فصل في الخطأ المغفور في الاجتهاد
 
فصل
والخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعلمية كما قد بسط في غير موضع كمن اعتقد ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث وكان لذلك ما يعارضه ويبين المراد ولم يعرفه مثل من اعتقد أن الذبيح إسحاق لحديث اعتقد ثبوته أو اعتقد أن الله لا يرى؛ لقوله‏:‏ ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏ ولقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 51‏]‏ كما احتجت عائشة بهاتين الآيتين على انتفاء الرؤية في حق النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يدلان بطريق العموم‏.‏ وكما نقل عن بعض التابعين أن الله لا يرى وفسروا قوله‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 22، 23‏]‏ بأنها تنتظر ثواب ربها كما نقل عن مجاهد وأبي صالح‏.‏ أو من اعتقد أن الميت لا يعذب ببكاء الحي؛ لاعتقاده أن قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏ يدل على ذلك؛ وأن ذلك يقدم على رواية الراوي لأن السمع يغلط كما اعتقد ذلك طائفة من السلف والخلف‏.‏ أو اعتقد أن الميت لا يسمع خطاب الحي؛ لاعتقاده أن قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 80‏]‏ يدل على ذلك‏.‏ أو اعتقد أن الله لا يعجب كما اعتقد ذلك شريح؛ لاعتقاده أن العجب إنما يكون من جهل السبب والله منزه عن الجهل‏.‏ أو اعتقد أن عليا أفضل الصحابة؛ لاعتقاده صحة حديث الطير؛ وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اللهم ائتني بأحب الخلق إليك؛ يأكل معي من هذا الطائر‏)‏‏.‏ أو اعتقد أن من جس للعدو وأعلمهم بغزو النبي صلى الله عليه وسلم فهو منافق، كما اعتقد ذلك عمر في حاطب وقال‏:‏ دعني أضرب عنق هذا المنافق‏.‏ أو اعتقد أن من غضب لبعض المنافقين غضبة فهو منافق؛ كما اعتقد ذلك أسيد بن حضير في سعد بن عبادة وقال‏:‏ إنك منافق تجادل عن المنافقين‏.‏ أو اعتقد أن بعض الكلمات أو الآيات أنها ليست من القرآن؛ لأن ذلك لم يثبت عنده بالنقل الثابت كما نقل عن غير واحد من السلف أنهم أنكروا ألفاظا من القرآن كإنكار بعضهم‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏ وقال‏:‏ إنما هي ووصى ربك‏.‏ وإنكار بعضهم قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏ وقال‏:‏ إنما هو ميثاق بني إسرائيل وكذلك هي في قراءة عبد الله‏.‏ وإنكار بعضهم ‏{‏أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 31‏]‏ إنما هي أولم يتبين الذين آمنوا‏.‏ وكما أنكر عمر على هشام بن الحكم لما رآه يقرأ سورة الفرقان على غير ما قرأها‏.‏ وكما أنكر طائفة من السلف على بعض القراء بحروف لم يعرفوها حتى جمعهم عثمان على المصحف الإمام‏.‏ وكما أنكر طائفة من السلف والخلف أن الله يريد المعاصي؛ لاعتقادهم أن معناه أن الله يحب ذلك ويرضاه ويأمر به‏.‏ وأنكر طائفة من السلف والخلف أن الله يريد المعاصي؛ لكونهم ظنوا أن الإرادة لا تكون إلا بمعنى المشيئة لخلقها وقد علموا أن الله خالق كل شيء؛ وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن والقرآن قد جاء بلفظ الإرادة بهذا المعنى وبهذا المعنى لكن كل طائفة عرفت أحد المعنيين وأنكرت الآخر‏.‏ وكالذي قال لأهله‏:‏ إذا أنا مت فأحرقوني‏:‏ ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين‏.‏ وكما قد ذكره طائفة من السلف في قوله‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 5‏]‏ وفي قول الحواريين‏:‏ ‏{‏هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 112‏]‏ وكالصحابة الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم هل نرى ربنا يوم القيامة ‏؟‏ فلم يكونوا يعلمون أنهم يرونه؛ وكثير من الناس لا يعلم ذلك؛ إما لأنه لم تبلغه الأحاديث وإما لأنه ظن أنه كذب وغلط ‏.‏