باب المياه : وَسُئِلَ شيخُ الإسلام ‏:‏ عن هؤلاء الذين يعبرون إلى الحمام
 
وَسُئِلَ شيخُ الإسلام ‏:‏ عن هؤلاء الذين يعبرون إلى الحمام، فإذا أرادوا أن يغتسلوا من الجنابة وقف واحد منهم على الطهور وحده، ولا يغتسل أحد معه حتى يفرغ واحدًا بعد واحد، فهل إذا اغتسل معه غيره لا يطهر‏؟‏ وإن تطهر من بقية أحواض الحمام فهل يجوز ـ وإن كان الماء بائتا فيها ‏؟‏ وهل الماء الذي يتقاطر من على بدن الجنب من الجماع طاهر أو نجس‏؟‏ وهل ماء الحمام ـ عند كونه مسخنًا بالنجاسة ـ نجس أم لا ‏؟‏ وهل الزنبور الذي يكون في الحمام أيام الشتاء هو من دخان النجاسة يتنجس به الرجل إذا اغتسل وجسده مبلول أم لا ‏؟‏ والماء الذي يجري في أرض الحمام من اغتسال الناس طاهر أم نجس‏؟‏ أفتونا ليزول الوسواس‏.‏
فأجاب‏:‏
الحمد للّه، قد ثبت في الصحيحين عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ ‏:‏ أنها كانت تغتسل هي ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم من إناء واحد يغترفان جميعًا‏.‏ وفي رواية‏:‏ أنها كانت تقول‏:‏ دع لي ويقول هو‏:‏ ‏(‏دعي لي‏)‏ من قلة الماء ‏.‏وثبت ـ أيضًا ـ في الصحيح أنه كان يغتسل هو وغير عائشة من أمهات المؤمنين من إناء واحد، مثل ميمونة بنت الحارث وأم سلمة‏.‏ وثبت عن عائشة أنها قالت‏:‏ كنت أغتسل أنا ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم من إناء واحد قدر الفَرْق والفَرْقُ‏:‏ مكيال بالمدينة يسع ثلاثة آصع، أو ستة عشر رطلاً ـ بالرطل العراقي القديم ـ ستة عشر رطلا، وبالرطل المصري أقل من خمسة عشر رطلًا‏.‏ وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع‏.‏ وثبت في الصحيح عن ابن عمر أنه قال‏:‏ كان الرجال والنساء على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يتوضؤون من ماء واحد‏.‏
وهذه السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين كانوا بمدينته على عهده دلت على أمور‏:‏
أحدها‏:‏ هو اشتراك الرجال والنساء في الاغتسال من إناء واحد، وإن كان كل منهما يغتسل بسؤر الآخر‏.‏ وهذا مما اتفق عليه أئمة المسلمين بلا نزاع بينهم، أن الرجل والمرأة أو الرجال والنساء إذا توضؤوا واغتسلوا من ماء واحد جاز، كما ثبت ذلك بالسنن الصحيحة المستفيضة‏.‏ وإنما تنازع العلماء فيما إذا انفردت المرأة بالاغتسال أو خلت به‏:‏ هل ينهي الرجل عن التطهر بسؤرها ‏؟‏ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره‏:‏
أحدها‏:‏ لا بأس بذلك مطلقًا‏.‏
والثاني ‏:‏ يكره مطلقًا‏.‏
والثالث ‏:‏ ينهي عنه إذا خلت به، دون ما انفردت به ولم تخل به‏.‏ وقد روي في ذلك أحاديث في السنن وليس هذا موضع هذه المسألة‏.‏
فأما اغتسال الرجال والنساء جميعا من إناء واحد، فلم يتنازع العلماء في جوازه، وإذا جاز اغتسال الرجال والنساء جميعًا، فاغتسال الرجال دون النساء جميعًا، أو النساء دون الرجال جميعًا أولي بالجواز، وهذا مما لا نزاع فيه‏.‏ فمن كره أن يغتسل معه غيره، أو رأي أن طهره لا يتم حتى يغتسل وحده، فقد خرج عن إجماع المسلمين، وفارق جماعة المؤمنين‏.‏
يوضح ذلك أن الآنية التي كان النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه والرجال والنساء يغتسلون منها كانت آنية صغيرة، ولم يكن لها مادة لا أنبوب ولا غيره، ولم يكن يفيض‏.‏فاذا كان تطهر الرجال والنساء جميعًا من تلك الآنية جائزًا، فكيف بهذه الحياض التي في الحمامات وغير الحمامات التي يكون الحوض أكبر من قلتين‏؟‏ فإن القلتين أكثر ما قيل فيهما ـ على الصحيح ـ‏:‏ أنهما خمسمائة رطل بالعراقي القديم، فيكون هذا الرطل المصري أكثر من ذلك بعشرات من الأرطال؛ فإن الرطل العراقي القديم مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم، وهذا الرطل المصري مائة وأربعة وأربعون درهما، يزيد على ذلك بخمسة عشر درهما وثلاثة أسباع درهم، وذلك أكثر من أوقية وربع مصرية، فالخمسمائة رطل بالعراقي أربعة وستون ألف درهم، ومائتا درهم، وخمسة وثمانون درهما، وخمسة أسباع درهم وذلك بالرطل الدمشقي الذي هو ستمائة درهم‏:‏ مائة وسبعة أرطال وسبع رُطْل‏.‏ وهذا الرطل المصري‏:‏ أربعمائة رطل وستة وأربعون رطلا وكسر أوقية، ومساحة القلتين ذراع وربع في ذراع وربع طولا وعرضًا وعمقًا، ومعلوم أن غالب هذه الحياض التي في الحمامات المصرية وغير الحمامات أكثر من هذا المقدار بكثير، فإن القلة نحو من هذه القرب الكائنة التي تستعمل بالشام ومصر، فالقلتان قربتان بهذه القرب، وهذا كله تقريب ـ بلا ريب ـ فإن تحديد القلتين إنما هو بالتقريب على أصوب القولين، ومعلوم أن هذه الحياض فيها أضعاف ذلك، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتطهر هو وأزواجه من تلك الآنية، فكيف بالتطهر من هذه الحياض‏؟‏
