باب نواقض الوضوء : سئل: عن مس النساء‏؟‏
 
وَسُئِلَ عن مس النساء‏:‏ هل ينقض الوضوء أم لا‏؟‏
فأجاب‏:‏
فيه ثلاثة أقوال للفقهاء‏:‏
أحدها‏:‏ أنه لا ينقض بحال، كقول أبي حنيفة وغيره‏.‏
والثاني‏:‏ أنه إن كان له شهوة نقض وإلا فلا، وهو قول مالك وغيره من أهل المدينة‏.‏
والثالث‏:‏ ينقض في الجملة وإن لم يكن بشهوة، وهو قول الشافعي وغيره‏.‏
وعن أحمد بن حنبل ثلاث روايات كالأقوال الثلاثة، لكن المشهور عنه قول مالك‏.‏
والصحيح في المسألة أحد قولين؛ إما الأول وهو عدم النقض مطلقًا، وإما القول الثاني وهو النقض إذا كان بشهوة‏.‏ وأما وجوب الوضوء من مجرد مس المرأة لغير شهوة فهو أضعف الأقوال، ولا يعرف هذا القول عن أحد من الصحابة، ولا روى أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر المسلمين أن يتوضؤوا من ذلك؛ مع أن هذا الأمر غالب لا يكاد يسلم فيه أحد في عموم الأحوال؛ فإن الرجل لايزال يناول امرأته شيئًا وتأخذه بيدها، وأمثال ذلك مما يكثر ابتلاء الناس به، فلو كان الوضوء من ذلك واجبًا، لكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بذلك مرة بعد مرة ويشيع ذلك، ولو فعل لنقل ذلك عنه ولو بأخبار الآحاد، فلما لم ينقل عنه أحد من المسلمين أنه أمر أحدًا من المسلمين بشيء من ذلك ـ مع عموم البلوى به ـ علم أن ذلك غير واجب‏.‏
وأيضًا،فلو أمرهم بذلك لكانوا ينقلونه ويأمرون به‏.‏ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه أمر بالوضوء من مجرد المس العارى عن شهوة، بل تنازع الصحابة في قوله تعالى‏:‏ ‏{أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، فكان ابن عباس وطائفة يقولون‏:‏ الجماع، ويقولون‏:‏ الله حيى كريم يُكَنِّى بما يشاء عما شاء‏.‏ وهذا أصح القولين‏.‏
وقد تنازع عبد الله بن عمر والعرب وعطاء بن أبي رباح والموالي‏:‏ هل المراد به الجماع أو ما دونه‏؟‏ فقالت العرب‏:‏ هو الجماع‏.‏ وقالت‏:‏ الموالي هو ما دونه‏.‏ وتحاكموا إلى ابن عباس فصوب العرب وخطَّأ الموالي‏.‏
وكان ابن عمر يقول‏:‏ قُبلة الرجل امرأته ومسها بيده من الملامسة،وهذا قول مالك وغيره من أهل المدينة‏.‏ ومن الناس من يقول‏:‏ إن هذا قول ابن عمر وابن مسعود؛ لكونهما كانا لا يريان التيمم للجنب، فيتأولان الآية على نقض الوضوء، ولكن قد صرح في الآية أن الجنب يتيمم‏.‏
وقد ناظر أبو موسى ابن مسعود بالآية فلم يجبه ابن مسعود بشيء وقد ذكر ذلك البخاري في صحيحه، فَعُلِم أن ذلك كان من عدم استحضاره لموجب الآية‏.‏
ومعلوم أن الصحابة الأكابر الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم لو كانوا يتوضؤون من مس نسائهم مطلقًا، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بذلك، لكان هذا مما يعلمه بعض الصغار، كابن عمر وابن عباس وبعض التابعين، فإذا لم ينقل ذلك صاحب ولا تابع، كان ذلك دليلا على أن ذلك لم يكن معروفًا بينهم‏.‏ وإنما تكلم القوم في تفسير الآية، والآية إن كان المراد بها الجماع فلا كلام، وإن كان أريد بها ما هو أعم من الجماع فيقال‏:‏ حيث ذكر الله ـ تعالى ـ في كتابه مس النساء ومباشرتهن ونحو ذلك، فلا يريد به إلا ما كان على وجه الشهوة واللذة، وأما اللمس العارى عن ذلك فلا يعلق الله به حكما من الأحكام أصلا، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏، فنهى العاكف عن مباشرة النساء مع أن العلماء يعلمون أن المعتكف لو مس امرأته بغير شهوة لم يحرم ذلك عليه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه كان يدنى رأسه إلى عائشة ـ رضي الله عنها ـ فترجله وهو معتكف‏.‏ ومعلوم أن ذلك مظنة مسه لها ومسها له‏.‏
وأيضًا، فالإحرام أشد من الاعتكاف ولو مسته المرأة لغير شهوة لم يأثم بذلك ولم يجب عليه دم، وهذا الوجه يستدل به من وجهين‏:‏ من جهة ظاهر الخطاب، ومن جهة المعنى والاعتبار‏.‏ فإن خطاب الله ـ تعالى ـ في القرآن بذكر اللمس والمس والمباشرة للنساء ونحو ذلك لا يتناول ما تجرد عن شهوة أصلا، ولم يتنازع المسلمون في شيء من ذلك إلا في آية الوضوء، والنزاع فيها متأخر، فيكون ما أجمعوا عليه قاضيًا على ما تنازع فيه متأخروهم‏.‏
