وسُئِل أيضاً عن بعض الأحاديث
 
سُئِل عن
هذه الأحاديث‏:‏ ‏(‏من طاف بهذا البيت أسبوعًا إيمانًا واحتسابًا غفر له ما قد سلف‏)‏‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من وقف بعرفات، وظن أن الله لا يغفر له، لا غفر الله له‏)‏ وأيضًا‏:‏ ‏(‏لو مر بعرفات راعي غنم ـ ولم يعلم أنه يوم عرفة ـ غفر له‏)‏ وقوله ـ عليه السلام ـ‏:‏ ‏(‏من حج ولم يَزُرْني فقد جفاني، ومن زارني فقد وجبت له شفاعتي‏)‏ هل هذه الأحاديث في الصحيح أم لا‏؟‏ وما معني قوله عـز وجـل‏:‏ ‏{‏مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏ ‏.‏
فأجاب‏:‏
الحمد لله رب العالمين، ليس في هذه الأحاديث حديث لا في الصحيح، ولا في السنن، وفيها ما معناه مخالف للكتاب والسنة، فإنه لو وقف الرجل بعرفات خائفًا من الله ألا يغفر له ذنوبه؛ لكونها كبائر، لم يقل‏:‏ إن الله لا يغفر له، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فما دون الشرك ـ إن شاء الله ـ غفره لصاحبه، وإن شاء لم يغفره، لكن إذا تاب العبد من الذنب غفره الله له؛ شركًا كان أو غير شرك‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا على أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏53‏]‏ ، فهذا في حق التائب‏.‏
وأيضًا، فالواقف بعرفات لا يسقط عنه ما وجب عليه من صلاة وزكاة بإجماع المسلمين، بل هم متفقون على أن الصلاة أوكد من الحج بمالا نسبة بينهما‏.‏ فإن الحج يجب مرة في العمر على المستطيع، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد الهجرة إلا حَجَّةً واحدة، وأما الصلاة فإنها فرض على كل عاقل بالغ ـ إلا الحائض والنفساء ـ سواء كان صحيحًا، أو مريضًا، آمنًا، أو خائفًا، غنيًا أو فقيرًا، رجلا أو امرأة، في اليوم والليلة نحو أربعين ركعة،سبعة عشر فريضة، والسنن الرواتب عشر ركعات، أو اثنتا عشرة ركعة، وقيام الليل إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة، وكذلك حقوق العباد من الذنوب، والمظالم، وغيرها لا تسقط بالحج باتفاق الأئمة‏.‏
والحديث الذي يروي في سقوط المظالم وغيرها بذلك في حديث عباس بن مِرْدَاس حديث ضعيف‏.‏ وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ ‏(‏الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، كفارة لما بينهن، إذا اجْتُنِبَتِ الكبائر‏)‏ فهذه الأمور التي هي أعظم من الحج، ولكن الكبائر تكفرها التوبة منها بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة‏.‏
/وكذلك قوله‏:‏ ‏(‏من حج ولم يزرني فقد جفاني‏)‏ كذب، فإن جفاء النبي صلى الله عليه وسلم حرام، وزيارة قبره ليست واجبة باتفاق المسلمين، ولم يثبت عنه حديث في زيارة قبره، بل هذه الأحاديث التي تروي‏:‏ ‏(‏من زارني، وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة‏)‏ ـ وأمثال ذلك كذب باتفاق العلماء‏.‏
وقد روي الدارقطني، وغيره في زيارة قبره أحاديث ، وهي ضعيفة‏.‏
وقد كره الإمام مالك ـ وهو من أعلم الناس بحقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالسنة التي عليها أهل مدينته من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم ـ كره أن يقال‏:‏ زُرْتُ قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان هذا اللفظ ثابتًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفًا عند علماء المدينة، لم يكره مالك ذلك‏.‏
