باب الآنيـة : سئل: عن جلود الحمر وجلد ما لا يؤكل لحمه والميتة‏؟
 
وسئل‏:‏ عن جلود الحمر، وجلد ما لا يؤكل لحمه، والميتة‏:‏ هل تطهر بالدباغ أم لا‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏
فأجاب‏:‏
الحمد لله رب العالمين، أما طهارة جلود الميتة بالدباغ ففيها قولان مشهوران للعلماء في الجملة‏:‏
أحدهما‏:‏ أنها تطهر بالدباغ، وهو قول أكثر العلماء، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد في إحدي الروايتين‏.‏
والثاني‏:‏ لا تطهر، وهو المشهور في مذهب مالك؛ ولهذا يجوز استعمال المدبوغ في الماء دون المائعات؛ لأن الماء لا ينجس بذلك، وهو أشهر الروايتين عن أحمد ـ أيضًا ـ اختارها أكثر أصحابه، لكن الرواية الأولي هي آخر الروايتين عنه، كما نقله الترمذي عن أحمد بن الحسن الترمذي عنه أنه كان يذهب إلى حديث ابن عُكَيْم ثم ترك ذلك بآخرة‏.‏ وحجة هذا القول شيئان‏:‏
أحدهما‏:‏ أنهم قالوا‏:‏ هي من الميتة ولم يصح في الدباغ شيء، ولهذا لم يرو البخاري ذكر الدباغ في حديث ميمونة من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وطعن هؤلاء فيما رواه مسلم وغيره؛ إذ كانوا أئمة لهم في الحديث اجتهاد‏.‏ وقالوا‏:‏ روي ابن عُيَيْنة الدباغ عن الزهري ـ والزهري كان يجوز استعمال جلود الميتة بلا دباغ ـ وذلك يبين أنه ليس في روايته ذكر الدباغ، وتكلموا في ابن وعلة‏.‏
والثاني‏:‏ أنهم قالوا‏:‏ أحاديث الدباغ منسوخة بحديث ابن عُكَيْم، وهو قوله صلي الله تعالى عليه وسلم فيما كتب إلى جهينة‏:‏ ‏(‏كنت رخصت في جلود الميتة فإذا أتاكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب‏)‏‏.‏ فكلا هاتين الحجتين مأثورة عن الإمام أحمد نفسه في جوابه ومناظراته في الرواية الأولي المشهورة‏.‏
وقد احتج القائلون بالدباغ بما في الصحيحين عن عبد الله بن عباس‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميتة فقال‏:‏ ‏(‏هلا استمتعتم بإهابها‏؟‏‏!‏‏)‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، إنها ميتة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏إنما حرم من الميتة أكلها‏)‏‏.‏ وفي رواية لمسلم‏:‏ ‏(‏ألا أخذوا إهابها، فدبغوه فانتفعوا به‏)‏‏.‏ وعن سودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت‏:‏ ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها، فما زلنا ننبذ فيه حتي صار شنًا‏.‏ وعن ابن عباس قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إذا دبغ الإهاب فقد طهر‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ وفي رواية له عن عبد الرحمن بن وَعْلَة‏:‏ أنا نكون بالمغرب ومعنا البربر والمجوس، نؤتى بالكبش قد ذبحوه ونحن لا نأكل ذبائحهم، ونؤتي بالسقاء يجعلون فيه الدلوك‏؟‏ فقال ابن عباس‏:‏ قد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال‏:‏ ‏(‏دباغه طهوره‏)‏‏.‏
وعن عائشة رضي الله عنها‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت‏.‏ رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي‏.‏ وفي رواية عن عائشة قالت‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جلود الميتة، فقال‏:‏ ‏(‏دباغها طهورها‏)‏‏.‏ رواه الإمام أحمد والنسائي‏.‏ وعن سلمة بن المحبق ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر ببيت بفنائه قربة معلقة فاستقي، فقيل‏:‏ إنها ميتة‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏ذكاة الأديم دباغه‏)‏‏.‏ رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي‏.‏
وأما حديث ابن عُكَيْم فقد طعن بعض الناس فيه بكون حامله مجهولاً، ونحو ذلك مما لا يسوغ رد الحديث به‏.‏ قال عبد الله بن عُكَيْم‏:‏ أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بشهر أو شهرين‏:‏ ‏(‏ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب‏)‏‏.‏ رواه الإمام أحمد‏.‏ وقال‏:‏ ما أصلح إسناده‏!‏ وأبو داود وابن ماجه والنسائي والترمذي‏.‏ وقال‏:‏حديث حسن‏.‏ وأجاب بعضهم عنه بأن الإهاب اسم للجلد قبل الدباغ، كما نقل ذلك النضر بن شميل وغيره من أهل اللغة‏.‏ وأما بعد الدبغ فإنما هو أديم، فيكون النهى عن استعمالها قبل الدبغ‏.‏ فقال المانعون‏:‏ هذا ضعيف، فإن في بعض طرقه‏:‏ كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في أرض جهينة ‏(‏إني كنت رخصت لكم في جلود الميتة، فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب‏)‏‏.‏ رواه الطبراني في المعجم الأوسط من رواية فضالة بن مفضل بن فضالة المصري‏.‏ وقد ضعفه أبو حاتم الرازي، لكن هو شديد في التزكية‏.‏ وإذا كان النهى بعد الرخصة فالرخصة إنما كانت في المدبوغ‏.‏
