باب حكم الصلاة : سئل: عمن ترك صلاة واحدة عمدًا بنية أنه يفعلها بعد خروج وقتها قضاء؟
 
وسئل عمن ترك صلاة واحدة عمدًا بنية أنه يفعلها بعد خروج وقتها قضاء، فهل يكون فعله كبيرة من الكبائر‏؟‏
فأجاب‏:‏
الحمد لله، نعم تأخير الصلاة عن غير وقتها الذي يجب فعلها فيه عمدًا من الكبائر، بل قد قال عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ ‏:‏ الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر‏.‏ وقد رواه الترمذي مرفوعًا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه/ قال‏:‏ ‏[‏من جمع بين الصلاتين من غير عذر، فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر‏]‏‏.‏
ورفع هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان فيه نظر‏.‏ فإن الترمذي قال‏:‏ العمل على هذا عند أهل العلم، والأثر معروف، وأهل العلم ذكروا ذلك مقرين له، لا منكرين له‏.‏
وفى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏من فاتته صلاة العصر، فقد حبط عمله‏]‏، وحبوط العمل لا يتوعد به إلا على ما هو من أعظم الكبائر، وكذلك تفويت العصر أعظم من تفويت غيرها، فإنها الصلاة الوسطى المخصوصة بالأمر بالمحافظة عليها، وهى التي فرضت على من كان قبلنا فضيعوها، فمن حافظ عليها، فله الأجر مرتين، وهى التي لما فاتت سليمان فعل بالخيل ما فعل‏.‏
وفى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ أيضًا ـ أنه قال‏:‏ ‏[‏من فاتته صلاة العصر فكأنما وَتِرَ أهله وماله‏]‏‏.‏ والموتور أهله وماله يبقى مسلوبًا ليس له ما ينتفع به من الأهل والمال، وهو بمنزلة الذي حبط عمله‏.‏
وأيضًا، فإن الله تعالى يقول ‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ‏}‏‏[‏الماعون‏:‏4، 5‏]‏، فتوعد بالويل لمن يسهو عن الصلاة حتى يخرج وقتها وإن صلاها بعد ذلك، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا‏}‏‏[‏مريم‏:‏59‏]‏، وقد سألوا ابن مسعود عن إضاعتها فقال‏:‏ هو تأخيرها حتى يخرج وقتها، فقالوا‏:‏ ما كنا نرى ذلك إلا تركها، فقال‏:‏ لو تركوها لكانوا كفارًا، وقد كان ابن مسعود يقول عن بعض أمراء الكوفة في زمانه‏:‏ ما فعل خلفكم‏؟‏ لكونهم كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ‏}‏ يتناول كل من استعمل ما يشتهيه عن المحافظة عليها في وقتها، سواء كان المشتهى من جنس المحرمات، ـ كالمأكول المحرم، والمشروب المحرم، والمنكوح المحرم، والمسموع المحرم ـ أو كان من جنس المباحات لكن الإسراف فيه ينهى عنه، أو غير ذلك، فمن اشتغل عن فعلها في الوقت بلعب أو لهو أو حديث مع أصحابه، أو تنزه في بستانه، أو عمارة عقاره، أو سعى في تجارته، أو غير ذلك، فقد أضاع تلك الصلاة، واتبع ما يشتهيه‏.‏
وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏‏[‏المنافقون‏:‏ 9‏]‏، ومن ألهاه ماله وولده عن فعل المكتوبة في وقتها، دخل في ذلك، فيكــون خاسرًا‏.‏ وقال تعالى في ضد هؤلاء‏:‏ ‏{‏يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ‏.‏ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ‏}‏‏[‏النور‏:‏36،37‏]‏‏.‏
فإذا كان ـ سبحانه ـ قد توعد بلقى الغى من يضيع الصلاة عن وقتها ويتبع الشهوات، والمؤخر لها عن وقتها مشتغلاً بما يشتهيه هو مضيع لها متبع لشهوته‏.‏ فدل ذلك على أنه من الكبائر، إذ هذا الوعيد لا يكون إلا على كبيرة، ويؤيد ذلك جعله خاسرًا، والخسران لا يكون بمجرد الصغائر المكفرة باجتناب الكبائر‏.‏
وأيضًا، فلا‏.‏‏.‏‏.‏ أحدًا من صلى بلا طهارة، أو إلى غير القبلة عمدًا، وترك الركوع والسجود أو القراءة أو غير ذلك متعمدًا، أنه قد فعل بذلك كبيرة، بل قد يتورع في كفره إن لم يستحل ذلك، وأما إذا استحله فهو كافر بلا ريب‏.‏
