سئل عن القياس
 
وسئل
شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله عما يقع في كلام كثير من الفقهاء من قولهم‏:‏ هذا خلاف القياس لما ثبت بالنص أو قول الصحابة أو بعضهم وربما كان حكما مجمعا عليه فمن ذلك قولهم‏:‏ تطهير الماء إذا وقع فيه نجاسة خلاف القياس بل وتطهير النجاسة على خلاف القياس والتوضؤ من لحوم الإبل على خلاف القياس والفطر بالحجامة على خلاف القياس والسلم على خلاف القياس والإجارة والحوالة والكتابة والمضاربة والمزارعة والمساقاة والقرض وصحة صوم المفطر ناسيًا والمضي في الحج الفاسد كل ذلك على خلاف القياس وغير ذلك من الأحكام‏:‏ فهل هذا القول صواب أم لا‏؟‏ وهل يعارض القياس الصحيح النص أم لا‏؟‏
فأجاب‏:‏ الحمد لله رب العالمين‏.‏ أصل هذا أن تعلم أن لفظ القياس لفظ مجمل يدخل فيه القياس الصحيح والقياس الفاسد‏.‏ فالقياس الصحيح هو الذي وردت به الشريعة وهو الجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين الأول قياس الطرد والثاني قياس العكس وهو من العدل الذي بعث الله به رسوله‏.‏
فالقياس الصحيح مثل أن يكون العلة التي علق بها الحكم في الأصل موجودة في الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمها ومثل هذا القياس لا تأتي الشريعة بخلافه قط‏.‏
وكذلك القياس بإلغاء الفارق وهو‏:‏ أن لا يكون بين الصورتين فرق مؤثر في الشرع فمثل هذا القياس لا تأتي الشريعة بخلافه‏.‏
وحيث جاءت الشريعة باختصاص بعض الأنواع بحكم يفارق به نظائره فلا بد أن يختص ذلك النوع بوصف يوجب اختصاصه بالحكم ويمنع مساواته لغيره لكن الوصف الذي اختص به قد يظهر لبعض الناس وقد لا يظهر وليس من شرط القياس الصحيح المعتدل أن يعلم صحته كل أحد فمن رأى شيئًا من الشريعة مخالفًا للقياس فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه ليس مخالفا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر‏.‏
وحيث علمنا أن النص جاء بخلاف قياس‏:‏ علمنا قطعا أنه قياس فاسد بمعنى أن صورة النص امتازت عن تلك الصور التي يظن أنها مثلها بوصف أوجب تخصيص الشارع لها بذلك الحكم فليس في الشريعة ما يخالف قياسًا صحيحًا لكن فيها ما يخالف القياس الفاسد وإن كان من الناس من لا يعلم فساده‏.‏
ونحن نبين أمثلة ذلك مما ذكر في السؤال فالذين قالوا‏:‏ المضاربة والمساقاة والمزارعة على خلاف القياس‏:‏ ظنوا أن هذه العقود من جنس الإجارة لأنها عمل بعوض والإجارة يشترط فيها العلم بالعوض والمعوض فلما رأوا العمل في هذه العقود غير معلوم والربح فيها غير معلوم قالوا‏:‏ تخالف القياس وهذا من غلطهم ‏;‏ فإن هذه العقود من جنس المشاركات لا من جنس المعاوضات الخاصة التي يشترط فيها العلم بالعوضين والمشاركات جنس غير جنس المعاوضة وإن قيل إن فيها شوب المعاوضة‏.‏ وكذلك المقاسمة جنس غير جنس المعاوضة الخاصة وإن كان فيها شوب معاوضة حتى ظن بعض الفقهاء أنها بيع يشترط فيها شروط البيع الخاص‏.‏ و أيضًاح هذا‏:‏ أن العمل الذي يقصد به المال ثلاثة أنواع‏:‏
