باب التيمم : فَصـل: قوله تعالى‏:‏ ‏{وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ}
 
فَصْــل
قوله تعالى‏:‏ ‏{وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء}‏الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ هذا مما أشكل على بعض الناس‏.‏
فقال طائفة من الناس‏:‏ ‏[‏أو‏]‏ بمعنى الواو، وجعلوا التقدير‏:‏ وجاء أحد منكم من الغائط، ولامستم النساء‏.‏
قالوا‏:‏ لأن من مقتضي ‏[‏أو‏]‏ أن يكون كل من المرض والسفر موجبًا للتيمم؛ كالغائط والملامسة‏.‏ وهذا مخالف لمعني الآية، فإن ‏[‏أو‏]‏ ضد الواو، والواو‏:‏ للجمع والتشريك بين المعطوف والمعطوف عليه‏.‏
وأما معني‏:‏ ‏[‏أو‏]‏ فلا يوجب الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه، بل يقتضي إثبات أحدهما‏.‏ لكن قد يكون ذلك مع إباحة الآخر كقوله‏:‏ جالس الحسن أو ابن سيرين؛ وتعلم الفقه أو النحو، ومنه خصال الكفارة يخير بينها، ولو فعل الجميع جاز‏.‏ وقد يكون مع الحصر، يقال للمريض‏:‏ كلُ ْهذا، أو هذا‏.‏ وكذلك في الخبر‏:‏ هي لإثبات أحدهما، إما مع عدم علم المخاطب ـ وهو الشك ـ أو مع علمه وهو الإيهام، كقوله تعالى‏:‏ ‏{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 147‏]‏، لكن المعني الذي أراده‏:‏ هو الأصح، وهو أن خطابه بالتيمم للمريض والمسافر، وإن كان قد جاء من الغائط، أو جامع‏.‏
ولا ينبغي ـ علي قولهم ـ أن يكون المراد‏:‏ ألا يباح التيمم إلا مع هذين، بل التقدير‏:‏ بالاحتلام، أو حدث بلا غائط، فالتيمم هنا أولي، وهو ـ سبحانه ـ لما أمر كل قائم إلى الصلاة بالوضوء، أمرهم إذا كانوا جنبًا‏:‏ أن يطهروا، وفيهم المحدث بغير الغائط، كالقائم من النوم، والذي خرجت منه الريح‏.‏ ومنهم الجنب بغير جماع، بل باحتلام، فالآية عمت كل محدث وكل جنب‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، فأباح التيمم للمحدث والجنب إذا كان مريضًا أو علي سفر، ولم يجد ماء‏.‏ والتيمم رخصة‏.‏
فقد يظن الظان‏:‏ أنها لا تباح إلا مع خفيف الحدث والجنابة كالريح والاحتلام بخلاف الغائط والجماع، فإن التيمم مع ذلك، والصلاة معه، مما تستعظمه النفوس وتهابه‏.‏ فقد أنكر بعض كبار الصحابة تيمم الجنب مطلقًا‏.‏ وكثيرًا من الناس يهاب الصلاة مع الحدث بالتيمم، إذا كان جعل التراب طهورًا كالماء، هو مما فضل الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمته‏.‏ ومن لم يستحكم إيمانه، لا يستجيز ذلك‏.‏
فبين الله ـ سبحانه ـ أن التيمم مأمور به مع تغليظ الحدث بالغائط، وتغليظ الجنابة بالجماع‏.‏ والتقدير‏:‏ وإن كنتم مرضي أو مسافرين، أو كان مع ذلك ـ جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء‏.‏
ليس المقصود‏:‏ أن يجعل الغائط والجماع فيما ليس معه مرض أو سفر، فإنه إذا جاء أحد منكم من الغائط، أو لامس النساء، وليسوا مرضي ولا مسافرين‏.‏ فقد بين ذلك بقوله ‏{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ}‏ وبقوله‏:‏ ‏{وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ}‏، فدلت الآية على وجوب الوضوء والغسل على الصحيح والمقيم‏.‏
وأيضًا، فتخصيصه المجيء من الغائط والجماع، يجوز أن يكون لا يتيمم في هذه الحالة، دون ما هو أخف من ذلك، من خروج الريح ومن الاحتلام‏.‏ فإن الريح كالنوم، والاحتلام يكون في المنام‏.‏ فهناك يحصل الحدث والجنابة والإنسان نائم‏.‏ فإذا كان في تلك الحال يؤمر بالوضوء والغسل، فإذا حصل ذلك وهو يقظان، فهو أولى بالوجوب؛ لأن النائم رفع عنه القلم، بخلاف اليقظان‏.‏
ولكن دلت الآية علي أن الطهارة تجب، وإن حصل الحدث والجنابة بغير اختياره، كحدث النائم واحتلامه‏.‏ وإذا دلت علي وجوب طهارة الماء في الحال، فوجوبها مع الحدث الذي حصل باختياره أو يقظته أولى، وهذا بخلاف التيمم؛ فإنه لا يلزم إذا أباح التيمم للمعذور الذي أحدث في النوم باحتلام أو ريح أن يبيحه لمن أحدث باختياره‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ ليبين جواز التيمم لهذين‏.‏ وإن حصل حدثهما في اليقظة، وبفعلهما وإن كان غليظًا‏.‏
