فصل في قول من يقول حمل العقل على خلاف القياس
 
فصل
ومن هذا الباب قول من يقول‏:‏ حمل العقل على خلاف القياس‏.‏ فيقال‏:‏ لا ريب أن من أتلف مضمونا كان ضمانه عليه والناس متنازعون في العقل‏:‏ هل تحمله العاقلة ابتداء أو تحملا‏؟‏ كما تنازعوا في صدقة الفطر التي تجب على الغير ‏;‏ كصدقة الفطر عن الزوجة والولد‏:‏ هل تجب ابتداء أو تحملا‏؟‏ وفي ذلك نزاع معروف في مذهب أحمد وغيره وعلى ذلك ينبني لو أخرجها الذي يخرج عنه بدون إذن المخاطب بها فمن قال‏:‏ هي واجبة على المخاطب تحملا قال‏:‏ تجزئ‏.‏
ومن قال‏:‏ هي واجبة عليه ابتداء قال‏:‏ هي كأداء الزكاة عن الغير‏.‏ ولذلك تنازعوا في العقل إذا لم تكن عاقلة‏:‏ هل تجب في ذمة القاتل أم لا‏؟‏ والعقل فارق غيره من الحقوق في أسباب اقتضت اختصاصه بالحكم ‏;‏ وذلك أن دية المقتول مال كثير والعاقلة إنما تحمل الخطأ لا تحمل العمد بلا نزاع وفي شبه العمد نزاع والأظهر أنها لا تحمله والخطأ مما يعذر فيه الإنسان ‏;‏ فإيجاب الدية في ماله ضرر عظيم به من غير ذنب تعمده ولا بد من إيجاب بدل المقتول‏.‏
فالشارع أوجب على من عليهم موالاة القاتل ونصره أن يعينوه على ذلك فكان هذا كإيجاب النفقات التي تجب للقريب ‏;‏ أو تجب للفقراء والمساكين وإيجاب فكاك الأسير من بلد العدو ‏;‏ فإن هذا أسير بالدية التي تجب عليه وهي لم تجب باختيار مستحقها ولا باختياره كالديون التي تجب بالقرض والبيع وليست أيضا قليلة في الغالب كإبدال المتلفات فإن إتلاف مال كثير بقدر الدية خطأ نادر جدا بخلاف قتل النفس خطأ فما سببه العمد في نفس أو مال فالمتلف ظالم مستحق فيه للعقوبة وما سببه الخطأ في الأموال فقليل في العادة ‏;‏ بخلاف الدية‏.‏
ولهذا كان عند الأكثرين لا تحمل العاقلة إلا ماله قدر كثير فعند مالك وأحمد لا تحمل ما دون الثلث وعند أبي حنيفة ما دون السن والموضحة فكان إيجابها من جنس ما أوجبه الشارع من الإحسان إلى المحتاجين كبني السبيل والفقراء والمساكين والأقارب المحتاجين‏.‏ ومعلوم أن هذا من أصول الشرائع التي بها قيام مصلحة العالم فإن الله لما قسم خلقه إلى غني وفقير ولا تتم مصلحتهم إلا بسد خلة الفقراء وحرم الربا الذي يضر الفقراء ‏;‏ فكان الأمر بالصدقة من جنس النهي عن الربا ‏;‏ ولهذا جمع الله بين هذا وهذا في مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 276‏]‏‏.‏
وفي مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 39‏]‏‏.‏
وقد ذكر الله في آخر البقرة أحكام الأموال وهي ثلاثة أصناف‏:‏ عدل ‏;‏ وفضل ‏;‏ وظلم ‏;‏ فالعدل‏:‏ البيع ‏;‏ والظلم‏:‏ الربا ‏;‏ والفضل‏:‏ الصدقة‏.‏ فمدح المتصدقين وذكر ثوابهم وذم المربين وبين عقابهم وأباح البيع والتداين إلى أجل مسمى ‏;‏ فالعقل من جنس ما أوجبه من الحقوق لبعض الناس على بعض كحق المسلم ‏;‏ وحق ذي الرحم وحق الجار ‏;‏ وحق المملوك والزوجة‏.