الأمر الثاني‏:‏ أنه يجوز التطهر من هذه الحياض سواء كانت فائضة أو لم تكن، وسواء كانت الأنبوب تصب فيها أو لم تكن، وسواء كان الماء بائتا فيها أو لم يكن، فإنها طاهرة، والأصل بقاء طهارتها، وهي ـ بـكل حال ـ أكثر ماء من تلك الآنية الصغار التي كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتطهرون منها، ولم تكن فائضة ولا كان بها مادة من أنبوب ولا غيره‏.‏
ومن انتظر الحوض حتى يفيض، ولم يغتسل إلا وحده، واعتقد ذلك دينًا، فهو مبتدع مخالف للشريعة، مستحق للتعزير الذي يردعه وأمثاله عن أن يشرعوا في الدين ما لم يأذن به اللّّه، ويعبدون اللّه باعتقادات فاسدة وأعمال غير واجبة ولا مستحبة‏.‏
الأمر الثالث‏:‏ الاقتصاد في صب الماء، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أنه كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع‏.‏ والصاع أكثر ما قيل فيه‏:‏ إنه ثمانية أرطال بالعراقي كما قال أبو حنيفة، وأما أهل الحجاز وفقهاء الحديث ـ كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم ـ فعندهم أنه خمسة أرطال وثلث بالعراقي‏.‏ وحكاية أبي يوسف مع مالك في ذلك مشهورة لما سأله عن مقدار الصاع والمد، فأمر أهل المدينة أن يأتوه بصيعانهم حتى اجتمع عنده منها شيء كثير، فلما حضر أبو يوسف قال مالك لواحد منهم‏:‏ من أين لك هذا الصاع‏؟‏ قال‏:‏ حدثني أبي عن أبيه أنه كان يؤدي به صدقة الفطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال الآخر‏:‏ حدثتني أمي عن أمها أنها كانت تؤدي به، ـ يعني‏:‏ صدقة حديقتها ـ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال الآخر نحو ذلك‏.‏ وقال الآخر نحو ذلك‏.‏ فقال مالك لأبي يوسف‏:‏ أتري هؤلاء يكذبون‏؟‏ قال‏:‏ لا، والله ما يكذب هؤلاء، قال مالك‏:‏ فأنا حررت هذا برطلكم يا أهل العراق‏!‏ فوجدته خمسة أرطال وثلثًا، فقال أبو يوسف لمالك‏:‏ قد رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله، ولو رأي صاحبي ما رأيت، لرجع كما رجعت‏.‏ فهذا النقل المتواتر عن أهل المدينة بمقدار الصاع والمد‏.‏
وقد ذهب طائفة من العلماء ـ كابن قتيبة، والقاضي أبي يعلى في تعليقه وجدي أبي البركات ـ إلى أن صاع الطعام خمسة أرطال وثلث، وصاع الماء ثمانية، واحتجوا بحجج‏:‏ منها خبر عائشة‏:‏ أنها كانت تغتسل هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرق، والفرق ستة عشر رطلاً بالعراقي، والجمهور على أن الصاع والمد في الطعام والماء واحد، وهو أظهر، وهذا مبسوط في موضعه‏.‏
والمقصود هنا أن مقدار طهور النبي صلى الله عليه وسلم في الغسل ما بين ثمانية أرطال عراقية إلى خمسة وثلث، والوضوء ربع ذلك، وهذا بالرطل المصري أقل من ذلك‏.‏
وإذا كان كذلك، فالذي يكثر صب الماء حتى يغتسل بقنطار ماء أو أقل أو أكثر، مبتدع مخالف للسنة، ومن تدين به عوقب عقوبة تزجره وأمثاله عن ذلك كسائر المتدينين بالبدع المخالفة للسنة، وهذا كله بين في هذه الأحاديث‏.‏
فإن قيل‏:‏ إنما يفعل نحو هذا؛ لأن الماء قد يكون نجسًا أو مستعملًا، بأن تكون الآنية مثل الطاسة اللاصقة بالأرض قد تنجست بما على الأرض من النجاسة، ثم غرف بها منه، أو بأن الجنب غمس يده فيه فصار الماء مستعملاً، أو قطر عليه من عرق سقف الحمام النجس، أو المحتمل للنجاسة، أو غمس بعض الداخلين أعضاءه فيه وهي نجسة فنجسته، فلاحتمال كونه نجسًا أو مستعملًا، احتطنا لديننا وعدلنا إلى الماء الطهور بيقين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏دع ما َيِريبُكَ إلى ما لا يريبك‏)‏، ولقوله‏:‏ ‏(‏من اتقى الشبهات استبرأ لعرضه ودينه‏)‏‏.‏
قيل‏:‏ الجواب عن هذا من وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن الاحتياط بمجرد الشك في أمور المياه، ليس مستحبًا ولا مشروعًا، بل ولا يستحب السؤال عن ذلك، بل المشروع أن يُبْنَي الأمر على الاستصحاب، فإن قام دليل على النجاسة نجسناه، وإلا فلا يستحب أن يجتنب استعماله بمجرد احتمال النجاسة، وأما إذا قامت أمارة ظاهرة، فذاك مقام آخر‏.‏
والدليل القاطع‏:‏ أنه مازال النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون يتوضؤون ويغتسلون ويشربون من المياه التي في الآنية والدَّلاَءِ الصغار والحياض وغيرها مع وجود هذا الاحتمال، بل كل احتمال لا يستند إلى أمارة شرعية لم يلتفت إليه؛ وذلك أن المحرمات نوعان‏:‏ محرم لوصفه، ومحرم لكسبه‏.‏ فالمحرم لكسبه كالظلم والربا والميسر، والمحرم لوصفه كالميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به‏.‏ والأول أشد تحريمًا والتورع فيه مشهور، ولهذا كان السلف يحترزون في الأطعمة والثياب من الشبهات الناشئة من المكاسب الخبيثة‏.‏