ولو كانت ‏[‏أو‏]‏ بمعنى الواو، كان تقدير الكلام‏:‏ أن التيمم لا يباح إلا بوجود الشرطين‏:‏ المرض، والسفر، مع المجيء من الغائط والاحتلام‏.‏ فيلزم من هذا ألا يباح مع الاحتلام ولا مع الحدث بلا غائط، كحدث النائم، ومن خرجت منه الريح‏.‏ فإن الحكم إذا علق بشرطين لم يثبت مع أحدهما، وهذا ليس مرادًا قطعًا، بل هو ضد الحق؛ لأنه إذا أبيح مع الغائط الذي يحصل بالاختيار، فمع الخفيف وعدم الاختيار أولى‏.‏
فتبين أن معنى الآية‏:‏ وإن كنتم مرضى أو على سفر فتيمموا‏.‏ وإن كان مع ذلك قد جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء‏.‏ كما يقال‏:‏ وإن كنت مريضًا أو مسافرًا‏.‏ والتقدير‏:‏ وإن كنتم أيها القائمون إلى الصلاة ـ وأنتم مرضي أو مسافرون ـ قد جئتم من الغائط أو لامستم النساء؛ ولهذا قال من قال‏:‏ إنها خطاب للقائمين من النوم‏:‏ إن التقدير إذا قمتم إلى الصلاة، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء‏.‏
فإنه ـ سبحانه ـ ذكر أولاً فعلهم بقوله‏:‏ ‏{إِذَا قُمْتُمْ}‏ ‏{أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ الثلاثة أفعال‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، حال لهم‏.‏ أي كنتم على هذه الحال، كقوله‏:‏ وإن كنتم على حال العجز عن استعمال الماء ـ إما لعدمه، أو لخوف الضرر باستعماله ـ فتيمموا إذا قمتم إلى الصلاة من النوم‏.‏ أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء‏.‏
ولكن الذي رجحناه‏:‏ أن قوله‏:‏ ‏{إِذَا قُمْتُمْ}‏ عام‏:‏ إما لفظًا ومعنى، وإما معنى‏.‏
وعلى هذا، فالمعنى‏:‏ إذا قمتم إلى الصلاة فتوضؤوا، أو اغتسلوا إن كنتم جنبًا‏.‏ وإن كنتم مرضى أو مسافرين، أو فعلتم ما هو أبلغ في الحدث ـ جئتم من الغائط أو لامستم النساء ـ إذ التقدير‏:‏ وإن كنتم مرضى أو مسافرين، وقد قمتم إلى الصلاة أو فعلتم ـ مع القيام إلى الصلاة، والمرض أو السفر ـ هذين الأمرين‏:‏ المجيء من الغائط، والجماع، فيكون قد اجتمع قيامكم إلى الصلاة والمرض والسفر وأحد هذين، فالقيام موجب للطهارة، والعذر مبيح، وهذا القيام‏.‏ فإذا قمتم وجب التيمم إن كان قيامًا مجردًا، أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء‏.‏
ولكن من الناس من يعطف قوله‏:‏ ‏{أَوْ جَاء}‏، ‏{أَوْ لاَمَسْتُمُ}‏على قوله‏:‏ ‏{إِذَا قُمْتُمْ}‏والتقدير‏:‏ وإذا قمتم أو جاء أو لامستم‏.‏ وهذا مخالف لنظم الآية، فإن نظمها يقتضي أن هذا داخل في جزاء الشرط‏.‏ وقوله ‏:‏‏{وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، فإن الذي قاله قريب من جهة المعني‏.‏ ولكن التقدير‏:‏ وإن كنتم إذا قمتم إلى الصلاة مرضي أو علي سفر، أو كان مع ذلك‏:‏ جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء، فهو تقسيم من مفرد ومركب‏.‏
يقول‏:‏ إن كنتم مرضي أو علي سفر قائمين إلى الصلاة فقط بالقيام من النوم أو القعود المعتاد، أو كنتم ـ مع هذا ـ قد جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء‏.‏
فقوله تعالى‏:‏ ‏{وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ}‏خطاب لمن قيل لهم‏:‏ ‏{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ }‏، ‏{وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ }‏، فالمعني‏:‏ يأيها القائم إلى الصلاة توضأ‏.‏ وإن كنت جنبًا فاغتسل‏.‏ وإن كنت مريضًا أو مسافرًا تيمم‏.‏ أو كنت مع هذا وهذا، مع قيامك إلى الصلاة وأنت محدث، أو جنب‏.‏ ومع مرضك وسفرك قد جئت من الغائط، أو لامست النساء، فتيمم إن كنت معذورًا‏.‏
