باب نواقض الوضوء : وسئل: إذا مس يد الصبي الأمرد؟
 
وَسُئِلَ شَيّخ الإسّلام ـ رَحمه الله‏:‏
إذا مس يد الصبي الأمرد‏:‏ فهل هو من جنس النساء في نقض الوضوء‏؟‏ وما جاء في تحريم النظر إلى وجه الأمرد الحسن‏؟‏ وهل هذا الذي يقوله بعض المخالفين للشريعة‏:‏ إن النظر إلى وجه الصبي الأمرد عبادة‏؟‏ وإذا قال لهم أحد ‏:‏ هذا النظر حرام، يقول‏:‏ أنا إذا نظرت إلى هذا أقول‏:‏ سبحان الذي خلقه، لا أزيد على ذلك‏؟‏
فأجاب‏:‏
الحمد للّه، إذا مس الأمرد لشهوة ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره‏.‏
أحدهما‏:‏ أنه كمس النساء لشهوة ينقض الوضوء‏.‏ وهو المشهور من مذهب مالك، ذكره القاضى أبو يعلى في شرح المذهب‏.‏
والثاني‏:‏ أنه لا ينقض الوضوء، وهو المشهور من مذهب الشافعي‏.‏
والقول الأول أظهر، فإن الوطء في الدبر يفسد العبادات التي تفسد بالوطء في القبل‏:‏ كالصيام والإحرام والاعتكاف، ويوجب الغسل كما يوجبه هذا، فتكون مقدمات هذا في باب العبادات كمقدمات هذا‏.‏ فلو مس الأمرد لشهوة وهو محرم فعليه دم كما لو مس أجنبية لشهوة وكذلك إذا مسه لشهوة وجب أن يكون كما لو مس المرأة لشهوة في نقض الوضوء‏.‏
والذي لم ينقض الوضوء بمسه يقول‏:‏ إنه لم يخلق محلا لذلك، فيقال له‏:‏ لا ريب أنه لم يخلق لذلك وأن الفاحشة اللوطية من أعظم المحرمات، لكن هذا القدر لم يعتبر في باب الوطء، فإن وطئ في الدبر تعلق به ما ذكر من الأحكام وإن كان الدبر لم يخلق محلا للوطء، مع أن نُفرة الطباع عن الوطء في الدبر أعظم من نفرتها عن الملامسة، ونقض الوضوء بالمس يراعى فيه حقيقة الحكمة، وهو أن يكون المس لشهوة عند الأكثرين ـ كمالك وأحمد وغيرهما ـ كما يراعى مثل ذلك في الإحرام والاعتكاف وغير ذلك‏.‏ وعلى هذا القول، فحيث وجد اللمس لشهوة تعلق به الحكم، حتى لو مس أمه وأخته وبنته لشهوة انتقض وضوؤه‏:‏ فكذلك الأمرد‏.‏
وأما الشافعي ـ وأحمد في رواية ـ فيعتبر المظنة، وهو‏:‏ أن النساء مظنة الشهوة فينتقض الوضوء سواء بشهوة أو بغير شهوة، ولهذا لا ينقض لمس المحارم، لكن لو لمس ذوات محارمه لشهوة فقد وجدت حقيقة الحكمة، وكذلك إذا مس الأمرد لشهوة‏.‏
والتلذذ بمس الأمـرد كمصافحتـه ونحـو ذلك،حرام بإجماع المسلمين‏.‏كما يحـرم التلذذ بمس ذوات محارمه والمرأة الأجنبية، بل الذي عليه أكثر العلماء أن ذلك أعظم إثما من التلذذ بالمرأة الأجنبية، كما أن الجمهور على أن عقوبة اللوطى أعظم من عقوبة الزنا بالأجنبية، فيجب قتل الفاعل والمفعول به، سواء كان أحدهما محصنًا أو لم يكن‏.‏ وسواء كان أحدهما مملوكا للآخر أو لم يكن، كما جاء ذلك في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمل به أصحابه من غير نزاع يعرف بينهم، وقتله بالرجم كما قتل الله قوم لوط بالرجم، وبذلك جاءت الشريعة في قتل الزانى‏:‏ أنه يرجم، فرجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعز بن مالك والغامدية، واليهوديين؛ والمرأة التي أرسل إليها أنيسًا وقال‏:‏ ‏(‏اذهب إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها‏)‏ فاعترفت فرجمها‏.‏
والنظر إلى وجه الأمرد لشهوة كالنظر إلى وجه ذوات المحارم والمرأة الأجنبية بالشهوة، سواء كانت الشهوة شهوة الوطء أو شهوة التلذذ بالنظر، فلو نظر إلى أمه وأخته وابنته بتلذذ بالنظر إليها كما يتلذذ بالنظر إلى وجه المرأة الأجنبية‏:‏ كان معلوما لكل أحد أن هذا حرام، فكذلك النظر إلى وجه الأمرد باتفاق الأئمة‏.‏
