باب الآنيـة : فصـــل: حكم لبن الميتة وأنفحتها
 
فصـــل
وأما لبن الميتة وأنفحتها ففيه قولان مشهوران للعلماء‏:‏
أحدهما‏:‏ أن ذلك طاهر‏.‏ كقول أبي حنيفة وغيره، وهو إحدي الروايتين عن أحمد‏.‏
والثاني‏:‏ أنه نجس، كقول مالك والشافعي، والرواية الأخري عن أحمد‏.‏
وعلى هذا النزاع انبني نزاعهم في جبن المجوس، فإن ذبائح المجوس حرام عند جماهير السلف والخلف، وقد قيل‏:‏ إن ذلك مجمع عليه بين الصحابة، فإذا صنعوا جبنًا ـ والجبن يصنع بالأنفحة ـ كان فيه هذان القولان‏.‏
والأظهر أن جبنهم حلال، وأن أنفحة الميتة ولبنها طاهر، وذلك لأن الصحابة لما فتحوا بلاد العراق أكلوا جبن المجوس، وكان هذا ظاهرًا شائعًا بينهم، وما ينقل عن بعضهم من كراهة ذلك ففيه نظر، فإنه من نَقْل بعض الحجازيين وفيه نظر‏.‏ وأهل العراق كانوا أعلم بهذا، فإن المجوس كانوا ببلادهم ولم يكونوا بأرض الحجاز‏.‏
ويدل على ذلك أن سلمان الفارسي كان هو نائب عمر بن الخطاب على المدائن، وكان يدعو الفرس إلى الإسلام، وقد ثبت عنه‏:‏ أنه سئل عن شيء من السمن والجبن والفراء‏؟‏ فقال‏:‏ الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفي عنه‏.‏ وقد رواه أبو داود مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ومعلوم أنه لم يكن السؤال عن جبن المسلمين وأهل الكتاب، فإن هذا أمر بَيِّن، وإنما كان السؤال عن جبن المجوس، فدل ذلك على أن سلمان كان يفتي بحِلِّها، وإذا كان روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم انقطع النزاع بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
وأيضًا، فاللبن والأنفحة لم يموتا، وإنما نَجَّسَهما مَنْ نجسهما لكونهما في وعاء نجس، فيكون مائعًا في وعاء نجس، فالتنجيس مبني على مقدمتين‏:‏ على أن المائع لاقي وعاء نجسًا، وعلى أنه إذا كان كذلك صار نجسًا‏.‏
فيقال أولاً‏:‏ لا نسلم أن المائع ينجس بملاقاة النجاسة، وقد تقدم أن السنة دلت على طهارته لا على نجاسته‏.‏
ويقال ثانيًا‏:‏ إن الملاقاة في الباطن لا حكم لها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 66‏]‏، ولهذا يجوز حمل الصبي الصغير في الصلاة مع ما في بطنه‏.‏ والله أعلم‏