َ الفصل الثالث:الدليل الغيبي:الغيب نوعان
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الغيب نوعان

قد يكون عنوان هذا الفصل فيه تناقض ظاهري مع موضوع الكتاب، ذلك أننا لا نتحدث هنا عن الغيب، ولكننا نتحدث عن الأدلة المادية التي يتحكم فيها العقل وحده ويشهد بها، ولذلك قد يقال

ما دمتم تتحدثون عن الدليل العقلي على وجود الله، فلماذا لجأتم الى الغيب؟ نقول

اننا لم نلجأ الى ما هو غيب كالملائكة والجنة والنار وحياة البرزخ الى غير ذلك مما يغيب عن عقولنا ولكننا نأخذ بالدليل المادي ما يؤكد لنا أن الغيب قائم وموجود، وأننا ان لم ندركه بعقولنا وأبصارنا، فليس معنى ذلك أنه غير موجود يؤدي مهمته في الحياة، ذلك أن وجود الشيء مختلف تماما عن ادراك هذا الوجود، فقد يوجد الشيء وأنت لا تدركه، ومع ذلك فهو يؤدي مهمته في الحياة، ثم تأتي نفحة من رحمة الله تجعلنا ندرك بعقولنا أن ما حسبنا أنه ليس موجودا انما هو موجود وقائم ويؤدي مهمته

وقبل أن نبدأ ااحديث لا بد أن نعرف أن هناك نوعان من الغيب

غيبا نسبيا وغيبا مطلقا، الغيب النسبي لا يعتبر غيبا في علم الله وحده، بل يمكن أن يعرفه البشر، والغيب المطلق لا يعلمه الا الله سبحانه وتعالى

ما هو الغيب النسبي؟ هو ما لا تعلمه أنت ولكن يعلمه غيرك، هب أن رئيس دولة ما اختار أحد الناس ليتولى منصب الوزارة، ولكن هذا الاختيار لم يبلغ صاحبه، اذن فهو غيب عن صاحبه، ولكنه معلوم لرئيس الدولة وكتبه الى آخره، ولنفرض أن لصا سرق من بيتك شيئا، أنت حين اكتشفت السرقة لا تعرف من الذي سرق؟ ولا أين المسروقات؟ ولكن الذي سرق يعرف نفسه ويعرف أين اخفى المسروقات, الخ

اذن فهذا غيب نسبي، أي بالنسبة لك ولكنه معلوم بالنسبة لغيرك، هذا الغيب قد يعرفه بعض الناس، ولكن الغيب المطلق لا يعرفه أحد

الله سبحانه وتعالى كشف لنا أنه يعلم الغيب النسبي والغيب المطلق، وأعطانا الدليل على ذلك حتى نعرف ان ما سيقع في هذا الكون موجود عند الله، ومعلوم ومعد، بحيث يخرج الى الدنيا بكلمة كن، ولذلك فاننا لا بد أن نلتفت الى آيتين كريميتين في القرىن الكريم، الآية الأولى قول الله تعالى

انما أمره اذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون يس 82

أي أن الله سبحانه وتعالى حين يريد أن يظهر لنا شيئا يمارس مهمته في الحياة فانما يقول له" كن"، فيخرج بكلمة كن من علم الله سبحانه وتعالى الى كون الله فنعرفه، في هذه الآية لا بد أن نلتفت الى قول الله تعالى

يقول له، وما دام الحق سبحانه وتعالى يقول

يقول له، فمعنى ذلك أن هذا الشيء موجود، والا لما قال الله

يقول له لأن الخطاب هنا لشيء موجود فعلا

اذن فكل أحداث الكون وكل أحداث الدنيا والآخرة موجودة في علم الله سبحانه وتعالى، فاذا قال لها

كن خرجت الى علم الناس، ولذلك فان يوم البعث مثلا موجود بكل تفاصيله وأحداثه في علم الله، والجنة موجودة، والنار أيضا موجودة، لذلك اذا قيل في الحديث الشريف

" هذا رمضان قد جاء تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النار، وتغل فيه الشياطين" البخاري ومسلم

قد يتساءل البعض كيف يحدث هذا والجنة لم تخلق بعد، والنار لم تخلق كذلك، لأن وقتها لم يأت؟!

