حكم منى الإنسان وغيره : تابع: القول في طهارة الأرواث والأبوال
 
الفصل الأول
القول في طهارة الأرواث والأبوال من الدواب والطير التي لم تحرم وعلى ذلك عدة أدلة‏:‏
الدليل الأول‏:‏ أن الأصل الجامع طهارة جميع الأعيان حتى تتبين نجاستها، فكل ما لم يبين لنا أنه نجس فهو طاهر، وهذه الأعيان لم يبين لنا نجاستها فهي طاهرة‏.‏ أما الركن الأول من الدليل، فقد ثبت بالبراهين الباهرة والحجج القاهرة‏.‏ وأما الثاني فنقول‏:‏ إن المنفي على ضربين‏:‏ نفي نحصره ونحيط به، كعلمنا بأن السماء ليس فيها شمسان ولا قمران طالعان، وأنه ليس لنا إلا قبلة واحدة، وأن محمدًا لا نبي بعده، بل علمنا أنه لا إله إلا الله، وأن ما ليس بين اللوحين ليس بقرآن، وأنه لم يفرض إلا صوم شهر رمضان، وعلم الإنسان أنه ليس في دراهم قبل ولا تغير، وأنه لم يطعم، وأنه البارحة لم ينم، وغير ذلك مما يطول عده، فهذا كله نفي مستيقن يبين خطأ من يطلق قوله‏:‏ لا تقبل الشهادة على النفي‏.‏
الثاني‏:‏ ما لا يستيقن نفيه وعدمه‏.‏ ثم منه ما يغلب على القلب ويقوى في الرأى، ومنه ما لا يكون كذلك‏.‏ فإذا رأينا حكمًا منوطًا بنفي من الصنف الثاني، فالمطلوب أن نرى النفي ويغلب على قلوبنا‏.‏
والاستدلال بالاستصحاب وبعدم المخصص وعدم الموجب لحمل الكلام على مجازه هو من هذا القسم‏.‏ فإذا بحثنا وسبرنا عما يدل على نجاسة هذه الأعيان والناس يتكلمون فيها منذ مئات من السنين فلم نجد فيها إلا أدلة معروفة‏.‏ شهدنا شهادة جازمة في هذا المقام بحسب علمنا ألا دليل إلا ذلك‏.‏
فنقول‏:‏ الاستدلال بهذا الدليل إنما يتم بفسخ ما استدل به على النجاسة، ونقض ذلك‏.‏ وقد احتج لذلك بمسلكين‏:‏ أثرى ونظرى‏:‏
أما الأثري‏:‏ فحديث ابن عباس المخرج في الصحيحين‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال‏:‏ ‏(‏إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير‏.‏ أما أحدهما فكان لا يستتر من البول‏)‏ وروى‏:‏ ‏(‏لا يستنزه ـ‏)‏ والبول اسم جنس محلى باللام، فيوجب العموم‏.‏ كالإنسان في قوله‏:‏ ‏{إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}‏‏[‏العصر‏:‏ 2، 3‏]‏، فإن المرتضى أن أسماء الأجناس تقتضي من العموم ما تقتضيه أسماء الجموع، لست أقول‏:‏ الجنس الذي يفصل بين واحده وكثيره الهاء ـ كالتمر، والبر، والشجر ـ فإن حكم تلك حكم الجموع بلا ريب‏.‏ وإنما أقول‏:‏ اسم الجنس المفرد الدال على الشيء، وعلى ما أشبهه ـ كإنسان ورجل، وفرس، وثوب، وشبه ذلك‏.‏
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بالعذاب من جنس البول، وجب الاحتراز والتنزه من جنس البول، فيجمع ذلك أبوال جميع الدواب، والحيوان الناطق، والبهيم، ما يؤكل وما لا يؤكل، فيدخل بول الأنعام في هذا العموم، وهو المقصود‏.‏
وهذا قد اعتمد عليه بعض من يدعى الاستدلال بالسمع، وبعض الرأى، وارتضاه بعض من يتكايس، وجعله مفزعًا وموئلاً‏.‏
المسلك الثاني النظري‏:‏ وهو من ثلاثة أوجه‏:‏