وقول القائل‏:‏ إن النظر إلى وجه الأمرد عبادة كقوله‏:‏ إن النظر إلى وجوه النساء أو النظر إلى وجوه محارم الرجل ـ كبنت الرجل وأمه وأخته ـ عبادة،ومعلوم أن من جعل هذا النظر المحرم عبادة كان بمنزلة من جعل الفواحش عبادة، قال تعالى‏:‏ ‏{وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏‏.‏
ومعلوم أنه قد يكون في صور النساء الأجنبيات وذوات المحارم من الاعتبار والدلالة على الخالق من جنس ما في صورة المرد‏:‏ فهل يقول مسلم‏:‏ إن للإنسان أن ينظر بهذا الوجه إلى صور نساء العالم وصور محارمه، ويقول‏:‏ إن ذلك عبادة‏؟‏ بل من جعل مثل هذا النظر عبادة، فإنه كافر مرتد يجب أن يستتاب فإن تاب، وإلا قتل، وهو بمنزلة من جعل إعانة طالب الفواحش عبادة، أو جعل تناول يسير الخمر عبادة، أو جعل السكر بالحشيشة عبادة‏.‏ فمن جعل المعاونة على الفاحشة بقيادة أو غيرها عبادة، أو جعل شيئًا من المحرمات التي يعلم تحريمها من دين الإسلام عبادة‏:‏ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل‏.‏ وهو مُضاهٍ للمشركين الذين ‏{وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏‏.‏
وفاحشة أولئك إنما كانت طوافهم بالبيت عراة، وكانوا يقولون‏:‏ لا نطوف في الثياب التي عصينا الله فيها، فهؤلاء إنما كانوا يطوفون عراة على وجه اجتناب ثياب المعصية وقد ذكر عنهم ما ذكر فكيف بمن يجعل جنس الفاحشة المتعلقة بالشهوة عبادة‏؟‏‏!‏
والله ـ سبحانة ـ قد أمر في كتابه بغض البصر، وهو نوعان‏:‏ غض البصر عن العورة، وغضها عن محل الشهوة‏.‏
فالأول‏:‏ كغض الرجل بصره عن عورة غيره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة‏)‏، ويجب على الإنسان أن يستر عورته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن حَيّدَة‏:‏ ‏(‏احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك‏)‏، قلت‏:‏ فإذا كان أحدنا مع قومه‏؟‏ قال‏:‏‏(‏إن استطعت ألا يرينها أحد فلا يرينها‏)‏، قلت‏:‏ فإذا كان أحدنا خاليًا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فالله أحق أن يستحيى منه من الناس‏)‏‏.‏ ويجوز أن يكشف بقدر الحاجة كما يكشف عند التخلي، وكذلك إذا اغتسل الرجل وحده بجنب ما يستره، فله أن يغتسل عريانًا كما اغتسل موسى عريانًا وأيوب، وكما في اغتساله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح واغتساله في حديث ميمونة‏.‏
وأما النوع الثاني من النظر‏:‏ كالنظر إلى الزينة الباطنة من المرأة الأجنبية، فهذا أشد من الأول، كما أن الخمر أشد من الميتة والدم ولحم الخنزير وعلى صاحبها الحد‏.‏ وتلك المحرمات إذا تناولها غير مستحل لها كان عليه التعزير؛ لأن هذه المحرمات لا تشتهيها النفوس كما تشتهى الخمر، وكذلك النظر إلى عورة الرجل لا يشتهى كما يشتهى النظر إلى النساء ونحوهن، وكذلك النظر إلى الأمرد بشهوة هو من هذا الباب‏.‏ وقد اتفق العلماء على تحريم ذلك كما اتفقوا على تحريم النظر إلى الأجنبية وذوات المحارم لشهوة، والخالق ـ سبحانه ـ يسبح عند رؤية مخلوقاته كلها وليس خلق الأمرد بأعجب في قدرته من خلق ذى اللحية، ولا خلق النساء بأعجب في قدرته من خلق الرجال، بل تخصيص الإنسان التسبيح بحال نظره إلى الأمرد دون غيره‏:‏ كتخصيصه التسبيح بنظره إلى المرأة دون الرجل، وما ذاك لأنه دل على عظمة الخالق عنده، ولكن لأن الجمال يغير قلبه وعقله، وقد يذهله ما رآه فيكون تسبيحه بما يحصل في نفسه من الهوى‏.‏ كما أن النسوة لما رأين يوسف ‏{أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 31‏]‏‏.‏
