باب التيمم : فَصـــل: الترتيب في الوضوء
 
فَصْـــل
الترتيب في الوضوء وغيره من العبادات والعقود، النزاع فيه مشهور‏.‏
فمذهب الشافعي وأحمد‏:‏ يجب‏.‏ ومذهب مالك وأبي حنيفة‏:‏ لا يجب‏.‏ وأحمد قد نص على وجوبه نصوصًا متعددة‏.‏ ولم يذكر المتقدمون ـ كالقاضي، ومن قبله ـ عنه نزاعًا‏.‏
قال أبو محمد‏:‏ لم أر عنه فيه خلافًا‏.‏
قال‏:‏ وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد‏:‏ أنه غير واجب‏.‏
قلت‏:‏ هذه أخذت من نصه في القبضة للاستنشاق‏.‏ فلو أخر غسلها إلى ما بعد غسل الرجلين‏:‏ ففيه عن أحمد روايتان منصوصتان‏.‏ فإنه قال في إحدى الروايتين‏:‏ إنه لو نسيهما حتى صلى، تمضمض واستنشق، وأعاد الصلاة، ولم يعد الوضوء؛ لما في السنن عن المقدام ابن معدي كرب ؛ أنه أتي بوضوء، فغسل كفيه ثلاثًا، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ثم غسل ذراعيه ثلاثًا ثم تمضمض واستنشق‏.‏
فغير أبي الخطاب فرق بينهما وبين غيرهما، بأن الترتيب إنما يجب فيما ذكر في القرآن‏.‏ وهما ليسا في القرآن‏.‏
وأبو الخطاب ـ ومن تبعه ـ رأوا هذا فرقًا ضعيفًا‏.‏
فإن الأنف والفم لو لم يكونا من الوجه لما وجب غسلهما‏.‏ ولهذا خرج الأصحاب‏:‏ أنهما من الوجه‏.‏ كما قال الخرقي وغيره‏:‏ والفم والأنف من الوجه ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بهما غسل الوجه‏.‏ يبدأ بغسل ما بطن منه‏.‏ وقدم المضمضة؛ لأن الفم أقرب إلى الظاهر من الأنف‏.‏ ولهذا كان الأمر به أوكد‏.‏ وجاءت الأحاديث الصحيحة بالأمر به‏.‏ ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يغسل سائر الوجه‏.‏
فإذا قيل بوجوبهما مع النزاع، فهما كسائر ما نوزع فيه‏.‏ مثل البياض الذي بين العذار والأذن، فمالك وغيره يقول‏:‏ ليس من الوجه وفي النزعتين والتحذيف ثلاثة أوجه‏:‏
قيل‏:‏ هما من الرأس ‏.‏ وقيل‏:‏ من الوجه‏.‏
والصحيح ‏:‏ أن النزعتين من الرأس، والتحذيف من الوجه فلو نسي ذلك فهو كما لو نسي المضمضة والاستنشاق‏.‏
فتسوية أبي الخطاب أقوى‏.‏
وعلى هذا‏:‏ فأحمد إنما نص على من ترك ذلك ناسيًا‏.‏ ولهذا قيل له‏:‏ نسي المضمضة وحدها‏؟‏ فقال‏:‏ الاستنشاق عندي أوكد‏.‏ يعني إذا نسي ذلك وصلى‏.‏ قال‏:‏ يغسلهما، ويعيد الصلاة‏.‏ والإعادة إذا ترك الاستنشاق عنده أوكد، للأمر به في الأحاديث الصحيحة‏.‏ وكذلك الحديث المرفوع،فإن جميع من نقل وضوء النبي صلى الله عليه وسلم أخبروا‏:‏ أنه بدأ بهما‏.‏
وهذا حكى فعلاً واحدًا، فلا يمكن الجزم بأنه كان متعمدًا‏.‏
وحينئذ، فليس في تأخيرهما عمدًا سنة، بل السنة في النسيان، فإن النسيان متيقن‏.‏ فإن الظاهر أنه كان ناسيًا إذا قدر الشك‏.‏ فإذا جاز مع التعمد، فمع النسيان أولى‏.‏ فالناسي معذور بكل حال، بخلاف المتعمد‏.‏ وهو القول الثالث‏.‏ وهو الفرق بين المتعمد لتنكيس الوضوء وبين المعذور بنسيان أو جهل‏.‏ وهو أرجح الأقوال‏.‏ وعليه يدل كلام الصحابة، وجمهور العلماء‏.‏
وهو الموافق لأصول المذهب في غير هذا الموضع‏.‏ وهو المنصوص عن أحمد في الصورة التي خرج منها أبو الخطاب‏.‏
فمن ذلك‏:‏ إذا أخل بالترتيب بين الذبح والحلق، فإن الجاهل يعذر بلا خلاف في المذهب‏.‏ وأما العالم المتعمد، فعنه روايتان‏.‏ والسنة إنما جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏[‏أنه‏]‏ كان يسأل عن ذلك فيقول‏:‏‏(‏افعل، ولا حرج‏)‏؛ لأنهم قدموا وأخروا بلا علم‏.‏ لم يتعمدوا المخالفة للسنة‏.‏ وإلا فالقرآن قد جاء بالترتيب لقوله‏:‏ ‏{وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إني قلدت هديي، ولبدت رأسي، فلا أحل وأحلق حتى أنحر‏)‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 92‏]‏، أدل على الترتيب من قوله‏:‏ ‏{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 158‏]‏‏.‏
لكن يقال‏:‏ قد فرقوا بأن هذه عبادة واحدة مرتبط بعضها ببعض وتلك عبادات، كالحج والعمرة والصلاة والزكاة‏.‏
وهكذا فرق أبو بكر عبد العزيز بين الوضوء وغيره‏.‏ فقال‏:‏ ذاك كله من الحج‏:‏ الدماء والذبح والحلق والطواف‏.‏ والحج عبادة واحدة‏.‏ ولهذا متي وطئ قبل التحلل الأول فسد الحج عند الجمهور‏.‏ وهل يحصل كالدم وحده، أو كالدم والحلق‏؟‏ على روايتين‏.‏
ومنها‏:‏ إذا نسي بعض آيات السورة في قيام رمضان، فإنه لا يعيدها، ولا يعيد ما بعدها، مع أنه لو تعمد تنكيس آيات السورة وقراءة المؤخر قبل المقدم، لم يجز بالاتفاق‏.‏ وإنما النزاع في ترتيب السور‏.‏ نص على ذلك أحمد‏.‏