ومعلوم أن الوقت للصلاة مقدم على هذه الفروض وغيرها، فإنه لا نزاع بين المسلمين أنه إذا علم المسافر العادم للماء أنه يجده بعد الوقت لم يجز له تأخير الصلاة ليصليها بعد الوقت بوضوء، أو غسل؛ بل ذلك هو الفرض وكذلك العاجز عن الركوع والسجود والقراءة إذا استحله فهو كافر بلا ريب‏.‏
/ومعلوم أنه إن علم أنه بعد الوقت يمكنه أن يصلى بإتمام الركوع والسجود والقراءة، كان الواجب عليه أن يصلى في الوقت لإمكانه‏.‏
وأما قول بعض أصحابنا‏:‏ إنه لا يجوز تأخيرها عن وقتها إلا لناوٍ لجمعها أو مشتغل بشرطها، فهذا لم يقله قبله أحد من الأصحاب، بل ولا أحد من سائر طوائف المسلمين، إلا أن يكون بعض أصحاب الشافعي، فهذا أشك فيه‏.‏ ولا ريب أنه ليس على عمومه وإطلاقه بإجماع المسلمين، وإنما فيه صورة معروفة، كما إذا أمكن الواصل إلى البئر أن يضع حبلاً يستقى، ولا يفرغ إلا بعد الوقت، وإذا أمكن العريان أن يخيط له ثوبًا ولا يفرغ إلا بعد الوقت، ونحو هذه الصور‏.‏ ومع هذا، فالذي قاله في ذلك خلاف المذهب المعروف عن أحمد وأصحابه وخلاف قول جماعة علماء المسلمين من الحنفية والمالكية وغيرهم‏.‏
وما أعلم من يوافقه على ذلك إلا بعض أصحاب الشافعي، ومن قال ذلك فهو محجوج بإجماع المسلمين على أن مجرد الاشتغال بالشرط لا يبيح تأخير الصلاة عن وقتها المحدود شرعًا، فإنه لو دخل الوقت وأمكنه أن يطلب الماء وهو لا يجده إلا بعد الوقت، لم يجز له التأخير باتفاق المسلمين، وإن كان مشتغلاً بالشرط‏.‏ وكذلك العريان لو أمكنه أن يذهب إلى قرية ليشترى له منها ثوبًا، وهو لا يصل إلا بعد خروج الوقت،لم يجز له التأخير بلا نزاع‏.‏
/والأمي كذلك إذا أمكنه تعلم الفاتحة وهو لا يتعلمها حتى يخرج الوقت، كان عليه أن يصلى في الوقت، وكذلك العاجز عن تعلم التكبير والتشهد إذا ضاق الوقت صلى بحسب الإمكان، ولم ينتظر وكذلك المستحاضة لو كان دمها ينقطع بعد الوقت ، لم يجز لها أن تؤخر الصلاة لتصلي بطهارة بعد الوقت ، بل تصلي في الوقت بحسب الإمكان‏.‏
وأما حيث جاز الجمع فالوقت واحد، والمؤخرليس بمؤخر عن الوقت الذي يجوز فعلها فيه، بل في أحد القولين أنه لا يحتاج الجمع إلى النية، كما قال أبو بكر‏.‏ وكذلك القصر، وهو مذهب الجمهور‏:‏ كأبى حنيفة ومالك‏.‏
وكذلك صلاة الخوف تجب في الوقت، مع إمكان أن يؤخرها فلا يستدبر القبلة، ولا يعمل عملاً كثيرًا في الصلاة، ولا يتخلف عن الإمام بركعة، ولا يفارق الإمام قبل السلام، ولا يقضى ما سبق به قبل السلام، ونحو ذلك مما يفعل في صلاة الخوف، وليس ذلك إلا لأجل الوقت، وإلا ففعلها بعد الوقت ـ ولو بالليل ـ ممكن على الإكمال‏.‏
وكذلك من اشتبهت عليه القبلة، وأمكنه تأخير الصلاة إلى أن يأتى مصرًا، يعلم فيه القبلة لم يجز له ذلك، وإنما نازع من نازع إذا أمكنه تعلم دلائل القبلة، ولا يتعلمها حتى يخرج الوقت‏.‏ وهذا النزاع/ هو القول المحدث الشاذ الذي تقدم ذكره‏.‏وأما النزاع المعروف بين الأئمة في مثل ما إذا استيقظ النائم في آخر الوقت، ولم يمكنه أن يصلى قبل الطلوع بوضوء‏:‏ هل يصلى بتيمم‏؟‏ أو يتوضأ ويصلى بعد الطلوع‏؟‏ على قولين مشهورين‏:‏
الأول‏:‏ قول مالك، مراعاة للوقت‏.‏
الثانى‏:‏ قول الأكثرين كأحمد والشافعي وأبى حنيفة‏.‏
وهذه المسألة هي التي توهم من توهم أن الشرط مقدم على الوقت، وليس كذلك، فإن الوقت في حق النائم هو من حين يستيقظ‏.‏ كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها‏)‏‏.‏ فجعل الوقت الذي أوجب الله على العبد فيه هو وقت الذكر والانتباه، وحينئذ، فمن فعلها في هذا الوقت بحسب ما يمكنه من الطهارة الواجبة فقد فعلها في الوقت، وهذا ليس بمفرط ولا مضيع لها‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس في النوم تفريط؛ إنما التفريط في اليقظة‏)‏‏.‏