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن اللّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم‏)‏‏.‏ وإذا كان الله لا ينظـر إلى الصور والأموال وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال، فكيف يفضل الشخص بما لم يفضله الله به‏؟‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا}‏ ‏[‏طه‏:‏ 131‏]‏، وقال في المنافقين‏:‏ ‏{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ إني يُؤْفَكُونَ}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 4‏]‏، فإذا كان هؤلاء المنافقون الذين تعجب الناظر أجسامهم لما فيهم من البهاء والرواء والزينة الظاهرة ـ وليسوا ممن ينظر إليه لشهوة ـ قد ذكر الله عنهم ما ذكر، فكيف بمن ينظر إليه لشهوة‏؟‏ وذلك أن الإنسان قد ينظر إليه لما فيه من الإيمان والتقوى؛ وهنا الاعتبار بقلبه وعمله لا بصورته وقد ينظر إليه لما فيه من الصورة الدالة على المصور فهذا حسن‏.‏ وقد ينظر إليه من جهة استحسان خلقه كما ينظر إلى الجبل والبهائم، وكما ينظر إلى الأشجار، فهذا ـ أيضًا ـ إذا كان على وجه استحسان الدنيا والرياسة والمال، فهو مذموم؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}‏ ‏[‏طه‏:‏ 131‏]‏‏.‏
وأما إن كان على وجه لا ينقص الدين وإنما فيه راحة النفس فقط ـ كالنظر إلى الأزهار ـ فهذا من الباطل الذي يستعان به على الحق‏.‏
وكل قسم من هذه الأقسام متى كان معه شهوة كان حرامًا بلا ريب، سواء كانت شهوة تمتع بنظر الشهوة أو كان نظرا بشهوة الوطء‏.‏ وفَرق بين ما يجده الإنسان عند نظره الأشجار والأزهار وما يجده عند نظره النسوان والمردان؛ فلهذا الفرقان افترق الحكم الشرعي فصار النظر إلى المرد ثلاثة أقسام‏:‏
أحدها‏:‏ ما يقرن به الشهوة فهو حرام بالاتفاق‏.‏
والثاني‏:‏ ما يجزم أنه لا شهوة معه‏:‏ كنظر الرجل الورع إلى ابنه الحسن وابنته الحسنة وأمه، فهذا لا يقرن به شهوة إلا أن يكون الرجل من أفجر الناس، ومتى اقترنت به الشهوة حرم‏.‏
وعلى هذا، من لا يميل قلبه إلى المرد ـ كما كان الصحابة، وكالأمم الذين لا يعرفون هذه الفاحشة ـ فإن الواحد من هؤلاء لا يفرق بين هذا الوجه وبين نظره إلى ابنه وابن جاره وصبى أجنبى، ولا يخطر بقلبه شيء من الشهوة لأنه لم يعتد ذلك وهو سليم القلب من مثل ذلك، وقد كانت الإماء على عهد الصحابة يمشين في الطرقات وهن متكشفات الرؤوس وتخدم الرجال مع سلامة القلوب، فلو أراد الرجال أن يترك الإماء التركيات الحسان يمشين بين الناس، في مثل هذه البلاد والأوقات كما كان أولئك الإماء يمشين، كان هذا من باب الفساد‏.‏
وكذلك المرد الحسان لا يصلح أن يخرجوا في الأمكنة والأزمنة التي يخاف فيها الفتنة بهم إلا بقدر الحاجة، فلا يمكن الأمرد الحسن من التبرج ولا من الجلوس في الحمام بين الأجانب، ولا من رقصه بين الرجال، ونحو ذلك مما فيه فتنة للناس، والنظر إليه كذلك‏.‏