أحدها‏:‏ القياس على البول المحرم فنقول‏:‏ بول، وروث، فكان نجسًا كسائر الأبوال، فيحتاج هذا القياس أن يبين أن مناط الحكم في الأصل هو أنه بول وروث، وقد دل على ذلك تنبيهات النصوص مثل قوله‏:‏ ‏(‏اتقـوا البول‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏كان بنـو إسرائيل إذا أصاب ثوب أحدهم البول قرضه بالمقراض‏)‏‏.‏
والمناسبة ـ أيضًا ـ‏:‏ فإن البول والروث مستخبث مستقذر، تعافه النفوس، على حد يوجب المباينة، وهذا يناسب التحريم، حملا للناس على مكارم الأخلاق، ومحاسن الأحوال، وقد شهد له بالاعتبار تنجس أرواث الخبائث‏.‏
الثاني‏:‏ أن نقول‏:‏ إذا فحصنا وبحثنا عن الحد الفاصل بين النجاسات والطهارات، وجدنا ما استحال في أبدان الحيوان عن أغذيتها، فما صار جزءًا فهو طيب الغذاء، وما فضل فهو خبيثه؛ ولهذا يسمى رجيعًا‏.‏ كأنه أخذ ثم رجع أى رد‏.‏ فما كان من الخبائث يخرج من الجانب الأسفل‏:‏ كالغائط والبول والمني والوذي والودي، فهو نجس‏.‏ وما خرج من الجانب الأعلى‏:‏ كالدمع والريق والبصاق والمخاط ونخامة الرأس، فهو طاهر‏.‏ وما تردد كبلغم المعدة ففيه تردد‏.‏
وهذا الفصل بين ما خرج من أعلى البدن، وأسفله، قد جاء عن سعيد بن المسيب ونحوه، وهو كلام حسن في هذا المقام الضيق‏.‏ الذي لم يفقه كل الفقه، حتى زعم زاعمون أنه تعبد محض وابتلاء، وتمييز بين من يطيع وبين من يعصى‏.‏
وعندنا أن هذا الكلام لا حقيقة له بمفرده، حتى يضم إليه أشياء أخر، فَرَّق من فَرَّق بين ما استحال في معدة الحيوان كالروث والقىء وما استحال من معدته كاللبن‏.‏
وإذا ثبت ذلك، فهذه الأبوال والأرواث مما يستحيل في بدن الحيوان، وينصع طيبه، ويخرج خبيثه من جهة دبره وأسفله، ويكون نجسا‏.‏ فإن فرق بطيب لحم المأكول، وخبث لحم المحرم، فيقال‏:‏ طيب الحيوان وشرفه وكرمه لا يوجب طهارة روثه، فإن الإنسان إنما حرم لحمه كرامة له وشرفا، ومع ذلك فبوله أخبث الأبوال‏.‏
ألا ترى أنكم تقولون‏:‏ إن مفارقة الحياة لا تنجسه، وأن ما أبين منه ـ وهو حى فهو طاهر ـ أيضًا كما جاء في الأثر ـ وإن لم يؤكل لحمه ـ فلو كان إكرام الحيوان موجبًا لطهارة روثه، لكان الإنسان في ذلك القدح المعلى‏.‏ وهذا سر المسألة ولبابها‏.‏
الوجه الثالث‏:‏ أنه في الدرجة السفلى من الاستخباث، والطبقة النازلة من الاستقذار‏.‏ كما شهد به أنفس الناس، وتجده طبائعهم وأخلاقهم، حتى لا نكاد نجد أحدًا ينزله منزلة در الحيوان ونسله، وليس لنا إلا طاهر، أو نجس‏.‏ وإذا فارق الطهارات، دخل في النجاسات، والغالب عليه أحكام النجاسات ـ من مباعدته ومجانبته ـ فلا يكون طاهرًا؛ لأن العين إذا تجاذبتها الأصول، لحقت بأكثرها شبهًا، وهو متردد بين اللبن وبين غيره من البول، وهو بهذا أشبه‏.‏
ويقـوى هـذا أنـه قـال تعالى‏:‏ ‏{مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 66‏]‏، قد ثبت أن الدم نجس، فكذلك الفرث؛ لتظهر القدرة والرحمة في إخراج طيب من بين خبيثين‏.‏ ويبين هذا جميعه أنه يوافق غيره من البول في خلقه ولونه وريحه وطعمـه، فكيف يفـرق بينهما مع هـذه الجوامع التي تكاد تجعل حقيقة أحدهما حقيقة الآخر‏؟‏‏!‏
