باب المياه : سئل:عن وقوع النجاسة في الماء من غير تغير وتغييرها بالطاهرات‏؟‏
 
وسئل عن مسائل كثير وقوعها، ويحصل الابتلاء بها، ويحصل الضيق والحرج والعمل بها على رأي إمام بعينه‏؟‏ منها مسألة المياه اليسرة، ووقوع النجاسة فيها من غير تغير وتغييرها بالطاهرات‏؟‏
فأجاب ـ رحمه الله تعالى‏:‏
الحمد لله رب العالمين، أما مسألة تغير الماء اليسير أو الكثير بالطاهرات ـ كالأشنان والصابون والسدر والخطمي والتراب والعجين، وغير ذلك مما قد يغير الماء، مثل الإناء إذا كان فيه أثر سدر أو خطمي ووضع فيه ماء، فتغير به، مع بقاء اسم الماء ـ فهذا فيه قولان معروفان للعلماء‏:‏
أحدهما‏:‏ أنه لا يجوز التطهير به، كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد في إحدي الروايتين عنه التي اختارها الخرقي والقاضي، وأكثر متأخري أصحابه؛ لأن هذا ليس بماء مطلق، فلا يدخل في قوله تعالى‏:‏ ‏{فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ ثم إن أصحاب هذا القول استثنوا من هذا أنواعًا، بعضها متفق عليه بينهم، وبعضها مختلف فيه، فما كان من التغير حاصلاً بأصل الخلقة أو بما يشق صون الماء عنه، فهو طهور باتفاقهم‏.‏ وما تغير بالأدهان والكافور ونحو ذلك، ففيه قولان معروفان في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما‏.‏ وما كان تغيره يسيرًا‏:‏ فهل يعفي عنه أو لا يعفي عنه، أو يفرق بين الرائحة وغيرها‏؟‏ على ثلاثة أوجه، إلى غير ذلك من المسائل‏.‏
والقول الثاني‏:‏ أنه لا فرق بين المتغير بأصل الخلقة وغيره، ولا بما يشق الاحتراز عنه، ولا بما لا يشق الاحتراز عنه، فما دام يسمي ماء ولم يغلب عليه أجزاء غيره كان طهورًا، كما هو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخري عنه، وهي التي نص عليها في أكثر أجوبته‏.‏ وهذا القول هو الصواب؛ لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قال‏:‏ ‏{وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء}‏ نكرة في سياق النفي، فيعم كل ما هو ماء، لا فرق في ذلك بين نوع ونوع‏.‏
فإن قيل‏:‏ إن المتغير لا يدخل في اسم الماء‏؟‏
قيل‏:‏ تناول الاسم لمسماه لا فرق فيه بين التغير الأصلي والطارئ ولا بين التغير الذي يمكن الاحتراز منه والذي لا يمكن الاحتراز منه، فإن الفرق بين هذا وهذا إنما هو من جهة القياس لحاجة الناس إلىاستعمال هذا المتغير، دون هذا، فأما من جهة اللغة وعموم الاسم وخصوصه فلا فرق بين هذا وهذا؛ ولهذا لو وكله في شراء ماء، أو حلف لا يشرب ماء أو غير ذلك، لم يفرق بين هذا وهذا، بل إن دخل هذا دخل هذا،وإن خرج هذا خرج هذا، فلما حصل الاتفاق على دخول المتغير تغيرًا أصليا، أو حادثًا بما يشق صونه عنه، علم أن هذا النوع داخل في عموم الآية‏.‏ وقد ثبت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر‏:‏ ‏(‏هو الطهور ماؤه، الحل ميتته‏)‏ والبحر متغير الطعم تغيرًا شديدًا؛ لشدة ملوحته‏.‏ فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن ماءه طهور ـ مع هذا التغير ـ كان ما هو أخف ملوحة منه أولي أن يكون طهورًا، وإن كان الملح وضع فيه قصدًا؛ إذ لا فرق بينهما في الاسم من جهة اللغة‏.‏ وبهذا يظهر ضعف حجة المانعين؛ فإنه لو استقي ماء، أو وكله في شراء ماء لم يتناول ذلك ماء البحر، ومع هذا فهو داخل في عموم الآية، فكذلك ما كان مثله في الصفة‏.‏