وإنما وقع النزاع بين العلماء في القسم الثالث من النظر، وهو‏:‏ النظر إليه لغير شهوة لكن مع خوف ثورانها‏.‏ فيه وجهان في مذهب أحمد، أصحهما ـ وهو المحكي عن نص الشافعي ـ أنه لا يجوز‏.‏ والثاني‏:‏ يجوز لأن الأصل عدم ثورانها فلا يحرم بالشك، بل قد يكره‏.‏
والأول هو الراجح، كما أن الراجح في مذهب الشافعي وأحمد أن النظر إلى وجه الأجنبية من غير حاجة لا يجوز وإن كانت الشهوة منتفية، لكن لأنه يخاف ثورانها؛ ولهذا حرمت الخلوة بالأجنبية لأنها مظنة الفتنة، والأصل أن كل ما كان سببًا للفتنة فإنه لا يجوز‏.‏ فإن الذريعة إلى الفساد يجب سدها إذا لم يعارضها مصلحة راجحة؛ ولهذا كان النظر الذي يفضى إلى الفتنة محرما إلا إذا كان لمصلحة راجحة، مثل نظر الخاطب والطبيب وغيرهما، فإنه يباح النظر للحاجة لكن مع عدم الشهوة‏.‏
وأما النظر لغير حاجة إلى محل الفتنة فلا يجوز‏.‏
ومن كرر النظر إلى الأمرد ونحوه أو أدامه وقال‏:‏ إني لا أنظر لشهوة، كذب في ذلك؛ فإنه إذا لم يكن معه داع يحتاج معه إلى النظر لم يكن النظر إلا لما يحصل في القلب من اللذة بذلك، وأما نظرة الفجأة فهى عفو إذا صرف بصره، كما ثبت في الصحيح عن جرير قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فقال‏:‏ ‏(‏اصرف بصرك‏)‏‏.‏ وفي السنن أنه قال لعلي ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ ‏(‏يا علي، لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية‏)‏‏.‏
وفي الحديث الذي في المسند وغيره‏:‏ ‏(‏النظر سهم مسموم من سهام إبليس‏)‏‏.‏ وفيه‏:‏ ‏(‏من نظر إلى محاسن امرأة ثم غض بصره عنها أورث الله قلبه حلاوة عبادة يجدها إلى يوم القيامة‏)‏ أو كما قال‏.‏ ولهذا يقال‏:‏ إن غض البصر عن الصورة التي نهى عن النظر إليها ـ كالمرأة والأمرد الحسن ـ يورث ذلك ثلاث فوائد جليلة القدر‏:‏
إحداها‏:‏ حلاوة الإيمان ولذته التي هى أحلى وأطيب مما تركه لله، فإن من ترك شيئًا للَّه عوضه الله خيرًا منه، والنفس تحب النظر إلى هذه الصور لاسيما نفوس أهل الرياضة والصفا، فإنه يبقى فيها رقة تجتذب بسببها إلى الصور، حتى تبقى تجذب أحدهم وتصرعه كما يصرعه السبع؛ ولهذا قال بعض التابعين‏:‏ ما أنا على الشاب التائب من سبع يجلس إليه بأخوف عليه من حدث جميل يجلس إليه‏!‏ وقال بعضهم‏:‏ اتقوا النظر إلى أولاد الملوك فإن لهم فتنة كفتنة العذارى‏.‏
ومازال أئمة العلم والدين ـ كشيوخ الهدى وشيوخ الطريق ـ يوصون بترك صحبة الأحداث حتى يروى عن فتح الموصلي أنه قال‏:‏ صحبت ثلاثين من الأبدال كلهم يوصيني عند فراقه بترك صحبة الأحداث وقال بعضهم‏:‏ ما سقط عبد من عين الله إلا بصحبة هؤلاء الأنتان‏.‏
ثم النظر يؤكد المحبة، فيكون علاقة لتعلق القلب بالمحبوب، ثم صبابة لانصباب القلب إليه، ثم غرامًا للزومه للقلب كالغريم الملازم لغريمه، ثم عشقا إلى أن يصير تتيمًا، والمتيم المعبد، وتيم الله‏:‏ عبد الله، فيبقى القلب عبدًا لمن لا يصلح أن يكون أخا بل ولا خادمًا، وهذا إنما يبتلى به أهل الإعراض عن الإخلاص للَّه كما قال تعالى في حق يوسف‏:‏ ‏{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 24‏]‏، فامرأة العزيز كانت مشركة فوقعت مع تزوجها فيما وقعت فيه من السوء، ويوسف ـ عليه السلام ـ مع عزوبته ومراودتها له واستعانتها عليه بالنسوة وعقوبتها له بالحبس على العفة ـ عصمه الله بإخلاصه لله؛ تحقيقًا لقوله‏:‏ ‏{وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}‏ ‏[‏الحجر‏:‏39، 40‏]‏، قال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏، والغي‏:‏ هو اتباع الهوى‏.‏
