مذهب أهل المدينة في الأشربة والأطعمة
 
ومعلوم أن مذهب أهل المدينة في الأشربة أشد من مذهب الكوفيين؛ فإن أهل المدينة وسائر الأمصار وفقهاء الحديث؛ يحرمون كل مسكر، وأن كل مسكر خمر وحرام، وأن ما أسكر كثيره فقليله حرام، ولم يتنازع في ذلك أهل المدينة لا أولهم ولا آخرهم، سواء كان من الثمار أو الحبوب؛ أو العسل أو لبن الخيل أو غير ذلك‏.‏
والكوفيون لا خمر عندهم إلا ما اشتد من عصير العنب، فإن طبخ قبل الاشتداد حتى ذهب ثلثاه حل، ونبيذ التمر والزبيب محرم؛ إذا كان مسكرًا نيئًا فإن طبخ أدنى طبخ حل، وإن أسكر‏.‏
وسائر الأنبذة تحل، وإن أسكرت، لكن يحرمون المسكر منها‏.‏
وأما الأطعمة‏:‏ فأهل الكوفة أشد فيها من أهل المدينة؛ فإنهم مع تحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير؛ وتحريم اللحم حتى يحرمون الضب والضبع والخيل، تحرم عندهم في أحد القولين، ومالك يحرم تحريمًا جازمًا ما جاء في القرآن فذوات الأنياب إما أن يحرمها تحريمًا دون ذلك، وإما أن يكرهها في المشهور، وروي عنه كراهة ذوات المخالب، والطير لا يحرم منها شيئًا، ولا يكرهه، وإن كان التحريم على مراتب، والخيل يكرهها، ورويت الإباحة والتحريم أيضًا‏.‏
ومن تدبر الأحاديث الصحيحة في هذا الباب علم أن أهل المدينة أتبع للسنة، فإن باب الأشربة قد ثبت فيه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من الأحاديث ما يعلم من علمها أنها من أبلغ المتواترات، بل قد صح عنه في النهي عن الخليطين والأوعية ما لا يخفى على عالم بالسنة، وأما الأطعمة، فإنه وإن قيل‏:‏ إن مالكا خالف أحاديث صحيحة في التحريم ففي ذلك خلاف‏.‏
والأحاديث الصحيحة التي خالفها؛ من حرم الضب وغيره تقاوم ذلك أو تربو عليه ثم إن هذه الأحاديث قليلة جدًا بالنسبة إلى أحاديث الأشربة‏.‏ وأيضًا فمالك معه في ذلك آثار عن السلف كابن عباس؛ وعائشة؛ وعبد الله بن عمر وغيرهم، مع ما تأوله من ظاهر القرآن‏.‏ ومبيح الأشربة ليس معه، لا نص، ولا قياس، بل قوله مخالف للنص والقياس‏.‏
وأيضًا فتحريم جنس الخمر، أشد من تحريم اللحوم الخبيثة، فإنها يجب اجتنابها مطلقا، ويجب على من شربها الحد، ولا يجوز اقتناؤها‏.‏
وأيضًا فمالك جوز إتلاف عينها، اتباعًا لما جاء من السنة في ذلك، ومنع من تخليلها وهذا كله فيه من اتباع السنة ما ليس في قول من خالفه من أهل الكوفة، فلما كان تحريم الشارع للأشربة المسكرة أشد من تحريمه للأطعمة؛ كان القول الذي يتضمن موافقة الشارع أصح‏.‏
ومما يوضح هذا؛ أن طائفة من أهل المدينة استحلت الغناء، حتى صار يحكى ذلك عن أهل المدينة، وقد قال عيسى بن إسحاق الطباع‏:‏ سئل مالك عما يترخص فيه بعض أهل المدينة من الغناء ‏؟‏ فقال‏:‏ إنما يفعله عندنا الفساق‏.‏ ومعلوم أن هذا أخف مما استحله من استحل الأشربة، فإنه ليس في تحريم الغناء من النصوص المستفيضة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ما في تحريم الأشربة المسكرة، فعلم أن أهل المدينة أتبع للسنة‏.‏