وأما الثاني‏:‏ فإنما حرم؛ لما فيه من وصف الخبث، وقد أباح الله لنا طعام أهل الكتاب مع إمكان ألا يذكوه التذكية الشرعية أو يسمُّوا عليه غير الله،وإذا علمنا أنهم سموا عليه غير الله،حرم ذلكفي أصح قولي العلماء‏.‏وقد ثبت في الصحيح من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قوم يأتون باللحم ولا يُدْرَى أسموا عليه أم لا‏؟‏ فقال‏:‏‏(‏سموا أنتم وكلوا‏)‏‏.‏
وأما الماء، فهو في نفسه طهور، ولكن إذا خالطته النجاسة وظهرت فيه، صار استعماله استعمالاً لذلك الخبيث، فإنما نهي عن استعماله؛ لما خالطه من الخبيث، لا لأنه في نفسه خبيث، فإذا لم يكن هنا أمارة ظاهرة على مخالطة الخبيث له، كان هذا التقدير والاحتمال مع طيب الماء وعدم التغيير فيه من باب الحرج الذي نفاه الله عن شريعتنا، ومن باب الآصار والأغلال المرفوعة عنا‏.‏
وقد ثبت أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ توضأ من جرة نصرانية مع قيام هذا الاحتمال، ومر عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وصاحب له بميزاب فقال صاحبه‏:‏ يا صاحب الميزاب، ماؤك طاهر أم نجس‏؟‏ فقال عمر‏:‏ يا صاحب الميزاب، لا تخبره‏.‏ فإن هذا ليس عليه‏.‏ وقد نص على هذه المسألة الأئمة كأحمد وغيره؛ نصوا على أنه إذا سقط عليه ماء من ميزاب ونحوه، ولا أمارة تدل على النجاسة، لم يلزم السؤال عنه، بل يكره‏.‏ وإن سأل‏:‏ فهل يلزم رد الجواب‏؟‏ على وجهين‏.‏ وقد استحب بعض الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره السؤال وهو ضعيف‏.‏
والوجه الثاني‏:‏ أن يقول‏:‏ هذه الاحتمالات هنا منتفية؛ أو في غاية البعد فلا يلتفت إليها، والالتفات إليها حرج ليس من الدين، ووسوسة يأتي بها الشيطان؛ وذلك أن الطاسات ـ وغيرها من الآنية التي يدخل بها الناس الحمامات ـ طاهرة في الأصل، واحتمال نجاستها أضعف من احتمال نجاسة الأوعية التي في حوانيت الباعة، فإذا كانت آنية الأدهان والألبان والخلول والعجين ـ وغير ذلك من المائعات والجامدات والرطبة ـ محكومًا بطهارتها، غير ملتفت فيها إلى هذا الوسواس، فكيف بطاسات الناس‏؟‏‏!‏
وأما قول القائل‏:‏ إنها تقع على الأرض، فنعم‏.‏ وما عند الحياض من الأرض طاهر لا شبهة فيه؛ فإن الأصل فيه الطهارة، وما يقع علىه من المياه والسدر والخطمي والأشنان والصابون وغير ذلك، طاهر، وأبدان الجنب من الرجال والنساء طاهرة‏.‏
وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة، قال‏:‏ فانخنست منه؛ فاغتسلت ثم أتيته فقال‏:‏ ‏(‏أين كنت‏؟‏‏)‏ فقلت‏:‏ إني كنتُ جنبًا، فكرهت أن أجالسك وأنا جنب، فقال‏:‏ ‏(‏سبحان الله‏!‏ إن المؤمن لا ينجس‏)‏‏.‏ وهذا متفق عليه بين الأئمة‏:‏ أن بدن الجنب طاهر وعرقه طاهر، والثوب الذي يكون فيه عرقه طاهر، ولو سقط الجنب في دهن أو مائع، لم ينجسه بلا نزاع بين الأئمة، بل وكذلك الحائض عرقها طاهر، وثوبها الذي يكون فيه عرقها طاهر‏.‏ وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أذن للحائض أن تصلي في ثوبها الذي تحيض فيه، وأنها إذا رأت فيه دمًا أزالته وصلت فيه‏.‏
فإذا كان كذلك، فمن أين ينجس ذلك البلاط‏؟‏ أكثر ما يقال‏:‏ إنه قد يبول عليه بعض المغتسلين، أو يبقى عليه، أو يكون على بدن بعض المغتسلين نجاسة يطأ بها الأرض، ونحو ذلك‏.‏
وجواب هذا من وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن هذا قليل نادر؛ وليس هذا المتيقن من كل بقعة‏.‏
الثاني‏:‏ أن غالب من تقع منه نجاسة يصب عليها الماء الذي يزيلها‏.‏
الثالث‏:‏ أنه إذا أصاب ذلك البلاط شيء من هذا، فإن الماء الذي يفيض من الحوض والذي يصبه الناس، يطهر تلك البقعة، وإن لم يقصد تطهيرها، فإن القصد في إزالة النجاسة ليس بشرط عند أحد من الأئمة الأربعة، ولكن بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد، ذكروا وجهًا ضعيفًا في ذلك؛ ليطردوا قياسهم في مناظرة أبي حنيفة في اشتراط النية في طهارة الحدث‏.‏ كما أن زفر نفي وجوب النية في التيمم طردًا لقياسه، وكلا القولين مطرح‏.‏
وقد نص الأئمة على أن ماء المطر يطهر الأرض التي يصيبها، وغالب الماء الذي يصب على الأرض ليس بمستعمل، فإن أكثر الماء الذي يصبه الناس لا يكون عن جنابة، ولا متغيرًا‏.‏
الوجه الثالث‏:‏ أن يقال‏:‏ هب أن الحوض وقعت فيه نجاسة محققة، أو انغمس فيه جنب، فهذا ماء كثير‏.‏ وقد ثبت عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له‏:‏ يا رسول الله، إنك تتوضأ من بئر بُضَاعَة وهي بئر يلقي فيها الحيض، ولحوم الكلاب، والنتن‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏الماء طَهور لا ينجسه شيء‏)‏‏.‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حديث بئر بُضَاعة صحيح‏.‏ وفي السنن عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب، فقال‏:‏ ‏(‏إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء‏)‏، وفي لفظ‏:‏ ‏(‏لم يحمل الخبث‏)‏‏.‏
