج، ان كانت محبوسة في لأقفاص أو حظائر مغلقة، وذلك ليلفتنا الله سبحانه وتعالى الى أن العلم يأتي منه سبحانه وتعالى ولا يحصل عليه الانسان بقدرته، فيعطي سبحانه من لا قدرة له على الفكر والكشف العلمي ما لا يعطيه لذلك الذي ميزه بالعقل والعلم

لماذا؟ لنعلم أن كل شيء من الله فلا نعبد قدراتنا، ولا نقول

انتهى عصر الدين والايمان وبدأ عصر العلم، بل نلتفت الى أن الله يعطي لمن هم دوننا في الخلق علما لا نصل نحن اليه، فنعرف أن كل شيء بقدرته وحده سبحانه وتعالى

ومظاهر طلاقة قدرة الله في الكون كثيرة، فهو وحده الذي ينصر الضعيف على القوي، وينتقم للمظلوم من الظالم، وكل ما في الكون خاضع لطلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى، على أن طلاقة القدرة في تغيير ما هو ثابت من قوانين الكون كلها ويحدث الدمار وتنتهي الحياة

وذلك مصداقا لقوله تعالى

اذا السماء انفطرت واذا الكواكب انتثرت واذا البحار فجّرت واذا القبور بعثرت علمت نفس ما قدمت واخرّت الانفطار 1_5

وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم، تنبئنا بما سيحدث عندما تقوم القيامة

اذن الذين يقولون

ان عظمة الله سبحانه وتعالى في خلقه هي الثبات والدقة الت لا تتأثر بالزمن، والتي تبقى ملايين السنين دون أن تختل ولو ثانية واحدة، نقول لهم

هذه موجودة وانظروا الى القوانين الكونية ودقتها وكيف أنها لم تتأثر بالزمن

والين يقولون

ان عظمة الحق سبحانه وتعالى في طلاقة قدرته في كونه، وألا تكون الأسباب مقيدة لقدرة الخالق والمسبب، نقول لهم

انظروا في الكون وحولكم مظاهر طلاقة القدرة، وليست هذه المظاهر مختفية أو مستورة، بل هي ظاهرة أمامنا جميعا، وليست في أحداث بعيدة عن حياتنا، بل هي تحدث لنا كل يوم

واذا صاح انسان من قلبه

(ربنا كبير)، أو (ربنا موجود)، أو ( ربك يمهل ولا يهمل)، فمعنى ذلك أنه رأى طلاقة قدرة الله، تنصف مظلوما، أو تنتقم من ظالم، أو تنصر ضعيفا على قوي، أو تأخذ قويا وهو محاط بكل قوته الدنيوية

فالانسان لا يتذكر قدرة الله عندما يرى الكون أمامه يمضي بالأسباب، ذلك أن هذا شيء عادي لا يوجب التعجب، فانتصار القوي على الضعيف لا يثير في النفس اندهاشا، والأجر المعقول للعمل شيء عادي، والأحداث بالأسباب هو ما يعيشه الناس، ولكننا نتذكر قدرة الله تعالى اذا اختلت الأسباب أمامنا، وجاء المسبب ليعطينا ما لا يتفق مع الأسباب ولا مع قوانينها

في هذا الفصل استعرضنا بعض أسباب الوجود التي تثبت قضية الايمان بالدليل العقلي، ولكن الله سبحانه وتعالى يقول

وفي أنفسكم أفلا تبصرون الذاريات 21

على أن بعض الناس ينظر الى نفسه فلا يرى شيئا، فما معنى هذه الآية الكريمة؟ هذا هو موضوع الفصل القادم