باب التيمم : فصــل: قوله‏:‏ ‏{أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ}‏
 
فصــل
وقوله‏:‏ ‏{أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ ذكر الحدث الأصغر‏.‏ فالمجيء من الغائط هو مجيء من الموضع الذي يقضى فيه الحاجة ‏.‏ وكانوا ينتابون الأماكن المنخفضة، وهي الغائط‏.‏ وهو كقولك‏:‏ جاء من المرحاض‏.‏ وجاء من الكنيف ونحو ذلك‏.‏ هذا كله عبارة عمن جاء وقد قضى حاجته بالبول أو الغائط‏.‏ والريح يخرج معهما‏.‏
وقد تنازع الفقهاء‏:‏ هل تنقض الريح لكونها تستصحب جزءًا من الغائط‏.‏ فلا يكون على هذا نوعًا آخر‏؟‏ أو هي لا تستصحب جزءًا من الغائط، بل هي نفسها تنقض‏.‏ ونقضها متفق عليه بين المسلمين‏.‏ وقد دل عليه القرآن في قوله‏:‏ ‏{إِذَا قُمْتُمْ}‏ سواء كان أريد القيام من النوم أو مطلقًا، فإن القيام من النوم مراد على كل تقدير‏.‏ وهو إنما نقض بخروج الريح‏.‏ هذا مذهب الأئمة الأربعة، وجمهور السلف والخلف‏:‏ أن النوم نفسه ليس بناقض، ولكنه مظنة خروج الريح‏.‏
وقد ذهبت طائفة إلى أن النوم نفسه ينقض ونقض الوضوء بقليله وكثيره‏.‏ وهو قول ضعيف‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينام حتى يغط، ثم يقوم يصلي ولا يتوضأ، ويقول‏:‏ ‏(‏تنام عيناي ولا ينام قلبي‏)‏‏.‏
فدل على أن قلبه الذي لم ينم كان يعرف به أنه لم يحدث، ولو كان النوم نفسه كالبول والغائط والريح، لنقض كسائر النواقض‏.‏
وأيضًا، قد ثبت في الصحيحين‏:‏ أن الصحابة كانوا ينتظرون الصلاة حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصـلون ولا يتوضـؤون، وهم في المسجد ينتظرون العشاء خلف النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
وفي الصحيحين عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ ‏:‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شغل عن العشاء ليلة، فأخرها حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا‏.‏ ثم رقدنا ثم استيقظنا‏.‏ ثم خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏ليس أحد من أهل الأرض الليلة ينتظر الصلاة غيركم‏)‏‏.‏
ولمسلم عنه قال‏:‏ مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة‏.‏ فخرج علينا حين ذهب ثلث الليل ـ أو بعضه ـ ولا ندري أي شيء شغله، من أهله أو غير ذلك ـ فقال حين خرج‏:‏ ‏(‏إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم، ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة‏)‏ ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلى‏.‏
ولمسلم ـ أيضًا ـ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت‏:‏ أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى، فقال‏:‏ إنه لوقتها، لولا أن أشق على أمتي‏)‏‏.‏
ففي هذه الأحاديث الصحيحة‏:‏ أنهم ناموا، وقال في بعضها‏:‏ إنهم رقدوا ثم استيقظوا ثم رقدوا ثم استيقظوا‏.‏ وكان الذين يصلون خلفه جماعة كثيرة، وقد طال انتظارهم وناموا‏.‏ ولم يستفصل أحدًا، لا سئل ولا سأل الناس‏:‏ هل رأيتم رؤيا‏؟‏ أو هل مكن أحدكم مقعدته‏؟‏ أو هل كان أحدكم مستندًا‏؟‏ وهل سقط شيء من أعضائه على الأرض‏؟‏ فلو كان الحكم يختلف لسألهم‏.‏
وقد علم أنه في مثل هذا الانتظار بالليل ـ مع كثرة الجمع ـ يقع هذا كله‏.‏ وقد كان يصلي خلفه النساء والصبيان‏.‏
وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت‏:‏ أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي بصلاة العشاء، فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال عمر بن الخطاب‏:‏ نام النساء والصبيان‏.‏ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لأهل المسجد حين خرج عليهم‏:‏ ‏(‏ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم‏)‏ وذلك قبل أن يفشو الإسلام في الناس‏.‏
وقد خرج البخاري هذا الحديث في باب ‏(‏خروج النساء إلى المسجد بالليل والغلس‏)‏ وفي باب ‏(‏النوم قبل العشاء لمن غلب عليه النوم‏)‏، وخرجه في باب ‏(‏وضوء الصبيان وحضورهم الجماعة‏)‏ وقال فيه‏:‏ ‏(‏إنه ليس أحد من أهل الأرض يصلي هذه الصلاة غيركم‏)‏‏.‏
وهـذا يبين أن قول عمر‏:‏ نام النساء والصبيان، يعني والناس في المسجـد ينتظرون الصلاة‏.‏
وهذا يبين أن المنتظرين للصلاة، كالذي ينتظر الجمعة إذا نام ـ أي نوم كان ـ لم ينتقض وضؤوه‏.‏ فإن النوم ليس بناقض‏.‏ وإنما الناقض الحدث، فإذا نام النوم المعتاد، الذي يختاره الناس في العادة ـ كنوم الليل والقائلة ـ فهذا يخرج منه الريح في العادة، وهو لا يدري إذا خرجت، فلما كانت الحكمة خفية لا نعلم بها، قام دليلها مقامها‏.‏ وهذا هو النوم الذي يحصل هذا فيه في العادة‏.‏
وأما النوم الذي يشك فيه‏:‏ هل حصل معه ريح أم لا‏؟‏ فلا ينقض الوضوء؛ لأن الطهارة ثابتة بيقين، فلا تزول بالشك‏.‏
وللناس في هذه المسألة أقوال متعددة، ليس هذا موضع تفصيلها لكن هذا هو الذي يقوم عليه الدليل‏.‏
وليس في الكتاب والسنة نص يوجب النقض بكل نوم‏.‏
فإن قوله‏:‏ ‏(‏العين وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء‏)‏، قد روي في السنن من حديث على بن أبي طالب ومعاوية ـ رضي الله عنهما‏.‏ وقد ضعفه غير واحد‏.‏ وبتقدير صحته، فإنما فيه‏:‏ ‏(‏إذا نامت العينان استطلق الوكاء‏)‏ وهذا يفهم منه‏:‏ أن النوم المعتاد هو الذي يستطلق منه الوكاء‏.‏ ثم نفس الاستطلاق لا ينقض‏.‏ وإنما ينقض ما يخرج مع الاستطلاق‏.‏ وقد يسترخي الإنسان حتى ينطلق الوكاء ولا ينتقض وضؤوه‏.‏
وإنما قوله في حديث صفوان بن عسال‏:‏ أمرنا ألا ننزع خفافنا، إذا كنا سفرًا ـ أو مسافرين ـ ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة‏.‏ لكن من غائط أو بول أو نوم، فهذا ليس فيه ذكر نقض النوم‏.‏ ولكن فيه‏:‏ أن لابس الخفين لا ينزعهما ثلاثة أيام إلا من جنابة ولا ينزعهما من الغائط والبول والنوم، فهو نهي عن نزعهما لهذه الأمور‏.‏ وهو يتناول النوم الذي ينقض، ليس فيه‏:‏ أن كل نوم ينقض الوضوء‏.‏
هذا إذا كان لفظ ‏[‏النوم‏]‏ من كلام النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فكيف إذا كان من كلام الراوي‏؟‏ وصاحب الشريعة قد يعلم أن الناس إذا كانوا قعودًا أو قيامًا في الصلاة أو غيرها، فينعس أحدهم وينام، ولم يأمر أحدًا بالوضوء في مثل هذا‏.‏
أما الوضوء من النوم المعروف عند الناس، فهو الذي يترجح معه في العادة خروج الريح وأما ما كان قد يخرج معه الريح، وقد لا يخرج‏:‏ فلا ينقض على أصل الجمهور، الذين يقولون‏:‏ إذا شك هل ينقض أو لا ينقض‏؟‏ أنه لا ينقض، بناء على يقين الطهارة‏.‏