فالوجه الأول‏:‏ قياس التمثيل وتعليق الحكم بالمشترك المدلول عليه‏.‏
والثاني‏:‏ قياس التعليل بتنقيح مناط الحكم وضبط أصل كلي‏.‏
والثالث‏:‏ التفريق بينه وبين جنس الطاهرات فلا يجوز إدخاله فيها، فهذه أنواع القياس‏:‏ أصل ووصل وفصل‏.‏
فالوجه الأول‏:‏ هو الأصل، والجمع بينه وبين غيره من الأخباث‏.‏
والثاني‏:‏ هو الأصل والقاعدة، والضابط الذي يدخل فيه‏.‏
والثالث‏:‏ الفصل بينه وبين غيره من الطاهرات، وهو قياس العكس فالجواب عن هذه الحجج، والله المستعان‏.‏
أما المسلك الأول‏:‏ فضعيف جدًا لوجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ أن اللام في البول للتعريف، فتفيد ما كان معروفًا عند المخاطبين، فإن كان المعروف واحدًا معهودًا فهو المراد‏.‏ وما لم يكن ثم عهد بواحد، أفادت الجنس؛ إما جميعه على المرتضى، أو مطلقه على رأي بعض الناس، وربما كانت كذلك‏.‏ وقد نص أهل المعرفة باللسان والنظر في دلالات الخطاب أنه لا يصار إلى تعريف الجنس إلا إذا لم يكن ثم شيء معهود، فأما إذا كان ثَمَّ شيء معهود مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 15، 16‏]‏، صار معهودًا بتقدم ذكره، وقوله‏:‏ ‏{لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ}‏ ‏[‏النور‏:‏ 63‏]‏، هو معين؛ لأنه معهود بتقدم معرفته وعلمه، فإنه لا يكون لتعريف جنس ذلك الاسم حتى ينظر فيه، هل يفيد تعريف عموم الجنس، أو مطلق الجنس فافهم هذا، فإنه من محاسن المسالك‏.‏
فإن الحقائق ثلاثة‏:‏ عامة، وخاصة، ومطلقة‏.‏
فإذا قلت‏:‏ الإنسان، قد تريد جميع الجنس، وقد تريد مطلق الجنس، وقد تريد شيئًا بعينه من الجنس‏.‏
فأما الجنس العام، فوجوده في القلوب والنفوس علمًا ومعرفة وتصورا‏.‏
وأما الخاص من الجنس‏:‏ مثل زيد وعمرو، فوجوده هو حيث حل، وهو الذي يقال له وجود في الأعيان، وفي خارج الأذهان وقد يتصور هكذا في القلب خاصًا متميزا‏.‏
وأما الجنس المطلق مثل الإنسان المجرد عن عموم وخصوص، الذي يقال له نفس الحقيقة، ومطلق الجنس، فهذا كما لا يتقيد في نفسه، لا يتقيد بمحله، إلا أنه لا يدرك إلا بالقلوب، فتجعل محلا له بهذا الاعتبار، وربما جعل موجودا في الأعيان باعتبار أن في كل إنسان حظًا من مطلق الإنسانية فالموجود في العين المعينة من النوع حظها وقسطها‏.‏
فإذا تبين هذا، فقوله‏:‏ فإنه كان لا يستنزه من البول، بيان للبول المعهود، وهو الذي كان يصيبه، وهو بول نفسه‏.‏ يدل على هذا ـ أيضًا ـ سبعة أوجه‏:‏
أحدها‏:‏ ما روى، ‏(‏فإنه كان لا يستبرئ من البول‏)‏ والاستبراء لا يكون إلا من بول نفسه؛ لأنه طلب براءة الذكر، كاستبراء الرحم من الولد‏.‏
الثاني‏:‏ أن اللام تعاقب الإضافة، فقوله‏:‏ ‏(‏من البول‏)‏ كقوله‏:‏ من بوله، وهذا مثل قوله‏:‏ ‏{مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ}‏ ‏[‏ص‏:‏ 50‏]‏، أي أبوابها‏.‏
الثالث‏:‏ أنه قد روى هذا الحديث من وجوه صحيحة‏:‏ ‏(‏فكان لا يستتر من بوله‏)‏ وهذا يفسر تلك الرواية‏.‏