وهذا الباب من أعظم أبواب اتباع الهوى‏.‏ ومن أمر بعشق الصور من المتفلسفة كابن سينا وذويه، أو من الفرس كما يذكر عن بعضهم؛ أو من جهال المتصوفة، فإنهم أهل ضلال وغي، فهم مع مشاركة اليهود في الغي والنصارى في الضلال زادوا على الأمتين في ذلك، فإن هذا ـ وإن ظن أن فيه منفعة للعاشق كتطليق نفسه وتهذيب أخلاقه، وللمعشوق من الشفاء في مصالحه وتعليمه وتأديبه وغير ذلك ـ فمضرة ذلك أضعاف منفعته‏.‏ وأين إثم ذلك من منفعته‏؟‏ وإنما هذا كما يقال‏:‏ إن في الزنا منفعة لكل منهما بما يحصل له من التلذذ والسرور، ويحصل لها من الجعل وغير ذلك‏!‏ وكما يقال‏:‏ إن في شرب الخمر منافع بدنية ونفسية‏.‏ وقد قال في الخمر والميسر‏:‏ ‏{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏، وهذا قبل التحريم‏.‏ دع ما قاله عند التحريم وبعده‏.‏
وباب التعلق بالصور هو من جنس الفواحش، وباطنه من باطن الفواحش وهو من باطن الإثم، قال تعالى‏:‏ ‏{وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 120‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏، وقد قال‏:‏ ‏{وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏‏.‏
وليس بين أئمة الدين نزاع في أن هذا ليس بمستحب كما أنه ليس بواجب، فمن جعله ممدوحًا وأثنى عليه فقد خرج من إجماع المسلمين، بل واليهــود والنصــارى، بل وعما عليه عقـلاء بنى آدم مـن جميـع الأمم، وهـو ممـن اتبع هـــواه بغير هـدى من الله، ‏{فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 50‏]‏، وقـد قـال تعالى‏:‏ ‏{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}‏ ‏[‏النازعات‏:‏40، 41‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}‏ ‏[‏ص‏:‏ 26‏]‏‏.‏
وأما من نظر إلى المرد ظانًا أنه ينظر إلى الجمال الإلهى وجعل هذا طريقًا له إلى الله ـ كما يفعله طوائف من المدعين للمعرفة ـ فقوله هذا أعظم كفرًا من قول عباد الأصنام ومن كفر قوم لوط، فهؤلاء من شر الزنادقة المرتدين الذين يجب قتلهم بإجماع كل الأمة؛ فإن عُباد الأصنام قالوا‏:‏ ‏{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏، وهؤلاء يجعلون الله موجودًا في نفس الأصنام وحالا فيها، فإنهم لا يريدون بظهوره وتجليه في المخلوقات أنها دالة عليه وآيات لهم؛ بل يريدون أنه ـ سبحانه ـ هو ظهر فيها وتجلى فيها، ويشبهون ذلك بظهور الماء في الزجاجة، والزبد في اللبن، والزيت في الزيتون، والدهن في السمسم؛ ونحو ذلك مما يقتضى حلول نفس ذاته في مخلوقاته أو اتحاده بها في جميع المخلوقات، نظير ما قالته النصارى في المسيح خاصة، يجعلون المرد مظاهر الجمال فيقررون هذا الشرك الأعظم طريقًا إلى استحلال الفواحش، بل إلى استحلال كل محرم، كما قيل لأفضل متأخريهم ـ التلمسإني ـ‏:‏ إذا كان قولكم بأن الوجود واحد هو الحق، فما الفرق بين أمى وأختى وابنتى‏:‏ تكون هذه حلالا وهذه حراما‏؟‏ فقال الجميع عندنا سواء، لكن هؤلاء المحجوبون قالوا‏:‏ حرام‏.‏ فقلنا‏:‏ حرام عليكم‏!‏
ومن هؤلاء الحلولية والاتحادية من يخص الحلول والاتحاد ببعض الأشخاص‏:‏ إما ببعض الأنبياء كالمسيح، أو ببعض الصحابة كقول الغالية في على، أو ببعض الشيوخ كالحلاجية ونحوهم، أو ببعض الملوك، أو ببعض الصور كصور المرد، ويقول أحدهم‏:‏ أنا أنظر إلى صفات خالقى وأشهدها في هذه الصورة‏.‏
