فصل في المجاز في القرآن الكريم
 
فصل
وتمام هذا بالكلام على ما ذكره من المجاز في القرآن، فإنه قال‏:‏ يعتذر عن قوله‏:‏ ‏{‏تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏25‏]‏ والأنهار غير جارية‏.‏
فيقال‏:‏ النهر كالقرية والميزاب ونحو ذلك، يراد به الحال ويراد به المحل، فإذا قيل‏:‏ حفر النهر؛أريد به المحل، وإذا قيل‏:‏ جرى النهر؛ أريد به الحال‏.‏
وعن قوله‏:‏ ‏{‏وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا‏}‏‏[‏مريم‏:‏4‏]‏ وهو غير مشتعل كاشتعال النار، فهذا مسلم؛ لكن يقال‏:‏ لفظ الاشتعال لم يستعمل في هذا المعنى، إنما استعمل في البياض الذي سرى من السواد سريان الشعلة من النار، وهذا تشبيه واستعارة، لكن قوله‏:‏ ‏{‏وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا‏}‏‏[‏مريم‏:‏4‏]‏ استعمل فيه لفظ الاشتعال مقيدا بالرأس لم يحتمل اللفظ ‏[‏في‏]‏ اشتعال الحطب وهذا اللفظ - وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا‏}‏‏[‏مريم‏:‏4‏]‏ - لم يستعمل قط في غير موضعه، بل لم يستعمل إلا في هذا المعنى، وإن كان هذا الوضع يغير بعد وضع اشتعلت النار فلا يضر، وإن قصد به تشبيه ذلك المعنى بهذا المعنى فلا يضر، بل هذا شأن الأسماء العامة لا بد أن يكون بين المعنيين قدر مشترك تشتبه فيه تلك الافراد‏.‏
وأما تسميته استعارة فمعلوم أنهم لم يستعيروا ذلك اللفظ بعينه، بل ركبوا لفظ ‏[‏اشتعل‏]‏ مع ‏[‏الرأس‏]‏ تركيبا لم يتكلموا به، ولا أرادوا به غير هذا المعنى قط‏.‏ ولهذا لا يجوز أن يقال في مثل هذا‏:‏ لم يشتعل الرأس شيبًا، بل يقال‏:‏ ليس اشتعال الرأس مثل اشتعال الحطب وإن أشبهه من بعض الوجوه‏.‏
قال‏:‏ وعن قوله‏:‏ ‏{‏وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ‏}‏‏[‏الإسراء‏:‏24‏]‏ والذل لا جناح له ‏؟‏
فيقال له‏:‏ لا ريب أن الذل ليس له جناح مثل جناح الطائر، كما أنه ليس للطائر جناح مثل أجنحة الملائكة، ولا جناح الذل مثل جناح السفر، لكن جناح الإنسان جانبه، كما أن جناح الطير جانبه، والولد مأمور بأن يخفض جانبه لأبويه؛ ويكون ذلك على وجه الذل لهما لا على وجه الخفض الذي لا ذل معه، وقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏[‏الشعراء‏:‏215‏]‏ ولم يقل‏:‏ جناح الذل، فالرسول أمر بخفض جناحه وهو جانبه، والولد أمر بخفض جناحه ذلا، فلا بد مع خفض جناحه أن يذل لأبويه، بخلاف الرسول فإنه لم يؤمر بالذل، فاقتران ألفاظ القرآن تدل على اقتران معانيه وإعطاء كل معنى حقه‏.‏
ثم أنه سبحانه كمل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏مِنَ الرَّحْمَةِ‏}‏‏[‏الإسراء‏:‏24‏]‏ فهو جناح ذل من الرحمة لا جناح ذل من العجز والضعف‏:‏ إذ الأول محمود والثاني مذموم‏.‏
قال‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏197‏]‏ وإلاشهر ليست هي الحج ‏؟‏
