باب الوضوء : سئل:عن مسح الرأس في الوضوء؟
 
بَاب الوضُوء
سئل ـ رحمه اللّه ـ عن مسح الرأس في الوضوء‏:‏
من العلماء من أوجب جميع الرأس ومنهم من أوجب ربع الرأس، ومنهم من قال‏:‏ بعض شعره يجزئ‏:‏ فما ينبغي أن يكون الصحيح من ذلك‏؟‏ بينوا لنا ذلك‏!‏
فأجاب‏:‏
الحمد للّه، اتفق الأئمة كلهم على أن السنة مسح جميع الرأس، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة والحسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الذين نقلوا وضوءه لم ينقل عنه أحد منهم أنه اقتصر على مسح بعض رأسه، وما يذكره بعض الفقهاء ـ كالقُدُوري في أول مختصره وغيره ـ أنه توضأ ومسح على ناصيته‏:‏ إنما هو بعض الحديث الذي في الصحيح من حديث المغيرة ابن شعبة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ عام تبوك ومسح على ناصيته ‏.‏
ولهذا ذهب طائفة من العلماء إلى جواز مسح بعض الرأس، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقول في مذهب مالك وأحمد‏.‏ وذهب آخرون إلى وجوب مسح جميعه، وهو المشهور من مذهب مالك وأحمد وهذا القول هو الصحيح، فإن القرآن ليس فيه ما يدل على جواز مسح بعض الرأس،فإن قوله تعالى‏:‏ ‏{وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ}‏ نظير قوله‏:‏‏{فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، لفظ المسح في الآيتين، وحرف الباء في الآيتين، فإذا كانت آية التيمم لا تدل على مسح البعض مع أنه بدل عن الوضوء، وهو مسح بالتراب لا يشرع فيه تكرار، فكيف تدل على ذلك آية الوضوء مع كون الوضوء هو الأصل، والمسح فيه بالماء المشروع فيه التكرار‏؟‏ هذا لا يقوله من يعقل ما يقول‏.‏
ومن ظن أن من قال بإجزاء البعض؛ لأن الباء للتبعيض، أو دالة على القدر المشترك، فهو خطأ أخطأه على الأئمة، وعلى اللغة، وعلى دلالة القرآن‏.‏ والباء للإلصاق وهي لا تدخل إلا لفائدة، فإذا دخلت على فعل يتعدي بنفسه أفادت قدراً زائداً، كما في قوله‏:‏ ‏{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 6‏]‏، فإنه لو قيل‏:‏ يشرب منها لم تدل على الري، فضمن يشرب معني يروي، فقيل‏:‏ ‏{يَشْرَبُ بِهَا}‏ فأفاد ذلك أنه شرب يحصل معه الري‏.‏
وباب تضمين الفعل معني فعل آخر حتى يتعدي بتعديته ـ كقوله‏:‏ ‏{لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ}‏ ‏[‏ص‏:‏ 24‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 77‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 49‏]‏، وأمثال ذلك ـ كثير في القرآن، وهو يغني عند البصريين من النحاة عما يتكلفه الكوفيون من دعوي الاشتراك في الحروف‏.‏
وكذلك المسح في الوضوء والتيمم لو قال‏:‏ فامسحوا رؤوسكم أو وجوهكم، لم تدل على ما يلتصق بالمسح، فإنك تقول‏:‏ مسحت رأس فلان ـ وإن لم يكن بيدك بلل ـ فإذا قيل‏:‏ فامسحوا برؤوسكم وبوجوهكم، ضَمَّن المسح معني الإلصاق، فأفاد أنكم تلصقون برؤوسكم وبوجوهكم شيئاً بهذا المسح، وهذا يفيد في آية التيمم أنه لابد أن يلتصق الصعيد بالوجه واليد، ولهذا قال‏:‏ ‏{فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وإنما مأخذ من جوز البعض ـ الحديث‏.‏
ثم تنازعوا‏:‏ فمنهم من قال‏:‏ يجزئ قدر الناصية ـ كرواية عن أحمد وقول بعض الحنفية‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ يجزئ الأكثر ـ كرواية عن أحمد وقول بعض المالكية‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ يجزئ الربع‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ قدر ثلاث أصابع ـ وهما قولان للحنفية‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ ثلاث شعرات أو بعضها‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ شعرة أوبعضها ـ وهما قولان للشافعية‏.‏