والكفر في هذا القول أبين من أن يخفي على من يؤمن باللَّه ورسوله، ولو قال مثل هذا الكلام في نبى كريم، لكان كافرًا، فكيف إذا قاله في صبى أمرد‏؟‏ فقبح الله طائفة يكون معبودها من جنس موطوئها‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 80‏]‏، فإذا كان من اتخذ الملائكة والنبيين أربابًا مع اعترافهم بأنهم مخلوقون للَّه كفارًا‏:‏ فكيف بمن اتخذ بعض المخلوقات أربابا مع قوله‏:‏ إن الله فيها أو متحد بها‏؟‏ فوجودها وجوده ونحو ذلك من المقالات‏؟‏
وأما الفائدة الثانية في غض البصر فهو‏:‏ أنه يورث نور القلب والفراسة، قال تعالى عن قوم لوط‏:‏ ‏{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 27‏]‏، فالتعلق في الصور يوجب فساد العقل وعمى البصيرة وسكر القلب، بل جنونه كما قيل‏:‏
سكران‏:‏ سكر هوى، وسكر مدامة ** فمتى إفاقة من به سكــران‏؟‏
وقيل‏:‏
قالوا‏:‏ جننت بمن تهوى‏؟‏ فقلت لهم‏:‏ ** العشق أعظـم ممــا بالمجانين
العشق لا يستفيــــق الدهــر صاحبـه ** وإنما يصرع المجنون في الحين
وذكر ـ سبحانه ـ آية النور عقيب آيات غض البصر فقال‏:‏ ‏{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏، وكان شاه بن شجاع الكِرْمإني لا تخطئ له فراسة، وكان يقول‏:‏ من عَمَّر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، وذكر خصلة خامسة وهى أكل الحلال، لم تخطئ له فراسة‏.‏ والله ـ تعالى ـ يجزى العبد على عمله بما هو من جنس عمله فغض بصره عما حرم يعوضه الله عليه من جنسه بما هو خير منه، فيطلق نور بصيرته ويفتح عليه باب العلم والمعرفة والكشوف ونحو ذلك مما ينال بصيرة القلب‏.‏
والفائدة الثالثة‏:‏ قوة القلب وثباته وشجاعته، فيجعل الله له سلطان النصرة مع سلطان الحجة‏.‏ وفي الأثر‏:‏ الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله، ولهذا يوجد في المتبع لهواه من الذل ـ ذل النفس وضعفها ومهانتها ـ ما جعله الله لمن عصاه فإن الله جعل العزة لمن أطاعه والذلة لمن عصاه، قال تعالى‏:‏ ‏{يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 139‏]‏‏.‏
ولهذا كان في كلام الشيوخ‏:‏ الناس يطلبون العز من أبواب الملوك ولا يجدونه إلا في طاعة الله‏.‏ وكان الحسن البصرى يقول‏:‏ وإن هَمْلَجَت بهم البراذين وطقطقت بهم البغال فإن ذل المعصية في رقابهم، يأبى الله إلا أن يذل من عصاه‏.‏ ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه، ومن عصاه ففيه قسط من فعل من عاداه بمعاصيه‏.‏ وفي دعاء القنوت‏:‏ ‏(‏إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت‏)‏‏.‏
والصوفية المشهورون عند الأمة الذين لهم لسان صدق في الأمة لم يكونوا يستحبون مثل هذا، بل ينهون عنه، ولهم في الكلام في ذم صحبة الأحداث، وفي الرد على أهل الحلول، وبيان مباينة الخالق للمخلوق، ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، وإنما استحسنه من تشبه بهم ممن هو عاص أو فاسق أو كافر، فتظاهر بدعوى الولاية للَّه وتحقيق الإيمان والعرفان وهو من شر أهل العداوة للَّه وأهل النفاق والبهتان‏.‏
والله ـ تعالى ـ يجمع لأوليائه المتقين خير الدنيا والآخرة، ويجعل لأعدائه الصفقة الخاسرة‏.‏ والله أعلم‏.