فيقال‏:‏ معلوم أن أوقات الحج أشهر معلومات، ليس المراد أن نفس الأفعال هي الزمان، ولا يفهم هذا أحد من اللفظ، ولكن قد يقال‏:‏ في الكلام محذوف تقديره‏:‏ وقت الحج أشهر معلومات، ومن عادة العرب الحسنة في خطابها أنهم يحذفون من الكلام ما يكون المذكور دليلا عليه اختصارا، كما أنهم يوردون الكلام بزيادة تكون مبالغة في تحقيق المعنى‏.‏ فالأول كقوله‏:‏ ‏{‏اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ‏}‏‏[‏الشعراء‏:‏63‏]‏ فمعلوم أن المراد فضرب فانفلق، لكن لم يحتج إلى ذكر ذلك في اللفظ إذ كان قوله‏:‏ قلنا‏:‏ اضرب؛فانفلق‏:‏ دليلا على أنه ضرب فانفلق‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏مَنْ آمَنَ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏62‏]‏ تقديره بر من آمن أو صاحب من آمن‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏الْحَجُّ أَشْهُرٌ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏197‏]‏ أي‏:‏ أوقات الحج أشهر، فالمعنى متفق عليه، لكن الكلام في تسمية هذا مجازا، وقول القائل‏:‏ نفس الحج ليس بأشهر؛ إنما يتوجه لو كان هذا مدلول الكلام؛ وليس كذلك، بل مدلوله عند من تكلم به أو سمعه‏:‏ أن أوقات الحج أشهر معلومات‏.‏
قال‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ‏}‏‏[‏الحج‏:‏40‏]‏؛والصلوات لا تنهدم ‏؟‏
فيقال‏:‏ قد قيل‏:‏ إن الصلوات اسم لمعابد إليهود، يسمونها صلوات باسم ما يفعل فيها، كنظائره؛ وهو إنما استعمل لفظ الصلوات في المكان مقرونا بقوله‏:‏ ‏{‏لَّهُدِّمَتْ‏}‏ والهدم إنما يكون للمكان فاستعمله مع هذا اللفظ في المكان‏.‏
قال‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ‏}‏‏[‏النساء‏:‏43‏]‏‏؟‏
فنقول‏:‏ لفظ الغائط في القرآن يستعمل في معناه اللغوي وهو‏:‏ المكان المطمئن من الأرض؛ وكانوا ينتابون الأماكن المنخفضة لذلك وهو الغائط، كما يسمى خلاء لقصد قاضي الحاجة الموضع الخالي، ويسمى مرحاضا لأجل الرحض بالماء ونحو ذلك، والمجيء من الغائط اسم لقضاء الحاجة؛ لأن الإنسان في العادة إنما يجيء من الغائط إذا قضى حاجته، فصار اللفظ حقيقة عرفية يفهم منها عند الإطلاق التغوط فقد يسمون ما يخرج من الإنسان غائطا تسمية للحال باسم محله كما في قوله‏:‏ جرى الميزاب‏.‏ ومنه قول عائشة‏:‏ مرن أزواجكم يغسلن عنهن أثر الغائط‏.‏ وليس في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ‏}‏‏[‏النساء‏:‏43‏]‏ استعمال اللفظ في غير معناه؛ بل المجيء من الغائط يتضمن التغوط، فكنى عن ذلك المعنى باللفظ الدال على العمل الظاهر المستلزم الأمر المستور، وكلاهما مراد‏.‏
وهذا كثير في الكلام، يذكر الملزوم ليفهم منه لازمه المدلول، وكلاهما دل عليه اللفظ، لكن أحدهما وسيلة إلى الآخر، كقول إحدى النسوة في حديث أم زرع‏:‏ ‏(‏زوجي عظيم الرماد طويل النجاد قريب البيت من الناد‏)‏‏.‏ فإن عظم الرماد يستلزم كثرة الطبخ المستلزم في عادتهم لكثرة الضيف؛ المستلزم للكرم‏.‏ وطول النجاد يستلزم طول القامة، وقرب البيت من الناد يستلزم قصده بحجة الناد إلى بيته، والناد اسم للحال والمحل أيضا‏.‏ ومنه قوله‏:‏ ‏{‏فَلْيَدْعُ نَادِيَه‏}‏‏[‏العلق‏:‏17‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ‏}‏‏[‏العنكبوت‏:‏29‏]‏ فهنا هو المحل، وفي تلك هو الحال، وهم القوم الذين ينتدون، ومنه ‏[‏دار الندوة‏]‏‏.‏