وتحقيق الجواب أن يقال‏:‏ حديث ابن عُكَيْم ليس فيه نهى عن استعمال المدبوغ‏.‏ وأما الرخصة المتقدمة، فقد قيل‏:‏ إنها كانت للمدبوغ وغيره، ولهذا ذهب طائفة ـ منهم الزهري وغيره ـ إلى جواز استعمال جلود الميتة قبل الدباغ تمسكًا بقوله المطلق في حديث ميمونة، وقوله‏:‏ ‏(‏إنما حرم من الميتة أكلها‏)‏، فإن هذا اللفظ يدل على التحريم، ثم لم يتناول الجلد‏.‏ وقد رواه الإمام أحمد في المسند عن ابن عباس قال‏:‏ ماتت شاة لسَوْدَة بنت زَمْعة فقالت‏:‏ يا رسول الله، صلي الله عليك وسلم، ماتت فلانة ـ تعني‏:‏ الشاة ـ فقال‏:‏ ‏(‏فلولا أخذتم مسكها‏؟‏‏!‏‏)‏ فقالت‏:‏ آخذ مسك شاة قد ماتت‏؟‏ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما قال‏:‏ ‏{قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ }‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏، وإنكم لا تطعمونه، إن تدبغوه تنتفعوا به‏)‏، فأرسلت اليها فسلخت مسكها فدبغته، فاتخذت منه قربة حتي تخرقت عندها‏.‏
فهذا الحديث يدل على أن التحريم لم يتناول الجلد، وإنما ذكر الدباغ لإبقاء الجلد وحفظه، لا لكونه شرطًا في الحل‏.‏ وإذا كان كذلك فتكون الرخصة لجهينة في هذا، والنسخ عن هذا، فإن الله ـ تعالى ـ ذكر تحريم الميتة في سورتين مكيتين‏:‏ الأنعام والنحل‏.‏ ثم في سورتين مدنيتين‏:‏ البقرة والمائدة، والمائدة من آخر القرآن نزولاً كما روي‏:‏ ‏(‏المائدة آخر القرآن نزولاً، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها‏)‏، وقد ذكر الله فيها من التحريم ما لم يذكره في غيرها، وحرم النبي صلى الله عليه وسلم أشياء مثل‏:‏ أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير‏.‏ وإذا كان التحريم زاد بعد ذلك على ما في السورة المكية التي استندت اليه الرخصة المطلقة، فيمكن أن يكون تحريم الانتفاع بالعصب والإهاب قبل الدباغ ثبت بالنصوص المتأخرة، وأما بعد الدباغ فلم يحرم ذلك قط، بل بين أن دباغه طهوره وذكاته، وهذا يبين أنه لا يباح بدون الدباغ‏.‏
وعلى هذا القول، فللناس فيما يطهره الدباغ أقوال‏:‏
قيل‏:‏ إنه يطهر كل شيء حتي الحمير‏.‏ كما هو قول أبي يوسف وداود‏.‏
وقيل‏:‏ يطهر كل شيء سوي الحمير كما هو قول أبي حنيفة‏.‏
وقيل‏:‏ يطهر كل شيء إلا الكلب والحمير، كما هو قول الشافعي، وهو أحد القولين في مذهب أحمد على القول بتطهير الدباغ، والقول الآخر في مذهبه ـ وهو قول طوائف من فقهاء الحديث ـ أنه إنما يطهر ما يباح بالذكاة، فلا يطهر جلود السباع‏.‏
ومأخذ التردد‏:‏ أن الدباغ هل هو كالحياة فيطهر ما كان طاهرًا في الحياة، أو هو كالذكاة فيطهر ما طهر بالذكاة‏؟‏ والثاني أرجح‏.‏
ودليل ذلك‏:‏ نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن جلود السباع، كما روي عن أسامة بن عمير الذهلي أن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ نهى عن جلود السباع‏.‏ رواه أحمد وأبو داود والنسائي‏.‏ زاد الترمذي‏:‏ أن تفرش‏.‏ وعن خالد بن معدان قال‏:‏ وفد المقدام بن معد يكَرب على معاوية فقال‏:‏ أنشدك بالله، هل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود السباع والركوب عليها‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ رواه أبو داود والنسائي‏.‏ وهذا لفظه‏.‏ وعن أبي ريحانة‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ركوب النمور‏.‏ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه‏.‏ وروي أبو داود والنسائي عن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر‏)‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏ وفي هذا القول جمع بين الأحاديث كلها‏.‏ والله أعلم‏.‏