وأما إذا قال‏:‏ سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يكره بالاتفاق، كما في السنن عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من رجل يسلم على إلا رد الله على رُوحي حتى أرد عليه السلام‏)‏ وكان ابن عمر يقول‏:‏ السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أَبَتِ‏.‏ وفي سنن أبي داود عنه، أنه قال‏:‏ ‏(‏أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة، وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة على‏)‏ قالوا‏:‏ وكيف تعرض صلاتنا عليك، وقد أَرِمْتَ‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ ‏(‏إن الله حَرَّم على /الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء‏)‏‏.‏
وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏ ، فهذا من باب البيت‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 67‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ‏}‏ ‏[‏قريش‏:‏3، 4‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَي إليه ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 57‏]‏ ، فكانوا في الجاهلية يقتل بعضهم بعضًا خارج الحرم، فإذا دخلوا الحرم، أو لَقِي الرجل قاتل أبيه لم يَهِجْهُ، وكان هذا من الآيات التي جعلها الله فيه، كما قال‏:‏ ‏{‏فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏97‏]‏ ، والإسلام زاد حرمته‏.‏
فمذهب أكثر الفقهاء أن من أصاب حدًا خارج الحرم، ثم لَجَأَ إلى الحرم لم يقم عليه الحد حتى يخرج منه، كما قال ابن عمر، وابن عباس‏.‏ وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد، وغيرهما؛ لما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن مكة حَرَّمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا، ولا يَعْضِدَ بها شجرًا، وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس‏)‏‏.‏
/ومن ظن أن من دخل الحرم كان آمنًا من عذاب الآخرة، مع ترك الفرائض من الصلاة وغيرها، ومع ارتكاب المحارم، فقد خالف إجماع المسلمين، فقد دخل البيت من الكفار والمنافقين والفاسقين من هو من أهل النار بإجماع المسلمين‏.‏ والله أعلم‏.‏
/سُئِلَ ـ رَضي الله عَنْه ‏:‏ عن هذا الحديث‏:‏ ‏(‏من علمك آية من كتاب الله فكأنما ملك رِقَّك، إن شاء باعك وإن شاء أعتقك‏)‏، فهل هذا في الكتب الستة، أو هو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏
فأجاب‏:‏
ليس هذا في شيء من كتب المسلمين؛ لا في الستة ولا في غيرها، بل مخالف لإجماع المسلمين؛ فإن من عَلَّم غيره لا يصير به مالكًا، إن شاء باعه وإن شاء أعتقه، ومن اعتقد هذا فإنه يُسْتَتَاب، فإن تاب وإلا قتل‏.‏ والحر المسلم لا يُسْتَرَق، وسيد مُعَلِمَ الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم علمهم الكتاب والحكمة، وهو أولى بهم من أنفسهم، ومع هذا فهم أحرار لم يسترقهم ولم يستعبدهم، بل كان حكمه في أمته الأحرار خلاف حكمه فيما ملكته يمينه، ولو كان المؤمنات ملكًا له لجاز أن يَطَأ كل مؤمنة بلا عقد نكاح، ولَكَان لِمْن عَلَّم امرأة آية من القرآن أن يطأها بلا نكاح، وهذا لا يقوله مسلم‏.‏
/سُئِلَ عن معني قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من انتهر صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمنًا وإيمانًا، وآمنه يوم الفزع الأكبر‏)‏‏.‏
فأجاب‏:‏
أما قوله‏:‏ ‏(‏من انتهر صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمنًا وإيمانًا‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏من وقَّرَ صاحب بدعة أعان على هَدْم الإسلام‏)‏ ونحو ذلك، فهذا الكلام معروف عن الفُضَيْل بن عِيَاض‏.‏
والبدعة‏:‏ ما خالفت الكتاب والسنة أو إجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات؛ كأقوال الخوارج والروافض والقدرية والجهمية، وكالذين يتعبدون بالرقص والغناء في المساجد، والذين يتعبدون بحلق اللحي وأكل الحشيشة، وأنواع ذلك من البدع التي يتعبد بها طوائف من المخالفين للكتاب والسنة، والله أعلم‏.‏