باب ازالة النجاسة : سئل: عن الزيت إذا كان في بئر ووقعت فيه نجاسة؟
 
وَسُئِلَ عن رجل عنده ستون قنطار زيت بالدمشقي وقعت فيه فأرة في بئر واحدة، فهل ينجس بذلك أم لا‏؟‏ وهل يجوز بيعه أو استعماله أم لا‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏
فأجاب‏:‏
الحمد لله، لا ينجس بذلك، بل يجوز بيعه واستعماله إذا لم يتغير في إحدى الروايتين عن أحمد، وحكم المائعات عنده حكم الماء في إحدى الروايتين، فلا ينجس إذا بلغ القلتين إلا بالتغير، لكن تلقى النجاسة وما حولها، وقد ذهب إلى أن حكم المائعات حكم الماء طائفة من العلماء‏:‏ كالزهري، والبخاري صاحب الصحيح‏.‏
وقد ذكر ذلك رواية عن مالك، وهو ـ أيضًا ـ مذهب أبي حنيفة، فإنه سوى بين الماء والمائعات بملاقاة النجاسة، وفي إزالة النجاسة، وهو رواية عن أحمد في الإزالة، لكن أبو حنيفة رأى مجرد الوصول منجسًا، وجمهور الأئمة خالفوا في ذلك فلم يروا الوصول منجسًا، مع الكثرة‏.‏
وتنازعوا في القليل‏.‏
إذ من الفقهاء من رأى أن مقتضى الدليل أن الخبث إذا وقع في الطيب أفسده، ومنهم من قال‏:‏ إنما يفسده إذا كان قد ظهر أثره، فأما إذا استهلك فيه واستحال فلا وجه لإفساده، كما لو انقلبت الخمرة خلاً بغير قصد آدمى فإنها طاهرة حلال باتفاق الأئمة، لكن مذهبه في الماء معروف، وعلى هذا أدلة قد بسطناها في غير هذا الموضع، ولا دليل على نجاسته لا في كتاب الله ولا سنة رسوله‏.‏
وعمدة الذين نجسوه، احتجاجهم بحـديث رواه أبو داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال‏:‏ ‏(‏إن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم، وإن كان مائعًا فلا تقـربوه‏)‏، وهذا الحديث إنما يدل لو دل على نجاسة السمن الذي وقع فيه الفأرة، فكيف والحديث ضعيف‏؟‏‏!‏ بل باطل غلط فيه معمر على الزهري غلطًا معروفًا عند النقاد الجهابذة، كما ذكره الترمذي عن البخاري‏.‏
ومن اعتقد من الفقهاء أنه على شرط الصحيح، فلم يعلم العلة الباطنة فيه التي توجب العلم ببطلانه، فإن علم العلل من خواص علم أئمة الحديث‏.‏ ولهذا بين البخاري في صحيحه ما يوجب فساد هذه الرواية، وأن الحديث الصحيح هو على طهارته أدل منه على النجاسة فقال‏:‏
‏[‏باب‏:‏ إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب‏]‏
حدثنا عبدان، قال‏:‏ حدثنا عبد الله ـ يعني ابن المبارك ـ عن يونس، عن الزهري‏:‏ أنه سئل عن الدابة التي تموت في الزيت أو السمن وهو جامـد‏.‏ أو غير جامـد ـ الفأرة أو غيرها ـ قال‏:‏ بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بفأرة ماتت في سمن فأمر بما قرب منها فطرح ثم أكل‏.‏ وفي حديث عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة قال‏:‏ سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن فأرة وقعت في سمـن فقـال‏:‏ ‏(‏ألقوها وما حولها وكلوه‏)‏ فذكر البخاري عن ابن شهاب الزهري ـ أعلم الأمة بالسنة في زمانه ـ أنه أفتى في الزيت والسمن الجامد وغير الجامد إذا ماتت فيه الفأرة أنها تطرح وما قرب منها‏.‏
واستدل بالحديث الذي رواه عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال‏:‏ ‏(‏ألقوها وما حولها وكلوه‏)‏ ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن كان مائعًا فلا تقربوه، بل هذا باطل‏.‏ فذكر البخاري ـ رضى الله عنه ـ هذا ليبين أن من ذكر عن الزهري أنه روي في هذا الحديث هذا التفصيل فقد غلط عليه، فإنه أجاب بالعموم، في الجامد والذائب، مستدلا بهذا الحديث بعينه، لاسيما والسمن بالحجاز يكون ذائبًا أكثر مما يكون جامدًا، بل قيل‏:‏ إنه لا يكون بالحجاز جامدًا بحال‏.‏
فإطـلاق النبي صلى الله عليه وسلم الجـواب مـن غير تفصيل يـوجب العمـوم؛ إذ الـسؤال كالمعـاد في الجـواب، فكأنـه قـال‏:‏ إذا وقعت الفأرة في السمن فألقوها وما حولها وكلوا سمنكم، وترك الاستفصال في حكايـة الحـال مع قيـام الاحتمال يتـنزل منزلـة العمـوم في المقـال‏.‏ هـذا إذا كـان السمـن بالحجاز يكـون جامـدًا ويكـون ذائبًا، فـأمـا إن كـان وجـود الجامـد نادرًا أو معـدومـًا، كان الحـديث نصًا في أن السمـن الذائب إذا وقعت فيـه الفـأرة فـإنها تلقى ومـا حـولها ويؤكـل‏.‏ ولذلك أجـاب الزهري فـإن مـذهبـه أن الماء لا ينجس قليله ولا كثـيره إلا بالتغـير، وقـد ذكر البخاري في أوائـل الصحيـح‏:‏ التسويـة بين الماء والمائعات‏.‏
وقـد بسطنا الكـلام في هـذه المسألـة ودلائلها، وكـلام العلماء فيها في غير هذا الموضـع‏.‏ كيف وفي تنجيـس مثـل ذلك وتحريمـه من فساد الأطعمة العظيمة، وإتلاف الأمـوال العظيمـة القـدر، مـا لا تأتى بمثلـه الشريعة الجامعة للمحاسن كلها‏.‏ والله ـ سبحانه ـ إنما حـرم علينا الخبائث تنزيهًا لنا عن المضار، وأباح لنا الطيبات كلها لم يحرم علينا شـيئًا مـن الطيبات، كما حرم على أهـل الكتاب ـ بظلمهم ـ طيبات أحلت لهم‏.‏ ومـن استقـرأ الشريعـة في مـواردها ومصادرها واشتمالها على مصالح العباد في المبدأ والمعاد، تبين له من ذلك ما يهديه الله إليه ‏{وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ}‏ ‏[‏النور‏:‏ 40‏]‏، والله ـ سبحانه ـ أعلم‏.‏ والحـمد للَّه وحده وصـلاته على محمـد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا‏.