وإيضاح هذا‏:‏ أنه من باب عطف الخاص علي العام الذي يخص بالذكر لامتيازه‏.‏ وتخصيصه يقتضي ذلك‏.‏ ومثل هذا يقال‏:‏ إنه داخل في العام، ثم ذكر بخصوصه‏.‏ ويقال‏:‏ بل ذكره خاصًا يمنع دخوله في العام‏.‏ وهذا يجيء في العطف بأو، وأما بالواو‏:‏ فمثل قوله تعالى‏:‏ ‏{وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 98‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 7‏]‏، ومن هذا قوله‏:‏ ‏{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 45‏]‏، ونحو ذلك‏.‏
وأما في ‏[‏أو‏]‏ ففي مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏135‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 110‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 112‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 182‏]‏، فإن الجنف هو الميل عن الحق‏.‏ وإن كان عامدًا‏.‏
قال عامة المفسرين‏:‏ ‏[‏الجنف‏]‏‏:‏ الخطأ و ‏[‏الإثم‏]‏‏:‏ العمد‏.‏ قال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ الجنف‏:‏ الخروج عن الحق‏.‏ وقد يسمي المخطئ‏:‏ العامد‏.‏ إلا أن المفسرين علقوا ‏[‏الجنف‏]‏ على المخطئ، و ‏[‏الإثم‏]‏ علي العامد‏.‏ ومثله قولـه‏:‏ ‏{وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 42‏]‏، فإن ‏[‏الكفور‏]‏ هو الآثم ـ أيضًا ـ‏.‏ لكنه عطف خاص علي عام‏.‏ وقد قيل‏:‏ هما وصفان لموصوف واحد، وهو أبلغ‏.‏ فإن عطف الصفة علي الصفة والموصوف واحد، كقوله‏:‏ ‏{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 2، 3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 1 - 5‏]‏، ونظائر هذا كثيرة‏.‏
قال ابن زيد‏:‏ الآثم‏:‏ المذنب الظالم والكفور، هذا كله واحد‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ هو مخير في أنه يعرف الذي ينبغي ألا يطيعه بأي وصف كان من هذين؛ لأن كل واحد منهم فهو آثم، وهو كفور‏.‏ ولم يكن للأمة من الكثرة بحيث يغلب الإثم على المعاصي‏.‏ قال‏:‏ واللفظ إنما يقتضي نهي الإمام عن طاعة آثم من العصاة، أو كفور من المشركين‏.‏وقال أبو عبيدة وغيره‏:‏ ليس فيها تخيير ‏[‏أو‏]‏ بمعنى الواو‏.‏ وكذلك قال طائفة‏:‏ منهم البغوي، وابن الجوزي‏.‏
وقال المهدي‏:‏ أي لا تطع من أثم أو كفر‏.‏ ودخول ‏[‏أو‏]‏ يوجب ألا تطيع كل واحد منهما على انفراده‏.‏ ولو قال‏:‏ ولا تطع منهما آثمًا أو كفورًا، لم يلزم النهي إلا في حال اجتماع الوصفين‏.‏
وقد يقال‏:‏ إن ‏[‏الكفور‏]‏ هو الجاحد للحق، وإن كان مجتهدًا مخطئًا‏.‏ فيكون هذا أعم من وجه، وهذا أعم من وجه التمسك‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ من هذا الباب‏.‏ فإنه خاطب المؤمنين‏.‏ فقال‏:‏ ‏{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ}‏ وهذا يتناول المحدثين كما تقدم‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ}‏، ثم قال‏:‏ وإن كنتم ـ مع الحدث والجنابة ـ مرضى أو على سفر، ولم تجدوا ماء فتيمموا‏.‏ وهذا يتناول كل محدث، سواء كان قد جاء من الغائط أو لم يجئ، كالمستيقظ من نومه، والمستيقظ إذا خرجت منه الريح‏.‏ ويتناول كل جنب، سواء كانت جنابته باحتلام أو جماع‏.‏ فقال‏:‏ وإن كنتم محدثون ـ جنب مرضي أو على سفر ـ أو جاء أحد منكم من الغائط ‏.‏وهذا نوع خاص من الحدث ـ أو لامستم النساء ـ وهذا نوع خاص من الجنابة‏.‏
ثم قد يقال‏:‏ لفظ ‏[‏الجنب‏]‏ يتناول النوعين، وخص المجامع بالذكر، وكذلك ‏[‏القائم إلى الصلاة‏]‏ يتناول من جاء من الغائط ومن أحدث بدون ذلك، لكن خص الجائي بالذكر، كما في قوله‏:‏ ‏{فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 182‏]‏، فالآثم هو المتعمد، وتخصيصه بالذكر ـ وإن كان دخل ـ ليبين حكمه بخصوصه، ولئلا يظن خروجه عن اللفظ العام‏.‏ وإن كان لم يدخل فهو نوع آخر‏.‏ والتقدير‏:‏ إن كنتم مرضى أو على سفر فتيمموا‏.‏ وهذا معنى الآية‏.