فَصْـل في غلط من قال أن الحقائق تابعة للعقائد
 
فَصْـل
إذا تبين هذا، فمن الناس من صار في طَرَفي نقيض، فحكى عن بعض السوفسطائية أنه جعل جميع العقائد هي المؤثرة في الاعتقادات، ولم يجعل للأشياء حقائق ثابتة في نفسها، يوافقها الاعتقاد تارة ويخالفها أخرى، بل جعل الحق في كل شيء ما اعتقده المعتقد، وجعل الحقائق تابعة للعقائد، وهذا القول على إطلاقه وعمومه لا يقوله عاقل سليم العقل، وإنما هو من جنس ما يحكى أن السوفسطائية أنكروا الحقائق ولم يثبتوا حقيقة ولا علمًا بحقيقة، وأن لهم مقدمًا يقال له‏:‏ سوفسطا كما يذكره فريق من أهل الكلام‏.‏
وزعم آخرون أن هذا القول لا يعرف أن عاقلًا قاله، ولا طائفة تسمى بهذا الاسم، وإنما هي كلمة معربة من اللغة اليونانية ومعناها‏:‏ الحكمة المموهة، يعنون الكلام الباطل الذي قد يشبه الحق، كما قد يتخيله الإنسان لفساد عقله أو مزاجه أو اشتباه الأمر عليه، وجعلوا /هذا نوعًا من الكلام والرأى يعرض للنفوس، لا أنه صنف من الآدميين‏.‏
وبكل حال، فمعلوم أن التخيلات الفاسدة كثيرًا ما تعرض لبنى آدم، بل هي كثيرة عليهم، وهم يجحدون الحق؛ إما عنادًا، وإما خطأ في أمور كثيرة وفي أحوال كثيرة، وإن كان الجاحد قد يقر بحق آخر، أو يقر بذلك الحق في وقت آخر، فالجهل والعناد الذي هو السفسطة هو فيهم خاص مقيد، لا أنه عام مطلق، قد يبتلى به بعضهم مطلقًا وإن لم يستمر به الأمر، وقد يبتلى به في شيء بعينه على سبيل الدوام، وأما ابتلاء الشخص المعين به، فقد يكون؛ إما مع فساد العقل المسقط للتكليف وهو الجنون،وإما مع صحة العقل المشروط في التكليف، فما أعلم شخصًا جاهلًا بكل شيء معاندًا لكل شيء حتى يكون سوفسطائيًا‏.‏
ومما يبين أن هذا لم يقع عند المتكلمة ـ أيضًا ـ أن كثيرًا من متكلمة أهل الحديث والسنة وغيرهم يقولون‏:‏ إن العقل المشروط في التكليف نوع من العلوم الضرورية؛ كالعلم بوجوب الواجبات، وجواز الجائزات، وامتناع الممتنعات‏.‏ واستدلوا على ذلك بأن العاقل لا يخلو من علم شيء من ذلك، وهذا قول القاضي أبي بكر، وابن البَاقِلانى، وأبي الطيب الطبري، والقاضي أبي يَعْلى، وابن عقيل، وغيرهم، فمن كان هذا / قوله لم يصح أن يحكى عن عاقل أنه أنكر العلوم جميعها إلا على سبيل العناد‏.‏ ومعلوم أن العناد لا يكون إلا لغرض، وليس لأحدٍ غرضٌ أن يعاند في كل شيء، ويجحده على سبيل الدوام‏.‏
ومن الناس بإزاء هؤلاء مَنْ قد يتوهم أنه لا تأثير للعقائد في المعتقدات، ولا تختلف الأحكام باختلاف العقائد، بل يتخيل أنه إذا اعتقد وجوب فعل، أو تحريمه كان من خرج عن اعتقاده مبطلًا مرتكبًا للمحرم، أو تاركًا للواجب، وأنه يستحق من الذم والعقاب ما يستحقه جنس من ترك الواجب، أو فعل المحرم، وإذا عورض بأنه متأول، أو مجتهد لم يلتفت إلى هذا، وقال‏:‏ هو ضال مخطئ مستحق للعقاب، وهذا ـ أيضًا ـ على إطلاقه وعمومه لا يعتقده صحيح العقل والدين، ما أعلم قائلًا به على الإطلاق والعموم كالطرف الأول، وإنما أعلم أقوامًا وطوائف يُبْتَلون ببعض ذلك ولوازمه في بعض الأشياء، فإن من غالب من يقول بعصمة الأنبياء والأئمة الاثنى عشر عن الخطأ في الأقوال والأعمال مَنْ قد يرى أنـه لو أخطأ الإمـام في فعلٍ لكان ذلك عيبًا وذمًا، وبين هـذين الطرفين المتباعـدين أطراف ـ أيضًا ـ نشأ عنها اختلاف الناس في تصويب المجتهدين وتخطئتهم في الأصول والفروع، كما سننبه عليه ـ إن شاء اللّه‏.‏