وأصله من مناداة بعضهم لبعض، بخلاف النجاء فإنهم الذين يتناجون، قال الشعبي‏:‏ إذا كثرت الحلقة فهي إما نداء وإما نجاء قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا‏}‏‏[‏مريم‏:‏52‏]‏ فناداه وناجاه‏.‏ وقال‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏‏[‏النور‏:‏35‏]‏‏؟‏
فيقال‏:‏ قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه‏:‏ ‏(‏اللهم لك الحمد، أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن‏)‏ فليس مفهوم اللفظ أنه شعاع الشمس والنار؛ فإن هذا ليس هو نور السموات والأرض، كما ظن بعض الغالطين أن هذا مدلول اللفظ، والنور يراد به المستنير المنير لغيره بهديه، فيدخل في هذا أنت الهادي لأهل السموات والأرض، وقد قال ابن مسعود‏:‏ إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور السموات من نور وجهه، وإذا كان كونه رب السموات والأرض وقيمها لا يناقض أن يكون قد جعل بعض عباده يرب بعضا من بعض الوجوه ويفهمه؛ فكذلك كونه ‏{‏اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏‏[‏النور‏:‏35‏]‏ منيرها لا يناقض أن يجعل بعض مخلوقاته منيرا لبعض‏.‏
واسم النور إذا تضمن صفته وفعله كان ذلك داخلا في مسمى النور؛ فإنه لما جعل القمر نورا كان متصفًا بالنور وكان منيرا على غيره، وهو مخلوق من مخلوقاته، والخالق أولى بصفة الكمال الذي لا نقص فيه من كل ما سواه‏.‏
قال‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏194‏]‏ قال‏:‏ والقصاص ليس بعدوان‏؟‏
فيقال‏:‏ العدوان مجاوزة الحد، لكن إن كان بطريق الظلم كان محرما، وإن كان بطريق القصاص كان عدلا مباحا، فلفظ العدوان في مثل هذا هو تعدي الحد الفاصل، لكن لما اعتدى صاحبه جاز الاعتداء عليه، والاعتداء الأول ظلم والثاني مباح، ولفظ عدل مباح، ولفظ الاعتداء هنا مقيد بما يبين أنه اعتداء على وجه القصاص بخلاف العدوان ابتداء فإنه ظلم، فإذا لم يقيد بالجزاء فهم منه الابتداء‏:‏ إذ الأصل عدم ما يقابله‏.‏ قال‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا‏}‏‏[‏الشورى‏:‏40‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏15‏]‏ ‏{‏وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ‏}‏‏[‏الأنفال‏:‏30‏]‏ ‏؟‏ فيقال‏:‏ السيئة اسم لما سبق صاحبها، فإن فعلت به على وجه العدل والقصاص كان مستحقا لما فعل معه من السيئة، وليس المراد أنها تسبق الفاعل حتى ينهي عنها، بل تسبق المجازى بها، ولفظ السيئة والحسنة يراد به الطاعة والمعصية؛ ويراد به النعمة والمصيبة، كقوله‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏‏[‏النساء‏:‏79‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا‏}‏‏[‏آل عمران‏:‏120‏]‏‏؟‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَجَزَاء سَيِّئَةٍ‏}‏‏[‏الشورى‏:‏40‏]‏، لم يرد به كل من عمل ذنبا، وإنما المراد جزاء من أساء إلى غيره بظلم فهي من سيئات المصاب فجزاؤها أن يصاب المسيء بسيئة مثلها، كأنه قيل‏:‏ جزاء من أساء إليك أن تسيء إليه مثل ما أساء إليك، وهذه سيئة حقيقة‏.‏
