حكم منى الإنسان وغيره : سئل: عن الكلب هل هو طاهر أم نجس‏؟
 
وسُئِلَ عن الكلب هل هو طاهر، أم نجس‏؟‏ وما قول العلماء فيه‏؟‏
فأجاب‏:‏
أما الكلب، فللعلماء فيه ثلاثة أقوال معروفة‏:‏
أحدها‏:‏ أنه نجس كله حتي شعره، كقول الشافعي، وأحمد في إحدي الروايتين عنه‏.‏
والثاني‏:‏ أنه طاهر حتي ريقه، كقول مالك في المشهور عنه‏.‏
والثالث‏:‏ أن ريقه نجس، وأن شعره طاهر، وهذا مذهب أبي حنيفة المشهور عنه، وهذه هي الرواية المنصورة عند أكثر أصحابه، وهو الرواية الأخري عن أحمد وهذا أرجح الأقوال‏.‏ فإذا أصاب الثوب أو البدن رطوبة شعره، لم ينجس بذلك، وإذا ولغ في الماء أريق، وإذا ولغ في اللبن ونحوه، فمن العلماء من يقول‏:‏ يؤكل ذلك الطعام كقول مالك وغيره‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ يراق، كمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد‏.‏فأما إن كان اللبن كثيرًا، فالصحيح أنه لا ينجس‏.‏ وله في الشعور النابتة على محل نجس ثلاث روايات‏:‏
إحداها‏:‏ أن جميعها طاهر حتي شعر الكلب والخنزير، وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز‏.‏
والثانية‏:‏ أن جميعها نجس، كقول الشافعي‏.‏
والثالثة ‏:‏ أن شعر الميتة إن كانت طاهرة في الحياة كان طاهرًا كالشاة والفأرة، وشعر ما هو نجس في حال الحياة نجس‏:‏ كالكلب والخنزير، وهذه هي المنصوصة عند أكثر أصحابه‏.‏
والقول الراجح‏:‏هو طهارة الشعور كلها‏:‏ شعر الكلب والخنزير وغيرهما،بخلاف الريق‏.‏ وعلى هذا، فإذا كان شعر الكلب رطبا وأصاب ثوب الإنسان، فلا شيء عليه، كما هو مذهب جمهور الفقهاء‏:‏ كأبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدي الروايتين عنه، وذلك لأن الأصل في الأعيان الطهارة، فلا يجوز تنجيس شيء ولا تحريمه إلا بدليل‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 119‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 115‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إن من أعظم المسلمين بالمسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته‏)‏‏.‏ وفي السنن عن سلمان الفارسي مرفوعًا ـ ومنهم من يجعله موقوفًا ـ أنه قال‏:‏ ‏(‏الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه‏)‏‏.‏
وإذا كان كذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعًا، أولاهن بالتراب‏)‏، وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏إذا ولغ الكلب‏)‏‏.‏ فأحاديثه كلها ليس فيها إلا ذكر الولوغ، لم يذكر سائر الأجزاء، فتنجيسها إنما هو بالقياس‏.‏
فإذا قيل‏:‏ إن البول أعظم من الريق، كان هذا متوجها‏.‏
وأما إلحاق الشعر بالريق فلا يمكن؛ لأن الريق متحلل من باطن الكلب، بخلاف الشعر، فإنه نابت على ظهره‏.‏
والفقهاء كلهم يفرقون بين هذا، وهذا‏.‏ فإن جمهورهم يقولون‏:‏ إن شعر الميتة طاهر، بخلاف ريقها‏.‏ والشافعي وأكثرهم يقولون‏:‏ إن الزرع النابت في الأرض النجسة طاهر، فغاية شعر الكلب أن يكون نابتًا في منبت نجس، كالزرع النابت في الأرض النجسة، فإذا كان الزرع طاهراً فالشعر أولي بالطهارة؛ لأن الزرع فيه رطوبة ولين يظهر فيه أثر النجاسة، بخلاف الشعر فإن فيه من اليبوسة والجمود ما يمنع ظهور ذلك‏.‏ فمن قال من أصحاب أحمد كابن عقيل وغيره‏:‏ إن الزرع طاهر فالشعر أولي، ومن قال‏:‏ إن الزرع نجس فإن الفرق بينهما ما ذكر، فإن الزرع يلحق بالجلالة التي تأكل النجاسة، وهذا ـ أيضا ـ حجة في المسألة، فإن الجلالة التي تأكل النجاسة، قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبنها فإذا حبست حتي تطيب كانت حلالا باتفاق المسلمين؛ لأنها قبل ذلك يظهر أثر النجاسة في لبنها وبيضها وعرقها، فيظهر نتن النجاسة وخبثها، فإذا زال ذلك عادت طاهرة، فإن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها‏.‏ والشعر لا يظهر فيه شيء من آثار النجاسة أصلا، فلم يكن لتنجيسه معني‏.‏
وهذا يتبين بالكلام في شعور الميتة كما سنذكره ـ إن شاء اللّه تعالى‏.‏
وكل حيوان قيل بنجاسته، فالكلام في شعره وريشه كالكلام في شعر الكلب، فإذا قيل‏:‏ بنجاسة كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير إلا الهرة، وما دونها في الخلقة، كما هو مذهب كثير من العلماء ـ علماء أهل العراق ـ وهو أشهر الروايتين عن أحمد فإن الكلام في ريش ذلك وشعره فيه هذا النزاع‏:‏ هل هو نجس‏؟‏ على روايتين عن أحمد‏:‏
إحداهما ‏:‏ أنه طاهر، وهو مذهب الجمهور كأبي حنيفة والشافعي ومالك‏.‏
والرواية الثانية‏:‏ أنه نجس، كما هو اختيار كثير من متأخري أصحاب أحمد، والقول بطهارة ذلك هو الصواب كما تقدم‏.‏
وأيضًا، فالنبي صلى الله عليه وسلم رخص في اقتناء كلب الصيد، والماشية، والحرث، ولابد لمن اقتناه أن يصيبه رطوبة شعوره كما يصيبه رطوبة البغل والحمار وغير ذلك، فالقول بنجاسة شعورها والحال هذه من الحرج المرفوع عن الأمة‏.‏
وأيضاً، فإن لعاب الكلب إذا أصاب الصيد لم يجب غسله في أظهر قولي العلماء، وهو إحدي الروايتين عن أحمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحداً بغسل ذلك، فقد عفي عن لعاب الكلب في موضع الحاجة، وأمر بغسله في غير موضع الحاجة، فدل على أن الشارع راعي مصلحة الخلق، وحاجتهم‏.‏ واللّه أعلم‏.‏