أحدها‏:‏ أن يكون العمل مقصودا معلوما ‏;‏ مقدورا على تسليمه‏.‏ فهذه الإجارة اللازمة‏.‏ والثاني‏:‏ أن يكون العمل مقصودا لكنه مجهول أو غرر فهذه الجعالة وهي‏:‏ عقد جائز ليس بلازم فإذا قال‏:‏ من رد عبدي الآبق فله مائة فقد يقدر على رده وقد لا يقدر وقد يرده من مكان قريب وقد يرده من مكان بعيد ‏;‏ فلهذا لم تكن لازمة لكن هي جائزة فإن عمل هذا العمل استحق الجعل وإلا فلا ويجوز أن يكون الجعل فيها إذا حصل بالعمل جزءا شائعًا ‏;‏ ومجهولا جهالة لا تمنع التسليم مثل أن يقول أمير الغزو‏:‏ من دل على حصن فله ثلث ما فيه ‏"‏ ويقول للسرية التي يسريها‏:‏ لك خمس ما تغنمين أو ربعه‏.‏
وقد تنازع العلماء في سلب القاتل‏:‏ هل هو مستحق بالشرع‏؟‏ كقول الشافعي أو بالشرط كقول أبي حنيفة ومالك‏؟‏على قولين هما روايتان عن أحمد فمن جعله مستحقا بالشرط جعله من هذا الباب‏.‏
ومن هذا الباب إذا جعل للطبيب جعلاً على شفاء المريض جاز كما أخذ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين جعل لهم قطيع على شفاء سيد الحي فرقاه بعضهم حتى برئ فأخذوا القطيع ‏;‏ فإن الجعل كان على الشفاء لا على القراءة‏.‏
ولو استأجر طبيبًا إجارة لازمة على الشفاء لم يجز ‏;‏ لأن الشفاء غير مقدور له فقد يشفيه الله وقد لا يشفيه فهذا ونحوه مما تجوز فيه الجعالة دون الإجارة اللازمة‏.‏
وأما النوع الثالث‏:‏ فهو ما لا يقصد فيه العمل ‏;‏ بل المقصود المال وهو المضاربة فإن رب المال ليس له قصد في نفس عمل العامل كما للجاعل والمستأجر قصد في عمل العامل ‏;‏ ولهذا لو عمل ما عمل ولم يربح شيئا لم يكن له شيء وإن سمي هذا جعالة بجزء مما يحصل بالعمل كان نزاعا لفظيا بل هذه مشاركة هذا بنفع بدنه وهذا بنفع ماله وما قسم الله من الربح كان بينهما على الإشاعة ‏;‏ ولهذا لا يجوز أن يخص أحدهما بربح مقدر ‏;‏ لأن هذا يخرجهما عن العدل الواجب في الشركة‏.‏ وهذا هو الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم من المزارعة فإنهم كانوا يشرطون لرب المال زرع بقعة بعينها وهو ما ينبت على الماذيانات وإقبال الجداول ونحو ذلك فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك‏.‏
ولهذا قال الليث بن سعد وغيره‏:‏ إن الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم هو أمر إذا نظر فيه ذو البصر بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز ‏;‏ أو كان قال‏.‏ فبين أن النهي عن ذلك موجب القياس فإن مثل هذا لو شرط في المضاربة لم يجز ‏;‏ لأن مبنى المشاركات على العدل بين الشريكين فإذا خص أحدهما بربح دون الآخر لم يكن هذا عدلا بخلاف ما إذا كان لكل منهما جزء شائع فإنهما يشتركان في المغنم وفي المغرم فإن حصل ربح اشتركا في المغنم وإن لم يحصل ربح اشتركا في الحرمان وذهب نفع بدن هذا كما ذهب نفع مال هذا ولهذا كانت الوضيعة على المال لأن ذلك في مقابلة ذهاب نفع العامل‏.‏ ولهذا كان الصواب أنه يجب في المضاربة الفاسدة ربح المثل لا أجرة المثل فيعطى العامل ما جرت به العادة أن يعطاه مثله من الربح‏:‏ إما نصفه وإما ثلثه وإما ثلثاه‏.‏
فإما أن يعطي شيئًا مقدرًا مضمونًا في ذمة المالك كما يعطي في الإجارة والجعالة فهذا غلط ممن قاله‏.‏ وسبب الغلط ظنه أن هذا إجارة فأعطاه في فاسدها عوض المثل كما يعطيه في المسمى الصحيح‏.‏