وأما الذين أوجبوا الاستيعاب ـ كمالك وأحمد في المشهور من مذهبهما ـ فحجتهم ظاهر القرآن‏.‏ وإذا سَلَّم لهم منازعوهم وجوب الاستيعاب في مسح التيمم، كان في مسح الوضوء أولي وأحري لفظاً ومعني‏.‏ ولا يقال‏:‏ التيمم وجب فيه الاستيعاب؛ لأنه بدل عن غسل الوجه‏.‏ واستيعابه واجب؛ لأن البدل إنما يقوم مقام المبدل في حكمه لا في وصفه؛ ولهذا المسح على الخفين بدل عن غسل الرجلين ولا يجب فيه الاستيعاب مع وجوبه في الرجلين‏.‏ وأيضاً للسنة المستفيضة من علم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏
وأما حديث المغيرة بن شعبة فعند أحمد وغيره من فقهاء الحديث يجوز المسح على العمامة للأحاديث الصحيحة الثابتة في ذلك، وإذا مسح عنده بناصيته وكمل الباقي بعمامته أجزأه ذلك عنده بلا ريب‏.‏
وأما مالك، فلا جواب له عن الحديث إلا أن يحمله على أنه كان معذوراً لا يمكنه كشف الرأس فتيمم على العمامة للعذر‏.‏ ومن فعل ما جاءت به السنة من المسح بناصيته وعمامته أجزأه مع العذر بلا نزاع، وأجزأه بدون العذر عند الثلاثة، ومسح الرأس مرة مرة يكفي بالاتفاق كما يكفي تطهير سائر الأعضاء مرة‏.‏
وتنازعوا في مسحه ثلاثاً‏:‏ هل يستحب‏؟‏ فمذهب الجمهور‏:‏ أنه لا يستحب ـ كمالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه‏.‏
وقال الشافعي وأحمد ـ في رواية عنه ـ‏:‏ يستحب؛ لما في الصحيح أنه توضأ ثلاثاً ثلاثاً وهذا عام‏.‏ وفي سنن أبي داود‏:‏ أنه مسح برأسه ثلاثاً، ولأنه عضو من أعضاء الوضوء فسن فيه الثلاث كسائر الأعضاء‏.‏ والأول أصح‏.‏ فإن الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين أنه كان يمسح رأسه مرة واحدة؛ولهذا قال أبو داود السجستاني‏:‏ أحاديث عثمان الصحاح تدل على أنه مسح مرة واحدة‏.‏ وبهذا يبطل ما رواه من مسحه ثلاثاً، فإنه يبين أن الصحيح أنه مسح رأسه مرة وهذا المفصل يقضي على المجمل، وهو قوله‏:‏ ‏(‏توضأ ثلاثاً ثلاثا، كما أنه لما قال‏:‏ ‏(‏إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول‏)‏ كان هذا مجملا، وفسره حديث ابن عمر أنه يقول عند الحيعلة‏:‏ ‏(‏لاحول ولا قوة إلا باللّه‏)‏، فإن الخاص المفسر يقضي على العام المجمل‏.‏
وأيضاً، فإن هذا مسح، والمسح لا يسن فيه التكرار، كمسح الخف والمسح في التيمم ومسح الجبيرة، وإلحاق المسح بالمسح أولي من إلحاقه بالغسل؛ لأن المسح إذا كرر كان كالغسل‏.‏ وما يفعله الناس من أنه يمسح بعض رأسه بل بعض شعره ثلاث مرات، خطأ مخالف للسنة المجمع عليها من وجهين‏:‏ من جهة مسحه بعض رأسه، فإنه خلاف السنة باتفاق الأئمة‏.‏ ومن جهة تكراره، فإنه خلاف السنة على الصحيح ومن يستحب التكرارـ كالشافعي وأحمد في قول ـ لا يقولون‏:‏ امسح البعض وكرره، بل يقولون‏:‏ امسح الجميع وكرر المسح‏.‏
ولا خلاف بين الأئمة أن مسح جميع الرأس مرة واحدة أولي من مسح بعضه ثلاثاً، بل إذا قيل‏:‏ إن مسح البعض يجزئ وأخذ رجل بالرخصة كيف يكرر المسح‏.‏ ثم المسلمون متنازعون في جواز الاقتصار على البعض وفي استحباب تكرار المسح، فكيف يعدل إلى فعل لا يجزئ عند أكثرهم ولا يستحب عند أكثرهم، ويترك فعل يجزئ عند جميعهم وهو الأفضل عند أكثرهم، واللّه أعلم‏.‏