باب المسح على الخفين : حكم إذا لم يتمكن من نزع الخف والوضوء بعد انقضاء مدة المسح
 
وَقَالَ ـ رَحمَهُ الله‏:‏
لما ذهبت على البريد وجدَّ بنا السير وقد انقضت مدة المسح، فلم يمكن النزع والوضوء إلا بانقطاع عن الرفقة، أو حبسهم على وجه يتضررون بالوقوف، فغلب على ظنى عدم التوقيت عند الحاجة كما قلنا في الجبيرة، ونزلت حديث عمر وقوله‏:‏ لعقبة بن عامر‏:‏ ‏(‏أصبت السنة‏)‏ على هذا توفيقًا بين الآثار ثم رأيته مصرحًا به في مغازى ابن عائد‏:‏ أنه كان قد ذهب على البريد كما ذهبت لما فتحت دمشق، ذهب بشيرًا بالفتح من يوم الجمعة إلى يوم الجمعة، فقال له عمر‏:‏ منذ كم لم تنزع خفيك‏؟‏ فقال‏:‏ منذ يوم الجمعة، قال‏:‏ أصبت، فحمدت الله على الموافقة‏.‏
وهذا أظنه أحد القولين لأصحابنا، وهو‏:‏ أنه إذا كان يتضرر بنزع الخف، صار بمنزلة الجبيرة‏.‏ وفي القول الآخر‏:‏ أنه إذا خاف الضرر بالنزع تيمم ولم يمسح، وهذا كالروايتين لنا إذا كان جرحه بارزًا يمكنه مسحه بالماء دون غسله فهل يمسحه أو يتيمم له‏؟‏ على روايتين‏.‏ والصحيح المسح؛ لأن طهارة المسح بالماء أولى من طهارة المسح بالتراب، ولأنه إذا جاز المسح على حائل العضو فعليه أولى‏.‏
وذلك أن طهارة المسح على الخفين طهارة اختيارية، وطهارة الجبيرة طهارة اضطرارية‏.‏ فماسح الخف لما كان متمكنًا من الغسل والمسح وقت له المسح، وماسح الجبيرة لما كان مضطرًا إلى مسحها لم يوقت، وجاز في الكبرى، فالخف الذي يتضرر بنزعه جبيرة‏.‏ وضرره يكون بأشياء‏:‏ إما أن يكون في ثلج وبرد عظيم، إذا نزعه ينال رجليه ضرر، أو يكون الماء باردًا لا يمكن معه غسلهما، فإن نزعهما تيمم، فمسحهما خير من التيمم، أو يكون خائفًا ـ إذا نزعهما وتوضأ ـ من عدو أو سبع، أو انقطاع عن الرفقة في مكان لا يمكنه السير وحده، ففي مثل هذه الحال له ترك طهارة الماء إلى التيمم، فلأن يجوز ترك طهارة الغسل إلى المسح أولى‏.‏ ويلحق بذلك إذا كان عادمًا للماء ومعه قليل يكفي لطهارة المسح لا لطهارة الغسل، فإن نزعهما تيمم، فالمسح عليهما خير من التيمم‏.‏
وأصل ذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يمسح المقيم يومًا وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن‏)‏ منطوقه إباحة المسح هذه المدة، والمفهوم لا عموم له، بل يكفي ألا يكون المسكوت كالمنطوق، فإذا خالفه في صورة حصلت المخالفة، فإذا كان فيما سوى هذه المدة لا يباح مطلقًا، بل يحظر تارة ويباح أخرى حصل العمل بالحديث، وهذا واضح، وهى مسألة نافعة جدًا‏.‏
فإنه من باشر الأسفار ـ في الحج والجهاد والتجارة وغيرهما ـ رأي أنه في أوقات كثيرة لا يمكن نزع الخفين والوضوء إلا بضرر يباح التيمم بدونه، واعتبر ذلك بما لو انقضت المدة والعدو بإزائه، ففائدة النزع الوضوء على الرجلين، فحيث يسقط الوضوء على الرجلين يسقط النزع وقد يكون الوضوء واجبًا لو كانا بارزتين، لكن مع استتارهما يحتاج إلى قلعهما وغسل الرجلين ثم لبسهما ثانيًا إذا لم تتم مصلحته إلا بذلك بخلاف ما إذا استمر فإن طهارته باقية، وبخلاف ما إذا توضأ ومسح عليهما، فإن ذلك قد لا يضره‏.‏
ففي هذين الموضعين لا يتوقت إذا كان الوضوء ساقطًا فينتقل إلى التيمم، فإن المسح المستمر أولى من التيمم، وإذا كان في النزع واللبس ضرر يبيح التيمم، فلأن يبيح المسح أولى‏.‏ والله أعلم ‏.‏