فصل في حجة أخرى لنفاة المجاز
 
فصل
وقد ذكر نفاة المجاز حجة ضعيفة، وهي قولهم‏:‏ وأيضا ما من صورة من الصور إلا ويمكن أن يعبر عنها باللفظ الحقيقي الخاص بها، فاستعمال اللفظ المجازي فيها مع افتقاره إلى القرينة من غير حاجة بعيد عن أهل الحكمة والبلاغة في وضعهم‏.‏
وقد أجاب عن هذا بقوله‏:‏ وجواب الثاني‏:‏ أن الفائده في استعمال اللفظ المجازي دون الحقيقة قد يكون لاختصاصه بالخفة عن اللسان؛ أو لمساغته في وزن الكلام لفظا ونثرا، والمطابقة، والمجانسة، والسجع وقصد التعظيم، والعدول عن الحقيقي للتحقيق، إلى غير ذلك من المقاصد المطلوبة من الكلام‏.‏
فيقال‏:‏ هذه الحجة ضعيفة، والمجتمع بها يلزمه أن يسلم لها انقسام الكلام إلى حقيقة ومجاز، لكنه يوجب استعمال الحقيقة دون المجاز وهذا يناقض قوله‏:‏ ليس في اللغه مجاز؛ بل المواضع التي سموها مجازا إذا ثبت استعمالها في اللغة فهي كلها حقيقة على هذا القول، والتعبير لبعض الحقائق يكون أحسن وأبلغ من بعض، ومراتب البيان والبلاغة متفاوتة، وكل ذلك مما يدل عليه اللفظ بطريقة الحقيقة، واللفظ لا يدل إلا مع قرينة، ومن ظن أن الحقيقة في مثل قوله‏:‏‏{‏وَاسْأَلِ الْقَرْيَة‏}‏‏[‏يوسف‏:‏82‏]‏ هو سؤال الجدران؛ فهو جاهل‏.‏ وهذا البحث يشبه بحث هؤلاء، كلهم ينكرون استعمال اللفظ في حال في معنى وفي حال أخرى كما يستعمل لفظ القرية تارة في السكان وتارة في المساكن ويدعون أنه لا يعنى به إلا المساكن؛ وهذا غلط وافقوا فيه أولئك، لكن أولئك يقولون‏:‏ هنا محذوف تقديره‏:‏ واسأل أهل القرية‏.‏ وأولئك يقولون‏:‏ بل المراد واسأل الجدران‏.‏
والصواب أن المراد بالقرية نفس الناس المشتركين الساكنين في ذلك المكان، فلفظ القرية هنا أريد به هؤلاء، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ‏}‏‏[‏محمد‏:‏13‏]‏ وكذلك قوله تعالى‏:‏‏{‏وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَة‏}‏‏[‏هود‏:‏102‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا‏}‏‏[‏الطلاق‏:‏8‏]‏ ونظائره متعددة‏.‏