ثم هذا الاختلاف في اللفظ متأخر‏:‏ عن منصور، روى الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس‏.‏ ومعلوم أن المحدث لا يجمع بين هذين اللفظين، والأصل والظاهر عدم تكرر قول النبي صلى الله عليه وسلم فعلم أنهم رووه بالمعنى، ولم يبن أى اللفظين هو الأصل‏.‏
ثم إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال اللفظين، مع أن معنى أحدهما يجوز أن يكون موافقًا لمعنى الآخر، ويجوز أن يكون مخالفًا، فالظاهر الموافقة‏.‏ يبين هذا أن الحديث في حكاية حال لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين، ومعلوم أنها قضية واحدة‏.‏
الرابع‏:‏ أنه إخبار عن شخص بعينه أن البول كان يصيبه، ولا يستتر منه‏.‏ ومعلوم أن الذي جرت العادة به بول نفسه‏.‏
الخامس‏:‏ أن الحسن قال‏:‏ البول كله نجس، وقال ـ أيضًا ـ‏:‏ لا بأس بأبوال الغنم، فعلم أن البول المطلق عنده هو بول الإنسان‏.‏
السادس‏:‏ أن هذا هو المفهوم للسامع عند تجرد قلبه عن الوسواس والتمريح، فإنه لا يفهم من قوله‏:‏ فإنه كان لا يستتر من البول إلا بول نفسه‏.‏ ولو قيل‏:‏ إنه لم يخطر لأكثر الناس على بالهم جميع الأبوال‏:‏ من بول بعير، وشاة وثور، لكان صدقًا‏.‏
السابع‏:‏ أنه يكفي بأن يقال‏:‏ إذا احتمل أن يريد بول نفسه؛ لأنه المعهود، وأن يريد جميع جنس البول، لم يجز حمله على أحدهما إلا بدليل، فيقف الاستدلال‏.‏ وهذا ـ لعمرى ـ تنزل، وإلا فالذي قدمنا أصل مستقر، من أنه يجب حمله على البول المعهود، وهو نوع من أنواع البول، وهو بول نفسه الذي يصيبه غالبًا، ويترشرش على أفخاذه وسوقه، وربما استهان بإنقائه، ولم يحكم الاستنجاء منه‏.‏ فأما بول غيره من الأدميين، فإن حكمه ـ وإن ساوى حكم بول نفسه ـ فليس ذلك من نفس هذه الكلمة، بل لاستوائهما في الحقيقة، والاستواء في الحقيقة يوجب الاستواء في الحكم‏.‏ ألا ترى أن أحدا لا يكاد يصيبه بول غيره، ولو أصابه لساءه ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عن أمر موجود غالب في هذا الحديث، وهو قوله‏:‏ ‏(‏اتقوا البول فإن عامة عذاب القبر منه‏)‏ فكيف يكون عامة عذاب القبر من شيء لا يكاد يصيب أحدًا من الناس، وهذا بين لا خفاء به‏.‏
الوجه الثاني‏:‏ أنه لو كان عامًا في جميع الأبوال، فسوف نذكر من الأدلة الخاصة على طهارة هذا النوع ما يوجب اختصاصه من هذا الاسم العام‏.‏ ومعلوم من الأصول المستقرة إذا تعارض الخاص والعام فالعمل بالخاص أولى؛ لأن ترك العمل به إبطال له وإهدار، والعمل به ترك لبعض معانى العام، وليس استعمال العام وإرادة الخاص ببدع في الكلام، بل هو غالب كثير‏.‏
ولو سلمنا التعارض على التساوي من هذا الوجه، فإن في أدلتنا من الوجوه الموجبة للتقديم والترجيح وجوها أخرى من الكثرة والعمل، وغير ذلك مما سنبينه ـ إن شاء الله تعالى‏.‏ومن عجيب ما اعتمد عليه بعضهم، قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أكثر عذاب القبر من البول‏)‏‏.‏ والقول فيه كالقول فيما تقدم ـ مع أنا نعلم إصابة الإنسان بول غيره قليل نادر، وإنما الكثير إصابته بول نفسه‏.‏ ولو كان أراد أن يدرج بوله في الجنس الذي يكثر وقوع العذاب بنوع منه، لكان بمنزلة قوله أكثر عذاب القبر من النجاسات‏.‏
