فصل في العلتين لا تكونان مستقلتين بحكم واحد حال الاجتماع
 
فصل
وقد تبين بذلك أن العلتين لا تكونان مستقلتين بحكم واحد حال الاجتماع وهذا معلوم بالضرورة البديهية بعد التصور، فإن الاستقلال ينافي الاشتراك، إذ المستقل لا شريك له فالمجتمعان على أمر واحد لا يكون أحدهما مستقلا به‏.‏ وأن الحكم الثابت بعلتين - سواء قيل‏:‏ هو أحكام، أو حكم واحد مؤكد - لا تستقل به إحداهما بل كل منهما جزء من علته، لا علة له‏.‏ وهكذا يقال في اجتماع الأدلة على المدلول الواحد‏:‏ أنها توجب علما مؤكدا، أو علوما متماثلة‏.‏ ومن هنا يحصل بها من الإيضاح والقوة ما لا يحصل بالواحد وهذا داخل في القاعدة الكلية وهو‏:‏ أن المؤثر الواحد - سواء كان فاعلا بإرادة واختيار أو بطبع، أو كان داعيا إلى الفعل وباعثا عليه - متى كان له شريك في فعله وتأثيره كان معاونا ومظاهرا له ومنعه أن يكون مستقلا بالحكم منفردا به ولزم من ذلك حاجة كل منهما إلى الآخر وعدم استغنائه بنفسه في فعله وأن الاشتراك موجب للافتقار مزيل للغنى، فإن المشتركين في الفعل متعاونان عليه وأحدهما لا يجوز - إذا لم يتغير بالاشتراك والانفراد - أن يفعل وحده ما فعله هو والآخر فإنه إذا فعل شيئا حال الانفراد - وقدر أنه لم يتغير، وأنه اجتمع بنظيره - امتنع أن يكون مفعولهما حال الاشتراك هو مثل مفعول كل منهما حال الانفراد، فإن المفعول إذا لم يكن له وجود إلا من الفاعل، والفاعل حال انفراده له مفعول، فإذا اجتمعا كان مفعولهما جميعا أكثر أو أكبر من مفعول أحدهما وإلا كان الزائد كالناقص بخلاف ما إذا تغير الفاعل كالإنسان الذي يرفع هو وآخر خشبة أو يصنع طعاما ثم هو وحده مثل ذلك، فإن ذلك لا بد أن يكون بتغيير منه في إرادته وحركته وآلاته ونحو ذلك وإلا فإذا استوى حالاه امتنع تساوي المفعولين حال الانفراد والاشتراك‏.‏
وفي الجملة فكل من المشتركين في مفعول فأحدهما مفتقر إلى الآخر في وجود ذلك المفعول، محتاج إليه فيه وإلا لم يكونا مشتركين، لأن كلا منهما إما أن يكون مستقلا بالفعل منفردا به، أو لا يكون فإن كان مستقلا به منفردا به امتنع أن يكون له فيه شريك أو معاون وإن لم يكن مستقلا منفردا به لم يكن المفعول به وحده بل به وبالآخر ولم يكن هو وحده كافيا في وجود ذلك المفعول بل كان محتاجا إلى الآخر في وجود ذلك المفعول مفتقرا إليه فيه‏.‏
وهذا يقتضي أنه ليس رب ذلك المفعول ولا مالكه ولا خالقه بل هو شريك فيه‏.‏
ويقتضي أنه لم يكن غنيا عن الشريك في ذلك المفعول بل كان مفتقرا إليه فيه محتاجا إليه فيه‏.‏
وذلك يقتضي عجزه وعدم قدرته عليه حال الانفراد أيضا كما نبهنا عليه من أن الإنسان لا ينفرد بما شاركه فيه غيره وإن لم يتغير تغيرا يوجب تمام قدرته على ما شاركه فيه الغير وذلك أن الفاعل إذا كان حال الانفراد قادرا تام القدرة، والتقدير أنه مريد للمفعول إرادة جازمة، إذ لو لم يرده إرادة جازمة لما وجد حال الانفراد ولا حال الاجتماع والاشتراك‏:‏ إذ الإرادة التي ليست بجازمة لا يوجد مرادها الذي يفعله المريد بحال والإرادة الجازمة بلا قدرة لا يوجد مرادها والإرادة الجازمة مع القدرة التامة تستلزم وجود المراد فلو كان أحد المشتركين تام القدرة تام الإرادة لوجب وجود المفعول به وحده ووجوده به وحده يمنع وجوده بالآخر فيلزم اجتماع النقيضين وهو‏:‏ وجود المفعول به وحده‏:‏ وعدم وجود المفعول به وحده وأن يكون فاعلا غير فاعل وذلك ظاهر البطلان‏.‏
وهذا التمانع ليس هو أن كل واحد من الفاعلين يمنع الآخر كما يقال إذا أراد أحدهما تحريك جسم والآخر تسكينه، أو إماتة شخص والآخر إحياءه وإنما هو تمانع ذاتي وهو‏:‏ أنه تمانع اشتراك شريكين تامي القدرة والإرادة في مفعول هما عليه تاما القدرة والإرادة فإن من كان على الشيء تام القدرة وهو له تام الإرادة وجب وجود المفعول به وحده وإذا كان الآخر كذلك وجب وجود المفعول به‏.‏ وهذان يتتابعان ويتمانعان إذ الإثبات يمنع النفي والنفي يمنع الإثبات تمانعا وتناقضا ذاتيا‏.‏ فتبين أن الاشتراك موجب لنقص الشريك في نفس القدرة وإذا قدر اثنان مريدان لأمر من الأمور فلا بد من أمرين‏:‏ إما أن يكون المفعول الذي يفعله هذا ليس هو المفعول الذي يفعله الآخر ولكن كل منهما مستقل ببعض المفعول‏.‏
وإما أن يكون المفعول الذي اشتركا فيه لا يقدر أحدهما على أن يفعله إذا انفرد إلا أن يتجدد له قدرة أكمل من القدرة التي كانت موجودة حال الاشتراك فإذا كان المفعول واحدا قد اختلط بعضه ببعض على وجه لا يمكن انفراد فاعل ببعضه وفاعل آخر ببعضه‏:‏ امتنع فيه اشتراك الامتياز كاشتراك بني آدم في مفعولاتهم التي يفعل هذا بعضها وهذا بعضها وامتنع فيه اشتراك الاختلاط إلا مع عجز أحدهما ونقص قدرته وأنه ليس على شيء قدير وهذا الذي ذكرناه بقولنا‏:‏ إن الاشتراك موجب لنقص القدرة‏.‏