وبئر بُضَاعَة بئر كسائر الآبار، وهي باقية إلى الآن بالمدينة من الناحية الشرقية، ومن قال‏:‏ إنها كانت عينا جارية، فقد غلط غلطًا بينًا؛ فإنه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة عين جارية أصلاً، ولم يكن بها إلا الآبار، منها يتوضؤون ويغتسلون ويشربون، ومثل بئر أَرِيس التي بقباء، أو البئر التي بِبَيْرُحَاء ‏(‏حديقة أبي طلحة‏)‏، والبئر التي اشتراها عثمان وحبسها على المسلمين، وغير هذه الآبار، وكان سقيهم للنخل والزرع من الآبار بالنواضح والسواني، السوَّاني‏:‏ جمع سانية وهي الناقة يسقى عليها، ومثلها النواضح ونحو ذلك، أو بماء السماء وما يأتي من السيول، فأما عين جارية، فلم تكن لهم‏.‏
وهذه العيون التي تسمي عيون حمزة، إنما أحدثها معاوية في خلافته وأمر الناس بنقل الشهداء من موضعها، فصاروا ينبشونهم وهم رطاب لم ينتنوا، حتى أصابت المَسْحاة رِجْل أحدهم فانبعثت دمًا، وكذلك عين الزرقاء محدثة، لكن لا أدري متى حدثت‏؟‏
وهذا أمر لا ينازع فيه أحد من العلماء العالمين بالمدينة وأحوالها، وإنما ينازع في مثل هذا بعض أتباع علماء العراق، الذين ليس لهم خبرة بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم ومدينته وسيرته‏.‏ وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ من تلك البئر التي يلقي فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن، فكيف يشرع لنا أن نتنزه عن أمر فعله النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ وقد ثبت عنه أنه أنكر على من يتنزه عما يفعله، وقال‏:‏ ‏(‏ما بال أقوام يتنزهون عن أشياء أترخص فيها‏؟‏ والله إني لأخشاكم لله وأعلمكم بحدوده‏)‏‏.‏
ولو قال قائل‏:‏ نتنزه عن هذا لأجل الخلاف فيه، فإن من أهل العراق من يقول‏:‏ الماء إذا وقعت فيه نجاسة نجسته وإن كان كثيرًا إلا أن يكون مما لا تبلغه النجاسة، ويقدرونه بما لا يتحرك أحد طرفيه بتحرك الطرف الآخر، وهل العبرة بحركة المتوضئ أو بحركة المغتسل‏؟‏ على قولين‏.‏ وقدر بعضهم ذلك بعشرة أذرع في عشرة أذرع‏.‏ ويحتجون بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه‏)‏، ثم يقولون‏:‏ إذا تنجست البئر، فإنه ينزح منها دلاء مقدرة في بعض النجاسات، وفي بعضها تنزح البئر كلها‏.‏ وذهب بعض متكلميهم إلى أن البئر تَطُمُّ، فهذا الاختلاف يورث شبهة في الماء إذا وقعت فيه نجاسة‏؟‏
قيل لهذا القائل‏:‏ الاختلاف إنما يورث شبهة إذا لم تتبين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فأما إذا تبينا أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص في شيء، وقد كره أن نتنزه عما ترخص فيه، وقال لنا‏:‏ ‏(‏إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتي معصيته‏)‏‏.‏رواه أحمد وابن خزيمة في صحيحه، فإن تنزهنا عنه، عصينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أحق أن نرضيه، وليس لنا أن نغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبهة وقعت لبعض العلماء، كما كان عام الحديبية، ولو فتحنا هذا الباب، لكنا نكره لمن أرسل هديا أن يستبيح ما يستبيحه الحلال لخلاف ابن عباس، ولكنا نستحب للجنب إذا صام أن يغتسل لخلاف أبي هريرة، ولكنا نكره تطيب المحرم قبل الطواف لخلاف عمر وابنه ومالك، ولكنا نكره له أن يلبي إلى أن يرمي الجمرة بعد التعريف لخلاف مالك وغيره، ومثل هذا واسع لا ينضبط‏.‏
وأما من خالف في شيء من هذا من السلف والأئمة ـ رضي الله عنهم ـ فهم مجتهدون قالوا بمبلغ علمهم واجتهادهم، وهم إذا أصابوا فلهم أجران، وإذا أخطؤوا فلهم أجر، والخطأ محطوط عنهم، فهم معذورون لاجتهادهم، ولأن السنة البينة لم تبلغهم، ومن انتهي إلى ما علم فقد أحسن‏.‏
فأما من تبلغه السنة ـ من العلماء وغيرهم ـ وتبين له حقيقة الحال، فلم يبق له عذر في أن يتنزه عما ترخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يرغب عن سنته لأجل اجتهاد غيره، فإنه قد ثبت عنه في الصحيحين أنه بلغه أن أقوامًا يقول أحدهم‏:‏ أما أنا فأصوم لا أفطر‏.‏ ويقول الآخر‏:‏ فأنا أقوم ولا أنام‏.‏ ويقوم الآخر‏:‏ أما أنا فلا أتزوج النساء‏.‏ ويقول الآخر‏:‏ أما أنا فلا آكل اللحم فقال‏:‏ ‏(‏بل أصوم وأفطر،وأنام وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني‏)‏‏.‏