واعتمد ـ أيضًا ـ على قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يصلي أحدكم بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان‏)‏ يعنى البـول والنجـو‏.‏ وزعـم أن هذا يفيد تسمية كل بول ونجو أخبث، والأخبث حرام نجس، وهذا في غاية السقوط؛ فإن اللفظ ليس فيه شمول لغير ما يدافع أصلا‏.‏ وقوله‏:‏ إن الاسم يشمل الجنس كله‏.‏ فيقال له‏:‏ وما الجنس العام‏؟‏ أكل بول ونجو‏؟‏ أم بول الإنسان ونجوه‏؟‏ وقد علم أن الذي يدافع كل شخص من جنس الذي يدافع غيره، فأما ما لا يدافع أصلا، فلا مدخل له في الحديث، فهذه عمدة المخالف‏.‏
وأما المسلك النظري‏:‏ فالجواب عنه من طريقين‏:‏ مجمل، ومفصل‏.‏
أما المفصل فالجواب عن الوجه الأول من وجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ لا نسلم أن العلة في الأصل أنه بول وروث، وما ذكروه من تنبيه النصوص، فقد سلف الجـواب بأن المراد بها بـول الإنسان‏.‏ ومـا ذكروه مـن المناسبة فنقول‏:‏ التعليل‏:‏ إما أن يكون بجنس استخباث النفس واستقذارها، أو بقدر محدود من الاستخباث والاستقذار‏.‏
فإن كان الأول، وجب تنجيس كل مستخبث مستقذر، فيجب نجاسة المخاط والبصاق والنخامة، بل نجاسة المني الذي جاء الأثر بإماطته من الثياب، بل ربما نفرت النفوس عن بعض هذه الأشياء أشد من نفورها عن أرواث المأكول من البهائم، مثل مخطة المجذوم إذا اختلطت بالطعام، ونخامة الشيخ الكبير إذا وضعت في الشراب، وربما كان ذلك مدعاة لبعض الأنفس إلى أن يذرعه القيء‏.‏
وإن كان التعليل بقدر موقت من الاستقذار، فهذا قد يكون حقًا لكن لابد من بيان الحد الفاصل بين القدر من الاستخباث الموجب للتنجيس، وبين ما لا يوجب، ولم يبين ذلك، ولعل هذه الأعيان مما ينقض بيان استقذارها الحد المعتبر‏.‏
ثم إن التقديرات في الأسباب والأحكام إنما تعلم من جهة استقذارها عن الشرع في الأمـر الغالب، فنقـول‏:‏ متى حكم بنجاسة نوع علمنا أنه مما غلظ استخباثه، ومتى لم يحكم بنجاسة نوع، علمنا أنه لم يغلظ استخباثه فنعود مستدلين بالحكم على المعتبر من العلة، فمتى استربنا في الحكم فنحن في العلة أشد استرابة، فبطل هذا‏.‏ وأما الشاهد بالاعتبار، فكما أنه شهد لجنس الاستخباث، شهد للاستخباث الشديد، والاستقذار الغليظ‏.‏
وثانيهما‏:‏ أن نقـول‏:‏ لم لا يجوز أن تكون العلة في الأصل أنه بول ما يؤكل لحمه‏؟‏ وهـذه علة مطـردة بالإجماع منا ومـن المخالفـين لنا في هـذه المسألـة والانعكـاس ـ إن لم يكـن واجبًا ـ فقـد حصل الغـرض‏.‏ وإن كـان شـرطًا في العـلل، فنقـول فيه ما قالوا في اطراد العلة وأولى، حيث خولفوا فيه وعدم الانعكاس أيسر من عدم الاطراد‏.‏
وإذا افترق الصنفان في اللحم والعظم واللبن والشعر، فلم لا يجوز افتراقهما في الروث الروث والبول، وهـذه المناسبـة أبين ‏؟‏ فإن كل واحد من هذه الأجزاء هو بعض من أبعاض