ومما يبين غلط هذا القول أن العامل قد يعمل عشر سنين فلو أعطي أجرة المثل لأعطي أضعاف رأس المال وهو في الصحيحة لا يستحق إلا جزءا من الربح إن كان هناك ربح فكيف يستحق في الفاسدة أضعاف ما يستحقه في الصحيحة‏؟‏‏.‏
وكذلك الذين أبطلوا المزارعة والمساقاة ظنوا أنها إجارة بعوض مجهول فأبطلوها وبعضهم صحح منها ما تدعو إليه الحاجة كالمساقاة على الشجر لعدم إمكان إجارتها بخلاف الأرض فإنه تمكن إجارتها‏.‏
وجوزوا من المزارعة ما يكون تبعا للمساقاة إما مطلقا ‏;‏ وإما إذا كان البياض الثلث‏.‏ وهذا كله بناء على أن مقتضى الدليل بطلان المزارعة وإنما جوزت للحاجة‏.‏
ومن أعطى النظر حقه علم أن المزارعة أبعد عن الظلم والقمار من الإجارة بأجرة مسماة مضمونة في الذمة ‏;‏ فإن المستأجر إنما يقصد الانتفاع بالزرع النابت في الأرض فإذا وجب عليه الأجرة ومقصوده من الزرع قد يحصل وقد لا يحصل كان في هذا حصول أحد المتعاوضين على مقصوده دون الآخر‏.‏
وأما المزارعة فإن حصل الزرع اشتركا فيه وإن لم يحصل شيء اشتركا في الحرمان فلا يختص أحدهما بحصول مقصوده دون الآخر فهذا أقرب إلى العدل وأبعد عن الظلم من الإجارة‏.‏ والأصل في العقود جميعها هو العدل ‏;‏ فإنه بعثت به الرسل وأنزلت الكتب قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏ والشارع نهى عن الربا لما فيه من الظلم وعن الميسر لما فيه من الظلم والقرآن جاء بتحريم هذا وهذا وكلاهما أكل المال بالباطل‏.‏
وما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من المعاملات‏:‏ كبيع الغرر وبيع الثمر قبل بدو صلاحه وبيع السنين وبيع حبل الحبلة وبيع المزابنة والمحاقلة ونحو ذلك‏:‏ هي داخلة إما في الربا وإما في الميسر فالإجارة بالأجرة المجهولة مثل أن يكريه الدار بما يكسبه المكتري في حانوته من المال هو من الميسر فهذا لا يجوز‏.‏ وأما المضاربة والمساقاة والمزارعة فليس فيها شيء من الميسر بل هو من أقوم العدل‏.‏
وهذا مما يبين لك أن المزارعة التي يكون فيها البذر من العامل أحق بالجواز من المزارعة التي يكون فيها من رب الأرض ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزارعون على هذا الوجه وكذلك عامل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على أن يعمروها من أموالهم‏.‏ والذين اشترطوا أن يكون البذر من رب الأرض قاسوا ذلك على المضاربة فقالوا في المضاربة‏:‏ المال من واحد والعمل من آخر وكذلك ينبغي أن يكون في المزارعة وجعلوا البذر من رب المال كالأرض‏.‏ وهذا القياس مع أنه مخالف للسنة ولأقوال الصحابة فهو من أفسد القياس ‏;‏ وذلك أن المال في المضاربة يرجع إلى صاحبه ويقتسمان الربح فهو نظير الأرض في المزارعة وأما البذر الذي لا يعود نظيره إلى صاحبه بل يذهب كما يذهب نفع الأرض فإلحاقه بالنفع الذاهب أولى من إلحاقه بالأصل الباقي فالعاقد إذا أخرج البذر ذهب عمله وبذره ورب الأرض ذهب نفع أرضه وبذر هذا كأرض هذا فمن جعل البذر كالمال كان ينبغي له أن يعيد مثل البذر إلى صاحبه كما قال مثل ذلك في المضاربة فكيف ولو اشترط رب البذر نظير عود بذره إليه لم يجوزوا ذلك‏.‏
وليس هذا موضع بسط هذه المسائل وإنما الغرض التنبيه على جنس قول القائل‏:‏ هذا يخالف القياس ‏.‏