ومعلوم أن طائفة من المنتسبين إلى العلم والدين يرون أن المداومة على قيام الليل وصيام النهار وتـرك النكاح وغـيره مـن الطيبات، أفضـل مـن هـذا، وهـم في هـذا ـ إذا كانـوا مجتهدين ـ معذورون‏.‏ ومن علم السنة فرغب عنها لأجل اعتقاد أن ترك السنة إلى هذا أفضل، وأن هذا الهدي أفضل من هدي محمد صلى الله عليه وسلم، لم يكن معذورًا بل هو تحت الوعيد النبوي بقوله‏:‏ ‏(‏من رغب عن سنتي فليس مني‏)‏‏.‏
وفي الجملة، باب الاجتهاد والتأويل باب واسع يؤول بصاحبه إلى أن يعتقد الحرام حلالا، كمن تأول في ربا الفضل، والأنبذة المتنازع فيها، وحشوش النساء، وإلى أن يعتقد الحلال حرامًا، مثل بعض ما ذكرناه من صور النزاع، مثل الضب وغيره، بل يعتقد وجوب قتل المعصوم أو بالعكس، فأصحاب الاجتهاد ـ وإن عذروا وعرفت مراتبهم من العلم والدين ـ فلا يجوز ترك ما تبين من السنة والهدي لأجل تأويلهم‏.‏ والله أعلم‏.‏
وبهذا يظهر الجواب عن قولهم‏:‏ إنه قد يغمس يده فيه أو ينغمس فيه الجنب، فإنه قد ثبت بالنسبة أن هذا لا يؤثر فيه النجاسة، فكيف تؤثر فيه الجنابة‏؟‏ وقد أجاب الجمهور عن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن‏:‏ أن يبول الرجل في الماء الدائم ثم يغتسل منه بأجوبة‏:‏
أحدها‏:‏ أن النهي عن الاغتسال وعن البول؛ لأن ذلك قد يفضي إلى الإكثار من ذلك حتى يتغير الماء، وإذا بال ثم اغتسل فقد يصيبه البول قبل استحالته،وهذا جواب من يقول‏:‏ الماء لا ينجس إلا بالتغير، كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب مالك، وأحمد في رواية اختارها أبو محمد البغدادي صاحب التعليقة‏.‏
الثاني‏:‏ أن ذلك محمول على ما دون القلتين، توفيقًا بين الأحاديث، وهذا جواب الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد‏.‏
الثالث‏:‏ أن النص إنما ورد في البول، والبول أغلظ من غيره؛ لأن أكثر عذاب القبر منه، وصيانة الماء منه ممكنة؛ لأنه يكون باختيار الإنسان، فلما غلظ ـ وصيانة الماء عنه ممكنة ـ فَرَقَ بينه وبين ما يعسر صيانة الماء عنه، وهو دونه‏.‏ وهذا جواب أحمد في المشهور عنه، واختيار جمهور أصحابه‏.‏
الجواب الرابع‏:‏ أنا نفرض أن الماء قليل، وأن المغتسلين غمسوا فيه أيديهم، فهذا بعينه صورة النصوص التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يغتسل هو والمرأة من أزواجه من إناء واحد‏.‏ وقد تنازع الفقهاء الذين يقولون بأن الماء المتطهر به يصير مستعملاً إذا غمس الجنب يده فيه‏:‏ هل يصير مستعملًا‏؟‏ على قولين مشهورين‏.‏ وهو نظير غمس المتوضئ يده بعد غسل وجهه عند من يوجب الترتيب كالشافعي وأحمد‏.‏ والصحيح عندهم‏:‏ الفرق بين أن ينوي الغسل أو لا ينويه، فإن نوي مجرد الغسل صار مستعملاً، وإن نوي مجرد الاغتراف لم يصر مستعملًا، وإن أطلق لم يصر مستعملًا ـ على الصحيح‏.‏
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اغترف من الإناء بعد غسل وجهه، كما ثبت عنه أنه اغترف منه في الجنابة، ولم يحـرج على المسلمين في هذا الوضع، بـل قد علمنا ـ يقينًا ـ أن أكثر توضؤ المسلمين واغتسالهم على عهده كان من الآنية الصغار، وأنهم كانوا يغمسون أيديهم في الوضوء والغسل جميعًا فمن جعل الماء مستعملاً بذلك فقد ضيق ما وسعه الله‏.‏
فإن قيل‏:‏ فنحن نحترز من ذلك لأجل قول من ينجس الماء المستعمل‏.‏
قيل‏:‏ هذا أبعد عن السنة؛ فإن نجاسة الماء المستعمل نجاسة حسية كنجاسة الدم ونحوه ـ وإن كان إحدى الروايتين عن أبي حنيفة ـ فهو مخالف لقول سلف الأمة وأئمتها، مخالف للنصوص الصحيحة والأدلة الجلية، وليست هذه المسألة من موارد الظنون، بل هي قطعية بلا ريب، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ وصب وضوءه على جابر، وأنهم كما‏.‏
كانوا يقتتلون على وضوئه،كما يأخذون نخامته، وكما اقتسموا شعره عام حجة الوداع‏.‏
فمن نجس الماء المستعمل، كان بمنزلة من نجس شعور الآدميين، بل بمنزلة من نجس البصاق كما يروي عن سلمان‏.‏
وأيضًا، فبدن الجنب طاهر بالنص والإجماع، والماء الطاهر إذا لاقي محلاً طاهرًا لم ينجس بالإجماع‏.‏
وأما احتجاجهم بتسمية ذلك طهارة، وأنها ضد النجاسة، فضعيف من وجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ أنه لا يسلم أن كل طهارة فضدها النجاسة؛ فإن الطهارة تنقسم إلى‏:‏ طهارة خبث وحدث، طهارة عينية وحكمية‏.‏
الثاني‏:‏ أنا نسلم ذلك ونقول‏:‏ النجاسة أنواع كالطهارة، فيراد بالطهارة الطهارة من الكفر والفسوق، كما يراد بالنجاسة ضد ذلك، كقوله تعالى‏:‏ ‏{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ }‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 28‏]‏، وهذه النجاسة لا تفسد الماء بدليل أن سؤر اليهودي والنصراني طاهر، وآنيتهم التي يصنعون فيها المائعات ويغمسون فيها أيديهم طاهرة، وقد أهدي اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم شاة مشوية وأكل منها لقمة، مع علمه أنهم باشروها‏.‏ وقد أجاب صلى الله عليه وسلم يهوديا الى خبز شعير وإهالةٍ سَنِخَة‏.‏