أما الاستهزاء والمكر بأن يظهر الإنسان الخير والمراد شر، فهذا إذا كان على وجه جحد الحق وظلم الخلق فهو ذنب محرم، وأما إذا كان جزاء على من فعل ذلك بمثل فعله كان عدلا حسنا، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏14‏]‏؛ فإن الجزاء من جنس العمل‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا‏}‏‏[‏النمل‏:‏50‏]‏ كما قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا‏}‏‏[‏الطارق‏:‏15، 16‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ‏}‏‏[‏يوسف‏:‏76‏]‏
وكذلك جزاء المعتدي بمثل فعله؛ فإن الجزاء من جنس العمل، وهذا من العدل الحسن، وهو مكر وكيد إذا كان يظهر له خلاف ما يبطن‏.‏
قال‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ‏}‏‏[‏المائدة‏:‏64‏]‏، فهذا اللفظ أصله أن المحاربين يوقدون نارا يجتمع إليها أعوانهم وينصرون وليهم ‏[‏على‏]‏ عدوهم، فلا تتم محاربتهم إلا بها، فإذا طفئت لم يجتمع أمرهم، ثم صار هذا كما تستعمل الأمثال في كل محارب بطل كيده، كما يقال‏:‏ يداك أوكتا وفوك نفخ، ومعناه أنت الجاني على نفسك‏.‏ وكما يقال‏:‏ الصيف ضيعت اللبن، معناه‏:‏ فرطت وقت الإمكان‏.‏
وهذه الألفاظ كان لها معنى خاص نقلت بعرف الاستعمال إلى معنى أعم من ذلك‏.‏ وصار يفهم منها ذلك عند الإطلاق لغلبة الاستعمال، ولا يفهم منها خصوص معناها الأول كسائر الألفاظ التي نقلها أهل العرف إلى أعم من معناها، مثل لفظ الرقبة والرأس في قوله‏:‏ ‏{‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏‏[‏النساء‏:‏92‏]‏، وقد يقال‏:‏ إن هذا من باب دلالة اللزوم، فإن تحرير العنق يستلزم تحرير سائر البدن؛ ولهذا تنازع الفقهاء إذا قال‏:‏ يدك حر إن دخلت الدار؛ فقطعت يده ثم دخل الدار‏:‏ هل يعتق ‏؟‏ على وجهين، بناء على أنه من باب السراية أو من باب العبادة‏.‏
والصحيح أنه من باب العبادة، ومعناه‏:‏ أنت حر أن فعلت كذا، والحقيقة الحرفية والشرعية معلومة في اللغة‏.‏
قال‏:‏ إلى ما لا يحصى ذكره من المجازات ‏؟‏
وقالوا‏:‏ ما يذكر من هذا الباب إما أن يكون النزاع في معناه أو المعنى متفق عليه، والنزاع في تسميته مجازا، وعلى التقديرين فلا حجة لك فيه؛ كقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء‏}‏‏[‏هود‏:‏44‏]‏ قيل‏:‏ أراد بالسماء المطر، أي‏:‏ يا مطر انقطع، وليس كذلك، بل الاقلاع الامساك، أي‏:‏ يا سماء امسكي عن إلامطار‏.‏
وكثيرا ما يأتي المدعي إلى ألفاظ لها معان معروفة فيدعي استعمالها في غير تلك المعاني بلا حجة، ويقول‏:‏ هذا مجاز، فهذا لا يقبل، ومن قسم الكلام إلى حقيقة ومجاز متفقون على أن الأصل في الكلام هو الحقيقة، وهذا يراد به شيئان‏:‏ يراد به أنه إذا عرف معنى اللفظ وقيل‏:‏ هذا الاستعمال مجاز قيل‏:‏ بل الأصل الحقيقة‏.‏ وإذا عرف أن للفظ مدلولان حقيقي ومجازي فالأصل أن يحمل على معناه الحقيقي؛ فيستدل تارة بالمعنى المعروف على دلالة اللفظ عليه، وتارة باللفظ المعروف دلالته على المعنى المدلول عليه‏.‏