بخلاف المتنبه من أول الوقت فإنه مأمور أن يفعلها في ذلك الوقت، بحيث لو أخرها عنه عمدًا كان مضيعًا مفرطًا، فإذا اشتغل عنها بشرطها/وكان قد أخرها عن الوقت الذي أمر أن يفعلها فيه، ولولا أنه مأمور بفعلها في ذلك الوقت، لجاز تأخيرها عن الوقت، إذا كان مشتغلاً بتحصيل ماء الطهارة، أو ثوب الاستعارة، بالذهاب إلى مكانه ونحو ذلك، وهذا خلاف إجماع المسلمين‏.‏ بل المستيقظ في آخر الوقت إنما عليه أن يتوضأ كما يتوضأ المستيقظ في الوقت، فلو أخرها لأنه يجد الماء عند الزوال ونحو ذلك، لم يجز له ذلك‏.‏
وأيضًا، فقد نص العلماء على أنه إذا جاء وقت الصلاة ولم يصل، فإنه يقتل، وإن قال‏:‏ أنا أصليها قضاء‏.‏ كما يقتل إذا قال‏:‏ أصلى بغير وضوء، أو إلى غير القبلة، وكل فرض من فرائض الصلاة المجمع عليها إذا تركه عمدًا، فإنه يقتل بتركه‏.‏ كما أنه يقتل بترك الصلاة‏.‏
فإن قلنا‏:‏ يقتل بضيق الثانية والرابعة، فالأمر كذلك، وكذلك إذا قلنا‏:‏ يقتل بضيق الأولى ـ وهو الصحيح ـ أو الثالثة، فإن ذلك مبنى على أنه‏:‏ هل يقتل بترك صلاة، أو بثلاث‏؟‏ على روايتين‏.‏
وإذا قيل بترك صلاة‏:‏ فهل يشترط وقت التي بعدها، أو يكفى ضيق وقتها‏؟‏ على وجهين‏.‏ وفيها وجه ثالث‏:‏ وهو الفرق بين صلاتى الجمع وغيرها‏.‏ ولا يعارض ما ذكرناه أنه يصح بعد الوقت؛ بخلاف بقية الفرائض؛ لأن الوقت إذا فات لم يمكن استدراكه، فلا يمكنه أن/ يفعلها إلا فائتة، ويبقى إثم التأخير من باب الكبائر التي تمحوها التوبة ونحوها، وأما بقية الفرائض، فيمكن استدراكها بالقضاء‏.‏
وأما الأمراء الذين كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتالهم، فإن قيل‏:‏ إنهم كانوا يؤخرون الصلاة إلى آخر الوقت، فلا كلام، وإن قيل ـ وهو الصحيح ـ‏:‏ إنهم كانوا يفوتونها، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الأمة بالصلاة في الوقت‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏اجعلوا صلاتكم معهم نافلة‏)‏‏.‏ ونهى عن قتالهم، كما نهى عن قتال الأئمة إذا استأثرو وظلموا الناس حقوقهم، واعتدوا عليهم، وإن كان يقع من الكبائر في أثناء ذلك ما يقع‏.‏
ومؤخرها عن وقتها فاسق، والأئمة لا يقاتلون بمجرد الفسق، وإن كان الواحد المقدور قد يقتل لبعض أنواع الفسق ـ كالزنا، وغيره ـ فليس كلما جاز فيه القتل، جاز أن يقاتل الأئمة لفعلهم إياه؛ إذ فساد القتال أعظم من فساد كبيرة يرتكبها ولى الأمر‏.‏
ولهذا نص من نص من أصحاب أحمد وغيره على أن النافلة تصلي خلف الفساق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة خلـف الأمراء الذين يؤخرون الصلاة حتى يخرج وقتها، وهؤلاء الأئمة فساق، وقد أمر بفعلها خَلْفَهم نافلة‏.‏
/والمقصود أن الفسق بتفويت الصلاة أمر معروف عند الفقهاء‏.‏
لكن لو قال قائل‏:‏ الكبيرة تفويتها دائمًا، فإن ذلك إصرار على الصغيرة‏.‏
قيل له‏:‏ قد تقدم ما يبين أن الوعيد يلحق بتفويت صلاة واحدة‏.‏
وأيضًا، فإن الإصرار هو العزم على العود، ومن أتى صغيرة وتاب منها ثم عاد إليها، لم يكن قد أتى كبيرة‏.‏
وأيضًا، فمن اشترط المداومة على التفويت، محتاج إلى ضابط، فإن أراد بذلك المداومة على طول عمره، لم يكن المذكورون من هذا الباب، وإن أراد مقدارًا محدودًا طولب بدليل عليه‏.‏
وأيضًا، فالقتل بترك واحدة أبلغ من جعل ذلك كبيرة‏.‏ والله ـ سبحانه ـ أعلم‏.‏