والثاني‏:‏ يراد بالطهارة الطهارة من الحدث، وضد هذه نجاسة الحدث، كما قال أحمد ـ في بعض أجوبته لما سئل عن نحو ذلك ـ‏:‏ إنه أنجس الماء‏.‏ فظن بعض أصحابه أنه أراد نجاسة الجنب؛ فذكر ذلك رواية عنه‏.‏ وإنما أراد أحمد نجاسة الحدث، وأحمد ـ رضي الله عنه ـ لا يخالف سنة ظاهرة معلومة له قط، والسنة في ذلك أظهر من أن تخفي على أقل أتباعه، لكن نقل عنه أنه قال‏:‏ اغسل بدنك منه‏.‏ والصواب‏:‏ أن هذا لا يدل على النجاسة؛ فإن غسل البدن من الماء المستعمل لا يجب بالاتفاق، ولكن ذكروا عن أحمد ـ رحمه الله ـ في استحباب غسل البدن منه روايتين‏.‏ والرواية التي تدل على الاستحباب لأجل الشبهة‏.‏ والصحيح أن ذلك لا يجب ولا يستحب؛ لأن هذا عمل النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يغسلون ثيابهم بما يصيبهم من الوضوء‏.‏
الثالث‏:‏ يراد بالطهارة الطهارة من الأعيان الخبيثة التي هي نجسة، والكلام في هذه النجاسة بالقـول بأن الماء المستعمل صار بمنزلة الأعيان الخبيثة ـ كالدم والماء المنجس ونحو ذلك ـ هو القول الذي دلت النصوص والإجماع القديم والقياس الجلي على بطلانه‏.‏ وعلى هـذا، فجميع هـذه المياه التي في الحياض، والبرك التي في الحمامات والطرقات وعلى أبواب المساجد وفي المدارس، وغير ذلك، لا يكره التطهر بشيء منها ـ وإن سقط فيها الماء المستعمل ـ وليس للإنسان أن يتنزه عن أمر ثبتت فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرخصة لأجل شبهة وقعت لبعض العلماء ـ رضي الله عنهم أجمعين‏.‏
وقد تبين ـ بما ذكرناه ـ جواب السائل عن الماء الذي يقطر من بدن الجنب بجماع أو غيره، وتبين أن الماء طاهر، وأن التنزه عنه أو عن ملامسته للشبهة التي في ذلك بدعة مخالفة للسنة، ولا نزاع بين المسلمين أن الجنب لو مس مغتسلاً لم يقدح في صحة غسله‏.‏
وأما المسخن بالنجاسة، فليس بنجس باتفاق الأئمة إذا لم يحصل له ما ينجسه، وأما كراهته ففيها نزاع، لا كراهة فيه في مذهب الشافعي وأبي حنيفة، ومالك وأحمد في إحدي الروايتين عنهما، وكرهه مالك وأحمد في الرواية الأخري عنهما‏.‏ وهذه الكراهة لها مأخذان‏:‏
أحدهما‏:‏ احتمال وصول أجزاء النجاسة إلى الماء فيبقي مشكوكًا في طهارته شكا مستندًا إلى أمارة ظاهرة، فعلى هذا المأخذ متي كان بين الوقود والماء حاجز حصين كمياه الحمامات لم يكره؛ لأنه قد تيقن أن الماء لم تصل اليه النجاسة، وهذه طريقة طائفة من أصحاب أحمد؛ كالشريف أبي جعفر وابن عقيل وغيرهما‏.‏
والثاني‏:‏ أن سبب الكراهة كونه سخن بإيقاد النجاسة؛ واستعمال النجاسة مكروه عندهم؛ والحاصل بالمكروه مكروه‏.‏ وهذه طريقة القاضي وغيره ـ فعلى هذا إنما الكراهة إذا كان التسخين حصل بالنجاسة‏.‏ فأما إذا كان غالب الوقود طاهرًا أو شك فيه لم تكن هذه المسألة‏.‏
وأما دخان النجاسة، فهذا مبني على أصل، وهو أن العين النجسة الخبيثة إذا استحالت حتي صارت طيبة كغيرها من الأعيان الطيبة ـ مثل أن يصير ما يقع في الملاحة من دم وميتة وخنزير ملحًا طيبًا كغيرها من الملح، أو يصير الوقود رمادًا وخرشفًا وقصرملا ونحو ذلك ـ ففيه للعلماء قولان‏:‏
أحدهما‏:‏ لا يطهر، كقول الشافعي ـ وهو أحد القولين في مذهب مالك ـ وهو المشهور عن أصحاب أحمد، وإحدي الروايتين عنه‏.‏ والرواية الأخري‏:‏ أنه طاهر، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك في أحد القولين؛ وإحدي الروايتين عن أحمد‏.‏
ومذهب أهل الظاهر وغيرهم‏:‏ أنها تطهر‏.‏ وهذا هو الصواب المقطوع به؛ فإن هذه الأعيان لم تتناولها نصوص التحريم لا لفظًا ولا معني، فليست محرمة ولا في معني المحرم، فلا وجه لتحريمها، بل تتناولها نصوص الحل؛ فإنها من الطيبات‏.‏ وهي ـ أيضًا ـ في معني ما اتفق على حله، فالنص والقياس يقتضي تحليلها‏.‏
وأيضًا، فقد اتفقوا كلهم على الخمر إذا صارت خلاً بفعل الله ـ تعالى ـ صارت حلالاً طيبًا،واستحالة هذه الأعيان أعظم من استحالة الخمر، والذين فرقوا بينهما قالوا‏:‏ الخمر نجست الاستحالة فطهرت بالاستحالة بخلاف الدم والميتة ولحم الخنزير، وهذا الفرق ضعيف؛ فـإن جميع النجاسـات نجست ـ أيضًا ـ بالاستحالـة؛ فإن الدم مستحيل عن أعيان طاهـرة، وكذلك العذرة والبـول والحيـوان النجس مستحيـل عـن مادة طاهرة مخلوقة‏.‏
وأيضًا، فإن الله تعالى حرم الخبائث؛ لما قام بها من وصف الخبث، كما أنه أباح الطيبات؛ لما قام بها من وصف الطيب، وهذه الأعيان المتنازع فيها ليس فيها شيء من وصف الخبث وإنما فيها وصف الطيب‏.‏
فإذا عرف هذا، فعلى أصح القولين فالدخان والبخار المستحيل عن النجاسة طاهر؛ لأنه أجزاء هوائية ونارية ومائية؛ وليس فيه شيء من وصف الخبث‏.‏