وأيضًا، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل المحرم بماء وسدر‏.‏ وأمر بغسل ابنته بماء وسدر‏.‏ وأمر الذي أسلم أن يغتسل بماء وسِدر‏.‏ ومن المعلوم‏:‏ أن السدر لابد أن يغير الماء، فلو كان التغير يفسد الماء لم يأمر به‏.‏
وقـول القائل‏:‏ إن هذا تغير في محل الاستعمال، فلا يؤثر، تفريق بوصف غير مؤثر، لا في اللغـة ولا في الشرع؛ فإن المتغير إن كان يسمي ماء مطلقًا، وهو على البدن، فيسمي مـاء مطلقًا وهـو في الإنـاء‏.‏ وإن لم يسـم مـاء مطلقًا في أحدهما، لم يسم مطلقًا في الموضـع الآخـر فإنـه مـن المعلـوم أن أهـل اللغة لا يفرقون في التسمية بين محل ومحل‏.‏
وأمـا الشـرع‏:‏ فـإن هـذا فرق لم يـدل عليه دليـل شـرعي، فـلا يلتفت اليه‏.‏ والقياس عليه إذا جمـع أو فرق، أن يبين أن مـا جعلـه مناط الحكم جمعًا أوفرقًا مما دل عليه الشـرع، وإلا فمـن علـق الأحكام بأوصاف ـ جمعًا وفرقًـا بغير دليل شرعي ـ كان واضعًـا لشرع من تلقاء نفسه، شارعًا في الدين ما لم يأذن به الله‏.‏
ولهذا كان على القائس أن يبين تأثير الوصف المشترك الذي جعله مناط الحكم، بطريق من الطرق الدالة على كون الوصف المشترك هو علة الحكم‏.‏ وكذلك في الوصف الذي فرق فيه بين الصورتين، عليه أن يبين تأثيره بطريق من الطرق الشرعية‏.‏
وأيضا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ توضأ من قصعة فيها أثـر العجين، ومن المعلوم أنـه لابد ـ في العادة ـ من تغير الماء بذلك، لاسيما في آخر الأمر، إذا قل الماء وانحل العجين‏.‏
فإن قيل‏:‏ ذلك التغير كان يسيرًا‏؟‏
قيل‏:‏ وهـذا ـ أيضًا ـ دليل في المسألة؛ فـإنـه إن سـوَّي بين التغـير اليسـير والكثير مطلقًا، كان مخالفًا للنص‏.‏ وإن فرق بينهما، لم يكن للفرق بينهما حد منضبط، لا بلغة ولا شـرع، ولا عقـل ولا عـرف، ومن فرق بين الحـلال والحرام بفرق غير معلوم لم يكـن قولـه صحيحًا‏.‏
وأيضًا، فإن المانعين مضطربون اضطرابًا يدل على فساد أصل قولهم، منهم من يفرق بين الكافور والدهن وغيره، ويقول‏:‏ إن هذا التغير عن مجاورة لا عن مخالطة‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ بل نحن نجد في الماء أثر ذلك، ومنهم من يفرق بين الورق الربيعي والخريفي، ومنهم من يسوي بينهما، ومنهم من يسوي بين الملحين‏:‏ الجبلي والمائي‏.‏ ومنهم من يفرق بينهما‏.‏
وليس على شيء من هذه الأقوال دليل يعتمد عليه، لا من نص ولا قياس ولا إجماع؛ إذ لم يكن الأصل الذي تفرعت عليه مأخوذًا من جهة الشرع، وقد قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ‏:‏ ‏{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏، وهذا بخلاف ما جاء من عند الله، فإنه محفوظ، كما قال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏، فدل ذلك على ضعف هذا القول‏.‏
وأيضًا، فإن القول بالجواز موافق للعموم اللفظي والمعنوي، مدلول عليه بالظواهر والمعاني، فإن تناول اسم الماء لمواقع الإجماع، كتناوله لموارد النزاع في اللغة، وصفات هذا كصفات هذا في الجنس، فتجب التسوية بين المتماثلين‏.‏
وأيضًا، فإنه على قول المانعين، يلزم مخالفة الأصل، وترك العمل بالدليل الشرعي لمعارض راجح؛ إذ كان يقتضي القياس عندهم أنه لا يجوز استعمال شيء من المتغيرات في طهارتي الحدث والخبث، لكن استثني المتغير بأصل الخلقة، وبما يشق صون الماء عنه للحرج والمشقة فكان هذا موضع استحسان ترك له القياس، وتعارض الأدلة على خلاف الأصل‏.‏ وعلى القول الأول‏:‏ يكون رخصة ثابتة على وفق القياس من غير تعارض بين أدلة الشرع، فيكون هذا أقوي‏.‏