وأما طريق الاعتبار فإن اللمس المجرد لم يعلق الله به شيئا من الأحكام، ولا جعله موجبًا لأمر، ولا منهيًا عنه في عبادة ولا اعتكاف ولا إحرام، ولا صلاة ولا صيام، ولا غير ذلك‏.‏ ولا جعله ينشر حرمة المصاهرة، ولا يثبت شيئًا غير ذلك، بل هذا في الشرع كما لو مس المرأة من وراء ثوبها ونحو ذلك من المس الذي لم يجعله الله سببًا لإيجاب شيء ولا تحريم شيء‏.‏
وإذا كان كذلك، كان إيجاب الوضوء بهذا مخالفًا للأصول الشرعية المستقرة، مخالفًا للمنقول عن الصحابة، وكان قولا لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، بل المعلوم من السنة مخالفته، بل هذا أضعف ممن جعل المنى نجسًا، فإن القول بنجاسة المنى ضعيف، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدًا بغسل ما يصيب بدنه أو ثيابه من المنى مع كثرة ما كان يصيب الناس من ذلك في حياته؛ وقد أمر الحائض أن تغسل ما أصاب ثوبها من الدم مع أن ذلك قليل بالنسبة لإصابة المنى للرجال، ولو كان ذلك واجبًا لبينه، بل كان يغسل ويمسح تقذرًا، كما كانت عائشة ـ رضي الله عنها ـ تارة تغسله وتارة تفركه من ثوبه صلى الله عليه وسلم‏)‏‏.‏
وكان سعد بن أبي وقاص وابن عباس يقولان‏:‏ أمطه عنك ولو بأذخرة فإنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، وكانت عمرة تغسله من ثوبه‏.‏ فإن كان في اعتقاده نجاسة المنى، فهذا نزاع بين الصحابة، والسنة تفصل بينهم‏.‏ فإذا كانت نجاسة المنى ضعيفة في السنة لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك لعموم البلوى به‏.‏ لكن هذا أضعف لكون الصحابة لم يحك أحد منهم مجرد اللمس العارى عن الشهوة ناقضًا، وإنما تنازعوا في اللمس المعتاد للشهوة كالقبلة والغمز باليد ونحو ذلك‏.‏
وأيضًا، فإيجاب الوضوء من جنس اللمس كمس النساء ومس الذكر إن لم يعلل بكونه مظنة تحريك الشهوة، وإلا كان مخالفًا للأصول، فأما إذا عُلِّل بتحريك الشهوة، كان مناسبًا للأصول، وهنا للفقهاء طريقان‏:‏
أحدهما‏:‏ قول من يقول‏:‏ إن ذلك مظنة خروج الناقض، فأقيمت المظنة مقام الحقيقة‏.‏ وهذا قول ضعيف، فإن المظنة إنما تقام مقام الحقيقة إذا كانت الحكمة خفية وكانت المظنة تفضى إليها غالبا، وكلاهما معدوم، فإن الخارج لو خرج لعلم به الرجل‏.‏ وأيضًا، فإن مس الذكر لا يوجب خروج شيء في العادة أصلا؛ فإن المنى إنما يخرج بالاستمناء وذلك يوجب الغسل، والمذى يخرج عقيب تفكر ونظر ومس المرأة لا الذكر، فإذا كانوا لا يوجبون الوضوء بالنظر الذي هو أشد إفضاء إلى خروج المنى، فبمس الذكر أولى‏.‏
والقول الثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ اللمس سبب تحريك الشهوة كما في مس المرأة، وتحريك الشهوة يُتوضأ منه كما يتوضأ من الغضب وأكل لحم الإبل، لما في ذلك من أثر الشيطان الذي يطفأ بالوضوء؛ ولهذا قال طائفة من أصحاب أبي حنيفة‏:‏ إنما يتوضأ إذا انتشر انتشارًا شديدًا‏.‏ وكذلك قال طائفة من أصحاب مالك‏:‏ يتوضأ إذا انتشر، لكن هذا الوضوء من اللمس‏:‏ هل هو واجب أو مستحب‏؟‏ فيه نزاع بين الفقهاء ليس هذا موضع ذكره، فإن مسألة الذكر لها موضع آخر وإنما المقصود هنا مسألة مس النساء‏.‏
والأظهر ـ أيضًا ـ أن الوضوء من مس الذكر مستحب لا واجب، وهكذا صرح به الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، وبهذا تجتمع الأحاديث والآثار بحمل الأمر به على الاستحباب، ليس فيه نسخ قوله‏:‏ ‏(‏وهل هو إلا بضعة منك‏؟‏‏)‏، وحمل الأمر على الاستحباب أولى من النسخ‏.‏
وكذلك الوضوء مما مست النار مستحب في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، وبذلك يجمع بين أمره وبين تركه‏.‏ فأما النسخ فلا يقوم عليه دليل، بل الدليل يدل على نقيضه‏.‏ وكذلك خروج النجاسات من سائر البدن غير السبيلين كالوضوء من القيء، والرُّعَاف، والحجامة، والفِصاد، والجراح‏:‏ مستحب، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أنهم توضؤوا من ذلك ‏.‏ وأما الواجب فليس عليه في الكتاب والسنة ما يوجب ذلك‏.‏
وكذلك الوضوء من القهقة مستحب في أحد القولين في مذهب أحمد، والحديث المأثور في أمر الذين قهقهوا بالوضوء، وجهه أنهم أذنبوا بالضحك، ومستحب لكل من أذنب ذنبا يتوضأ ويصلي ركعتين كما جاء في السنن عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من مسلم يذنب ذنبا فيتوضأ ويصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر له‏)‏‏.‏ والله أعلم‏.‏