وعلى القول الآخر، فلابد أن يعفي من ذلك عما يشق الاحتراز منه، كما يعفي عما يشق الاحتراز منه على أصح القولين‏.‏ ومن حكم بنجاسةذلك ولم يعف عما يشق الاحتراز منه فقوله أضعف الأقوال‏.‏
هذا إذا كان الوقود نجسًا‏.‏ فأما الطاهر كالخشب والقصب والشوك، فلا يؤثر باتفاق العلماء، وكذلك أرواث ما يؤكل لحمه من الإبل والبقر والغنم والخيل فإنها طاهرة في أصح قولي العلماء‏.‏ والله أعلم‏.‏
وأما الماء الذي يجري على أرض الحمام مما يفيض وينزل من أبدان المغتسلين ـ غسل النظافة وغسل الجنابة وغير ذلك ـ فإنه طاهر، وإن كان فيه من الغسل كالسدر والخطمي والأشنان ما فيه، إلا إذا علم في بعضه بول أو قيء أو غير ذلك من النجاسات، فذلك الماء الذي خالطته هذه النجاسات له حكم‏.‏ وأما ما قبله وما بعده فلا يكون له حكمه بلا نزاع، لاسيما وهذه المياه جارية بلا ريب، بل ماء الحمام الذي هو فيه إذا كان الحوض فائضًا، فإنه جاز في أصح قولي العلماء، وقد نص على ذلك أحمد وغيره من العلماء، وهو بمنزلة ما يكون في الأنهار من حفرة ونحوها، فإن هذا الماء ـ وإن كان الجريان على وجهه ـ فإنه يستخلف شيئًا فشيئًا، ويذهب ويأتي ما بعده، لكن يبطئ ذهابه بخلاف الذي يجري جميعه‏.‏
وقد تنازع العلماء في الماء الجاري على قولين‏:‏
أحدهما‏:‏ لا ينجس إلا بالتغير‏.‏ وهذا مذهب أبي حنيفة ـ مع تشديده في الماء الدائم ـ وهو ـ أيضًا ـ مذهب مالك، والقول القديم للشافعي، وهو أنص الروايتين عن أحمد واختيار محققي أصحابه‏.‏
والقول الآخر‏:‏ للشافعي، وهي الرواية الأخري عن أحمد‏:‏ أنه كالدائم فتعتبر الجرية‏.‏
والصواب‏:‏ الأول؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الدائم والجاري في نهيه عن الاغتسال فيه والبول فيه، وذلك يدل على الفرق بينهما، ولأن الجاري إذا لم تغيره النجاسة فلا وجه لنجاسته‏.‏
وقوله‏:‏ ‏(‏إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث‏)‏ إنما دل على ما دونهما بالمفهوم، والمفهوم لا عموم له فلا يدل ذلك على أن ما دون القلتين يحمل الخبث، بل إذا فرق فيه بين دائم وجار أو إذا كان في بعض الأحيان يحمل الخبث، كان الحدث معمولاً به‏.‏ فإذا كان طاهرًا بيقين وليس في نجاسته نص ولا قياس وجب البقاء على طهارته مع بقاء صفاته، وإذا كان حوض الحمام الفائض إذا كان قليلاً ووقع فيه بول أو دم أو عذرة ولم تغيره، لم ينجسه على الصحيح، فكيف بالماء الذي جميعه يجري على أرض الحمام‏؟‏ فإنه إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره لم ينجس‏.‏
وهذا يتضح بمسألة أخري،وهو‏:‏ أن الأرض ـ وإن كانت ترابًا أو غير تراب ـ إذا وقعت عليها نجاسة من بول أو عذرة أو غيرهما، فإنه إذا صب الماء على الأرض حتي زالت عين النجاسة، فالماء والأرض طاهران، وإن لم ينفصل الماء في مذهب جماهير العلماء، فكيف بالبلاط‏؟‏ ولهذا قالوا‏:‏ إن السطح إذا كانت عليه نجاسة وأصابه ماء المطر حتي أزال عينها، كان ما ينزل من الميازيب طاهرًا، فكيف بأرض الحمام‏؟‏ فإذا كان بها بول أو قيء فصب عليه ماء حتي ذهبت عينه، كان الماء والارض طاهرين ـ وإن لم يجر الماء ـ فكيف إذا جري وزال عن مكانه‏؟‏ والله أعلم‏.‏
وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع؛ وذكرنا بضعة عشر دليلاً شرعيا على طهارة بول ما يؤكل لحمه وروثه، فإذا كانت طاهرة فكيف بالمستحيل منها ـ أيضًا‏؟‏ وطهارة هذه الأرواث بينة في السنة، فلا يجعل الخلاف فيها شبهة يستحب لأجله اتقاء ما خالطته؛ إذ قد ثبت بالسنة الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يلابسونها‏.‏ وأما روث ما لا يؤكل لحمه كالبغال والحمير، فهذه نجسة عند جمهور العلماء‏.‏ وقد ذهب طائفة إلى طهارتها، وأنه لا ينجس من الأرواث والأبوال إلا بول الآدمي وعذرته؛ لكن على القول المشهور ـ قول الجمهورـ إذا شك في الروثة‏:‏ هل هي من روث ما يؤكل لحمه أو من روث ما لا يؤكل لحمه‏؟‏ ففيها قولان للعلماء، هما وجهان في مذهب أحمد‏:‏
أحدهما‏:‏ يحكم بنجاستها؛ لأن الأصل في الأرواث النجاسة‏.‏
والثاني ـ وهو الأصح ـ‏:‏ يحكم بطهارتها؛ لأن الأصل في الأعيان الطهارة‏.‏ ودعوي أن الأصل في الأرواث النجاسة ممنوع؛ فلم يدل على ذلك لا نص ولا إجماع، ومن ادعي أصلاً بلا نص ولا إجماع فقد أبطل، وإذا لم يكن معه إلا القياس فروث ما يؤكل لحمه طاهر، فكيف يدعي أن الأصل نجاسة الأرواث‏؟‏