ثم إن من أعظم المسائل مسألة اختلاط الحلال بالحرام لعينه، كاختلاط النجاسات بالماء وسائر المائعات، فأهل الكوفة يحرمون كل ماء أو مائع وقعت فيه نجاسة، قليلًا كان أو كثيرًا ثم يقدرون مالا تصل إليه النجاسة بما لا تصل إليه الحركة، ويقدرونه بعشرة أذرع في عشرة أذرع، ثم منهم من يقول‏:‏ أن البئر إذا وقعت فيها النجاسة لم تطهر بل تطم‏.‏ والفقهاء منهم من يقول‏:‏ تنزح إما دلاء مقدرة منها، وإما جميعها على ما قد عرف لأجل قولهم‏:‏ ينجس الماء والمائع بوقوع النجاسة فيه، وأهل المدينة بعكس ذلك فلا ينجس الماء عندهم إلا إذا تغير‏.‏ لكن لهم في قليل الماء، هل يتنجس بقليل النجاسة ‏؟‏ قولان‏:‏ ومذهب أحمد قريب من ذلك، وكذلك الشافعي، لكن هذان يقدران القليل بما دون القلتين، دون مالك، وعن مالك في الأطعمة خلاف‏.‏
وكذلك في مذهب أحمد نزاع في سائر المائعات، ومعلوم أن هذا أشبه بالكتاب والسنة فإن اسم الماء باق، والاسم الذي به أبيح قبل الوقوع باق، وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بئر بضاعة وغيره على أنه لا يتنجس، ولم يعارض ذلك إلا حديث ليس بصريح في محل النزاع فيه، وهو حديث النهي عن البول في الماء الدائم، فإنه قد يخص
البول، وخص بعضهم أن يبال فيه دون أن يجري إليه البول، وقد يخص ذلك بالماء
القليل، وقد يقال النهي عن البول لا مستلزم التنجيس، بل قد ينهى عنه لأن ذلك يفضي الى التنجيس، إذا كثر يقرر ذلك أنه لاتنازع بين المسلمين إن النهي عن البول في الماء الدائم، لا يعم جميع المياه، بل ماء البحر مستثنى بالنص والاجماع، وكذلك المصانع الكبار التي لا يمكن نزحها، ولا يتحرك أحد طرفيها بتحرك الطرف الآخر، لا ينجسه البول بالاتفاق، والحديث الصحيح لا يعارضه حديث في هذا الإجمال والاحتمال، وكذلك تنجس الماء المستعمل، ونحوه مذهب أهل المدينة ومن وافقهم في طهارته ثابت بالأحاديث الصحيحة عن النبى صلى الله عليه وسلم، كحديث صب وضوئه على جابر، وقوله المؤمن لا ينجس، وأمثال ذلك، وكذلك بول الصبي الذي لم يطعم مذهب بعض أهل المدينة، ومن وافقهم لهم فيه أحاديث صحيحة، عن النبى صلى الله عليه وسلم لا يعارضها شيء، وكذلك مذهب مالك، وأهل المدينة في أعيان النجاسات الظاهرة، في العبادات أشبه شيء بالأحاديث الصحيحة، وسيرة الصحابة، ثم إنهم لا يقولون بنجاسة البول والروث، مما يؤكل لحمه وعلى ذلك بضع عشرة حجة من النص والإجماع القديم، والاعتبار، ذكرناها في غير هذا الموضع، وليس مع المنجس إلا لفظ يظن عمومه، وليس بعام أو قياس يظن مساواة الفرع فيه للأصل، وليس كذلك، ولما كانت النجاسات من الخبائث المحرمة لأعيانها، ومذهبهم في ذلك أخذ من مذهب الكوفيين، كما في الأطعمة، كان ما ينجسونه أولئك أعظم، وإذا قيل له خالف حديث الولوغ ونحوه، في النجاسات فهو كما يقال أنه خالف حديث سباع الطير ونحوه ولا ريب أن هذا أقل مخالفة للنصوص ممن ينجس روث ما يؤكل لحمه وبوله، أو بعض ذلك، أو يكره سؤر الهرة، وقد ذهب بعض الناس إلى أن جميع
الأرواث والأبوال طاهرة، إلا بول الإنسي وعذرته، وليس هذا القول بأبعد في الحجة من قول من ينجس الذي يذهب إليه أهل المدينة، من أهل الكوفة، ومن وافقهم، ومن تدبر مذهب أهل المدينة وكان عالمًا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تبين له قطعًا أن مذهب أهل المدينة المنتضم للتيسير في هذا الباب أشبه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المذهب المنتظم للتعسير، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما بال الأعرابي في المسجد وأمرهم بالصب على بوله قال‏:‏ إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين، وهذا مذهب أهل المدينة، وأهل الحديث، ومن خالفهم يقول أنه يغسل ولا يجزى الصب وروي في ذلك حديثًا مرسلًا لا يصح‏.‏