نقول

لا انهام مخلوقتان في علم الله بكل ما فيهما، فاذا جاء وقتهما أظهرهما الله، وفي هذا يلفتنا الحق سبحانه وتعالى في القرآن الكريم

يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل انما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها الا هو الأعراف 187

أي أن الساعة بكل أحداثها موجودة عند الحق سبحانه وتعالى، ولكنه لا يظهرها الا عندما يشاء، اذن فكل شيء موجود في علم الله وهو يظهره متى شاء وكيف شاء

الآية الثانية قول الله تعالى

أتى أمر الله فلا تستعجلوه النحل1

كيف يقول الحق سبحانه وتعالى

أتى أي حدث باستخدام الزمن الماضي، ثم يقول

لا تستعجلوه باستخدام الزمن المقبل، أليس هذا تناقضا؟ نقول

انه لا يوجد أي تناقض لأن هذا الأمر الذي تتحدث عنه الآية الكريمة أتى في علم الله أي تقرر، وما دام قد تقرر فانه حادث بلا شك لأنه لا توجد قوة ولا قدرة تستطيع أن تمنع ما يريده الله، والله سبحانه وتعالى دائم الوجود لا تأخذه سنة ولا نوم حتى تظن أنه قد يغفل عن شيء دائم القوة والقدرة، وكل من في الكون يستمد قوته قدرته من الله سبحانه وتعالى

وذلك ما دام الله هو القاهر فوق عباده جميعا، فمتى قال

أتى يكون قد حدث فعلا، أما قوله

فلا تستعجلوه أي لا تستعجلوا ظهوره وخروجه الى دنياكم المادية، أو لا تستعجلوا ظهوره لكي يصبح مشهودا لديكم، وهكذا نرى أنه لا يوجد أي تناقض أو تضارب في قوله تعالى

أتى أمر الله فلا تستعجلوه

نأتي بعد ذلك الى الدليل الغيبي على وجود الله، ونبدأ بالحديث بالدليل من الانسان أولا، ومن الأحداث ثانيا، ومن قضايا الكون ثالثا

فتلك هي النقاط الثلاث التي سنتحدث عنها في هذا الفصل، وان كانت هناك نقاط كثيرة لا يتسع المجال لها، لأنها ستتناول الدليل الكوني، والدليل الاحصائي، والدليل العلمي وغيره من الأدلة، ونحن هنا نعطي أمثلة يستطيع الناس أن يقيسوا عليها بعد ذلك، لأنه كما قلنا كل شيء في هذا الكون يشهد أنه لا اله الا الله، ويشهد بالدليل المادي

اذا أردنا أن نبدأ بالنفس البشرية، فان الله شبحانه وتعالى أعطانا الدليل على أنه يعلم غيب النفس البشؤية وما تخفيه، واذا أردنا أن نبدأ بالنفس البشرية فاننا نبدأ بأن الله يسيطر على غيب هذه النفس سيطرة كاملة، ولذلك قال الله تعالى في القرآن الكريم

وأوحينا الى أم موسى أن أرضعيه فان خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني انّا رادّوه اليك وجاعلوه من المرسلين القصص 7

اذن خواطر النفس البشرية هي في يد الله سبحانه وتعالى، والعقل البشري هو في يد الله سبحانه وتعالى يعطيه من الخواطر ما يشاء، ويمنع عنه ما يشاء ولكن الانسان خلق حرا في الاختيار، نقول

نعم حر فيما أراد الله له أن يكون حرا فيه وهو المنهج، ولكنه ليس حرا حرية مطلقة رغم أن الكثيرين ينكرون هذه الحقيقة، فالانسان حر، نعم فيما قال الله له افعل ولا تفعل، هذا نطاق الحرية الأولى في تطبيق المنهج، وهو حر أن ينطق بالشهادة شهادة الايمان أو شهادة الكفر والعياذ بالله، وهو حر في أن يفعل ما وضعه الله في منهجه وفي تطبيق هذا المنهج، ومنهج الله يشمل كل نشاطات الحياة

فالاسلام ليس مجرّد شهادة لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله، واقام الصلاة وايتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع اليه سبيلا، تلك هي أركان الاسلام الأركان التي بني عليها هذا الدين

الاسلام أشمل من ذلك بكثير، ولكن العقل البشري فيما لا يخص المنهج خاضع لقدرة الله