إذا عرف ذلك، فإن تيقن أن الوقود نجس، فالدخان من مسائل الاستحالة كما تقدم‏.‏ وأما إذا تيقن طهارته فلا نزاع فيه‏.‏ وإن شك‏:‏ هل فيه نجس‏؟‏ فالأصل الطهارة، وإن تيقن أن فيه روثًا وشك في نجاسته، فالصحيح الحكم بطهارته‏.‏ وإن علم اشتماله على طاهر ونجس وقلنا بنجاسة المستحيل عنه، كان له حكمه فيما يصيب بدن المغتسل، يجوز أن يكون من الطاهر ويجوز أن يكون من النجس، فلا ينجس بالشك، كما لو أصابه بعض رماد مثل هذا الوقود، فإنا لا نحكم بنجاسة البدن بذلك وإن تيقنا أن في الوقود نجسًا، لإمكان أن يكون هذا الرماد غير نجس، والبدن طاهر بيقين، فلا نحكم بنجاسته بالشك‏.‏ وهذا إذا لم يختلط الرماد النجس بالطاهر، أو البخار النجس بالطاهر‏.‏ فأما إذا اختلطا بحيث لا يتميز أحدهما عن الآخر، فما أصاب الإنسان يكون منهما جميعًا، ولكن الوقود في مقره لا يكون مختلطًا، بل رماد كل نجاسة يبقي في حيزها‏.‏
فإن قيل‏:‏ لو اشتبه الحلال بالحرام ـ كاشتباه أخته بأجنبية، أو الميتة بالمذكاة ـ اجتنبهما جميعًا‏.‏ ولو اشتبه الماء الطاهر بالنجس، فقيل‏:‏ يتحري للطهارة إذا لم يكن النجس نجس الأصل، بأن يكون بولاً، كما قاله الشافعي‏.‏ وقيل‏:‏ لا يتحري، بل يجتنبهما كما لو كان أحدهما بولاً، وهو المشهور من مذهب أحمد وطائفة من أصحاب مالك‏.‏ وقيل‏:‏ يتحري إذا كانت الآنية أكبر، وهذا مذهب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب أحمد، وفي تقدير الكبير نزاع معروف عندهم، فهنا ـ أيضًا ـ اشتبهت الأعيان النجسة بالطاهرة فاشتبه الحلال بالحرام‏.‏
قيل‏:‏ هذا صحيح، ولكن مسألتنا ليست من هذا الباب، فإنه إذا اشتبه الحلال بالحرام اجتنبهما؛ لأنه إذا استعملهما لزم استعمال الحرام قطعًا وذلك لا يجوز، فهو بمنزلة اختلاط الحلال بالحرام على وجه لا يمكن تمييزه كالنجاسة إذا ظهرت في الماء، وإن استعمل أحدهما من غير دليل شرعي كان ترجيحًا بلا مرجح؛ وهما مستويان في الحكم، فليس استعمال هذا بأولي من هذا، فيجتنبان جميعًا‏.‏
وأما اشتباه الماء الطاهر بالنجس، فإنما نشأ فيه النزاع؛ لأن الطهارة بالطهور واجبة، وبالنجس حرام، فقد اشتبه واجب بحرام‏.‏ والذين منعوا التحري قالوا‏:‏ استعمال النجس حرام‏.‏ وأما استعمال الطهور، فإنما يجب مع العلم والقدرة، وذلك منتف هنا؛ ولهذا تنازعوا‏:‏ هل يحتاج إلى أن يعدم الطهور بخلط أوراقه‏؟‏ على قولين مشهورين؛ أصحهما أنه لا يجب؛ لأن الجهل كالعجز، والشافعي ـ رحمه الله ـ إنما جوز التحري إذا كان الأصل فيهما الطهارة؛ لأنه حينئذ يكون قد استعمل ما أصله طاهر وقد شك في تنجسه، فيبقي الأمر فيه على استصحاب الحال‏.‏ والذين نازعوه قالوا‏:‏ ما صار نجسًا بالتغير فهو بمنزلة نجس الأصل، وقد زال الاستصحاب بيقين النجاسة، كما لو حرمت إحدي امرأتيه برضاع أو طلاق أو غيرهما، فإنه بمنزلة من تكون محرمة الأصل عنده‏.‏ ومسألة اشتباه الحلال بالحرام ذات فروع متعددة‏.‏
وأما إذا اشتبه الطاهر بالنجس وقلنا‏:‏ يتحري، أو لا يتحري، فإنه إذا وقع على بدن الإنسان أو ثوبه أو طعامه شيء من أحدهما لا ينجسه؛ لأن الأصل الطهارة وما ورد عليه مشكوك في نجاسته، ونحن منعنا من استعمال أحدهما؛ لأنه ترجيح بلا مرجح‏.‏ فأما تنجس ما أصابه ذلك فلا يثبت بالشك‏.‏ نعم، لو أصابا ثوبين حكم بنجاسة أحدهما،ولو أصابا بدنين فهل يحكم بنجاسة أحدهما‏؟‏ هذا مبني على ما إذا تيقن الرجلان أن أحدهما أحدث أو أن أحدهما طلق امرأته، وفيه قولان‏:‏
أحدهما‏:‏ أنه لا يجب على واحد منهما طهارة ولا طلاق، كما هو مذهب الشافعي وغيره، وأحد القولين في مذهب أحمد؛ لأن الشك في رجلين لا في واحد، فكل واحد منهما له أن يستصحب حكم الأصل في نفسه‏.‏
والثاني‏:‏ أن ذلك بمنزلة الشخص الواحد، وهو القول الآخر في مذهب أحمد، وهو أقوي؛ لأن حكم الإيجاب أو التحريم يثبت قطعًا في حق أحدهما، فلا وجه لرفعه عنهما جميعًا‏.‏
وسر ما ذكرناه‏:‏ أنه إذا اشتبه الطاهر بالنجس فاجتنابهما جميعًا واجب؛ لأنه يتضمن لفعـل المحـرم، واجتناب أحدهما؛ لأن تحليله دون الآخر تحكم‏.‏ ولهذا لما رخص من رخص في بعض الصور عضده بالتحري، أو به واستصحابه الحلال‏.‏ فأما ما كان حلالاً بيقين، ولم يخالطـه ما حكم بأنه نجس فكيف ينجس‏؟‏ ولهذا لو تيقن أن في المسجد أو غيره بقعـة نجسـة، ولم يعلم عينها، وصلي في مكـان منـه ولم يعلـم أنه المتنجس، صحت صـلاته؛ لأنه كـان طاهرًا بيقين ولم يعلم أنه نجس‏.‏ وكذلك لو أصابه شيء من طين الشوارع لم يحكم بنجاسـته وإن علم أن بعض طـين الشوارع نجس، ولا يفـرق في هـذا بين العدد المنحصر وغير المنحصر، وبين القلتين والكثير، كما قيل مثل ذلك في اشتباه الأخت بالأجنبية؛لأنه هناك اشتبه الحلال بالحرام،وهنا شك في طريان التحريم على الحلال‏.‏
وإذا شك في النجاسة‏:‏ هل أصابت الثوب أو البدن‏؟‏ فمن العلماء من يأمر بنضحه، ويجعل حكم المشكوك فيه النضح، كما يقوله مالك‏.‏ ومنهم من لا يوجب ذلك‏.‏ إذا احتاط ونضح المشكوك فيه كان حسنًا كما روي في نضح أنس للحصير الذي اسود من طول ما لبس، ونضح عمر ثوبه، ونحو ذلك‏.‏ والله أعلم‏.