المجتهد ودخوله تحت أحكام الوعيد
 
فإن قيل‏:‏ فهلا قلتم إن أحاديث الوعيد لا تتناول محل الخلاف، وإنما تتناول محل الوفاق وكل فعل لعن فاعله أو توعد بغضب أو عقاب حمل على فعل اتفق على تحريمه لئلا يدخل بعض المجتهدين في الوعيد إذا فعل ما اعتقد تحليله بل المعتقد أبلغ من الفاعل، إذ هو الآمر له بالفعل فيكون قد ألحق به وعيد اللعن أو الغضب بطريق الاستلزام‏؟‏ ‏؟‏ قلنا‏:‏ الجواب من وجوه‏:‏
‏[‏أحدها‏]‏‏:‏ أن جنس التحريم إما أن يكون ثابتا في محل خلاف أو لا يكون فإن لم يكن ثابتا في محل خلاف قط لزم أن لا يكون حراما إلا ما أجمع على تحريمه فكل ما اختلف في تحريمه يكون حلالا وهذا مخالف لإجماع الأمة وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام‏.‏
وإن كان ثابتا ولو في صورة فالمستحل لذلك الفعل المحرم من المجتهدين إما أن يلحقه ذم من حلل الحرام أو فعله وعقوبته أو لا‏؟‏ فإن قيل‏:‏ إنه يلحقه، أو قيل‏:‏ إنه لا يلحقه‏:‏ فكذلك التحريم الثابت في حديث الوعيد اتفاقا والوعيد الثابت في محل الخلاف على ما ذكرناه من التفصيل بل الوعيد إنما جاء على الفاعل وعقوبة محلل الحرام في الأصل أعظم من عقوبة فاعله من غير اعتقاد ‏,‏ فإذا جاز أن يكون التحريم ثابتا في صورة الخلاف ولا يلحق المحلل المجتهد عقوبة ذلك الإحلال للحرام، لكونه معذورا فيه، فلأن لا يلحق الفاعل وعيد ذلك الفعل أولى وأحرى‏.‏
وكما لم يلزم دخول المجتهد تحت حكم هذا التحريم من الذم والعقاب وغير ذلك‏:‏ لم يلزم دخوله تحت حكمه من الوعيد، إذ ليس الوعيد إلا نوعا من الذم والعقاب فإن جاز دخوله تحت هذا الجنس فما كان الجواب عن بعض أنواعه كان جوابا عن البعض الآخر ولا يغني الفرق بقلة الذم وكثرته، أو شدة العقوبة وخفتها، فإن المحذور في قليل الذم والعقاب في هذا المقام كالمحذور في كثيره فإن المجتهد لا يلحقه قليل ذلك ولا كثيره بل يلحقه ضد ذلك من الأجر والثواب‏.‏
‏[‏الثاني‏]‏‏:‏ أن كون حكم الفعل مجمعا عليه أو مختلفا فيه أمور خارجة عن الفعل وصفاته وإنما هي أمور إضافية بحسب ما عرض لبعض العلماء من عدم العلم‏.‏ واللفظ العام إن أريد به الخاص فلا بد من نصب دليل يدل على التخصيص إما مقترن بالخطاب عند من لا يجوز تأخير البيان وإما موسع في تأخيره إلى حين الحاجة عند الجمهور‏.‏
ولا شك أن المخاطبين بهذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا محتاجين إلى معرفة حكم الخطاب فلو كان المراد باللفظ العام في لعنة آكل الربا والمحلل ونحوهما المجمع على تحريمه - وذلك لا يعلم إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وتكلم الأمة في جميع أفراد ذلك العام - لكان قد أخر بيان كلامه إلى أن تكلم جميع الأمة في جميع أفراده وهذا لا يجوز‏.‏
‏[‏الثالث‏]‏‏:‏ أن هذا الكلام إنما خوطبت الأمة به لتعرف الحرام فتجتنبه ويستندون في إجماعهم إليه، ويحتجون في نزاعهم به فلو كانت الصورة المرادة هي ما أجمعوا عليه فقط لكان العلم بالمراد موقوفا على الإجماع فلا يصح الاحتجاج به قبل الإجماع فلا يكون مستندا للإجماع لأن مستند الإجماع يجب أن يكون متقدما عليه فيمتنع تأخره عنه فإنه يفضي إلى الدور الباطل فإن أهل الإجماع حينئذ لا يمكنهم الاستدلال بالحديث على صورة حتى يعلموا أنها مرادة ولا يعلمون أنها مرادة حتى يجتمعوا فصار الاستدلال موقوفا على الإجماع قبله والإجماع موقوفا على الاستدلال قبله إذا كان الحديث هو مستندهم فيكون الشيء موقوفا على نفسه فيمتنع وجوده ولا يكون حجة في محل الخلاف لأنه لم يرد وهذا تعطيل للحديث عن الدلالة على الحكم في محل الوفاق والخلاف وذلك مستلزم أن لا يكون شيء من النصوص التي فيها تغليظ للفعل أفادنا تحريم ذلك الفعل وهذا باطل قطعا‏.