فإذا قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ‏}‏‏[‏النحل‏:‏112‏]‏ أن أصل الذوق بالفم‏.‏ قيل‏:‏ ذلك ذوق الطعام؛ فالذوق يكون للطعام ويكون لجنس العذاب كما قال‏:‏ ‏{‏وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏‏[‏السجدة‏:‏21‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ‏}‏‏[‏الدخان‏:‏49‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ‏}‏‏[‏القمر‏:‏48‏]‏ فقوله‏:‏ ‏{‏ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ‏}‏‏[‏القمر‏:‏48‏]‏ صريح في ذوق مس العذاب لا يحتمل ذوق الطعام‏.‏
ثم الجوع والخوف إذا لبس البدن كان أعظم في إلالم؛ بخلاف القليل منه، فإذا قال‏:‏ ‏{‏فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ‏}‏‏[‏النحل‏:‏112‏]‏ فإنه لم يكن يدل على لبسه لصاحبه وإحاطته به، فهذه المعاني تدل عليها هذه الألفاظ دون ما إذا قيل جاعت وخافت؛ فإنه يدل على جنس لا على عظم كيفيته وكميته، فهذا من كمال البيان، والجميع إنما استعمل فيه اللفظ في معناه المعروف في اللغة؛ فإن قوله ذوق لباس الجوع والخوف ليس هو ذوق الطعام، وذوق الجوع ليس هو ذوق لباس الجوع‏.‏
ولهذا كان تحرير هذا الباب هو من علم البيان الذي يعرف به الإنسان بعض قدر القرآن وليس في القرآن لفظ إلا مقرون بما يبين به المراد‏.‏ ومن غلط في فهم القرآن فمن قصوره أو تقصيره؛ فإذا قال القائل‏:‏ ‏{‏يَشْرَبُ بِهَا‏}‏‏[‏الإنسان‏:‏6‏]‏‏:‏ أن الباء زائدة كان من قبله علمه؛ فإن الشارب قد يشرب ولا يروى فإذا قيل‏:‏ يشرب منها‏:‏ لم يدل على الري‏.‏ وإذا ضمن معنى الري فقيل‏:‏ ‏{‏يَشْرَبُ بِهَا‏}‏‏[‏الإنسان‏:‏6‏]‏‏:‏ كان دليلا على الشرب الذي يحصل به الري، وهذا شرب خاص دل عليه لفظ الباء‏.‏
كما دل لفظ الباء في قوله‏:‏ ‏{‏فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم‏}‏‏[‏المائدة‏:‏6‏]‏ على إلصاق الممسوح به بالعضو؛ ليس المراد مسح الوجه‏.‏ فمن قال‏:‏ الباء زائدة جعل المعنى امسحوا وجوهكم، وليس في مجرد مسح الوجه إلصاق الممسوح من الماء والصعيد، ومن قرأ‏:‏ ‏{‏وَأَرْجُلَكُمْ‏}‏ فإنه عائد على الوجه والأيدي؛ بدليل أنه قال‏:‏ ‏{‏إِلَى الْكَعْبَينِ‏}‏، ولو كان عطفا على المحل لفسد المعنى، وكان يكون‏{‏فَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ‏}‏‏[‏المائدة‏:‏6‏]‏‏.‏ وأيضا فكلهم قرأوا قوله في التيمم‏:‏ ‏{‏فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ‏}‏‏[‏المائدة‏:‏6‏]‏ ولفظ الآيتين من جنس واحد، فلو كان المعطوف على المجرور معطوفا على المحل لقرأوا أيديكم بالنصب، فلما لم يقرءوها كذلك علم أن قوله‏:‏ ‏{‏وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ‏}‏‏[‏المائدة‏:‏6‏]‏ عطف على الوجوه والأيدي‏.‏