فصـــل: قاعدة في أعداد ركعات الصلوات وأوقاتها
 
وقال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه‏:‏
فصـــل
قاعدة في أعداد ركعات الصلوات وأوقاتها
وما يدخل في ذلك من جمع وقصر
جرت عادة كثير من العلماء المصنفين للعلم أن يذكروا في ‏[‏باب مواقيت الصلاة‏]‏‏:‏ أوقاتها وأعدادها وأسماءها، ثم منهم من يذكر القصر والجمع في بابين مفترقين مع صلاة أهل الأعذار كالمريض، والخائف‏.‏
ومنهم من يذكر الجمع في المواقيت‏.‏ وأما القصر فيفرده‏.‏ فإن سبب القصر هو السفر وحده، فقران صلاة المسافر بصلاة الخائف والمريض مناسب‏.‏
وأما الجمع‏:‏ فأسبابه متعددة؛ لاختصاص السفر به‏.‏ ونحن نذكر في كل منهما فصلاً جامعًا‏.‏
/أما العدد‏:‏ فمعلوم أنها خمس صلوات‏:‏ ثلاث رباعية، وواحدة ثلاثية وواحدة ثنائية، هذا في الحضر‏.‏ وأما في السفر، فقد سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبًا من ثلاثين سَفْرة، وكان يصلي ركعتين في أسفاره، ولم ينقل عنه أحد من أهل العلم أنه صلى في السفر الفرض أربعًا قط، حتى في حجة الوداع، وهي آخر أسفاره، كان يصلي بالمسلمين بمنى الصلوات‏:‏ ركعتين، ركعتين‏.‏ وهذا من العلم العام المستفيض المتواتر الذي اتفق على نقله عنه جميع أصحابه، ومن أخذ العلم عنهم‏.‏
والحديث الذي رواه الدارقطني عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر وتُتم ويُفطر، وتَصوم‏.‏ باطل في الإتمام‏.‏ وإن كان صحيحًا‏.‏ في الإفطار، بخلاف النقل المتواتر المستفيض‏.‏ ولم يذكر هذا بعد قط‏.‏
وكيف يكون والنبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره إنما كان يصلي الفرض إماما، لكن مرة في غزوة تبوك احتبس للطهارة ساعة فقدموا عبد الرحمن بن عوف، وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم خلفه بعض الصلاة، فلو صلى بهم أربعًا في السفر، لكان هذا من أوكد ما تتوفر هممهم ودواعيهم على نقله؛ لمخالفته سنته المستمرة، وعادته الدائمة كما نقلوا أنه جمع بين الصلاتين أحيانًا‏.‏ فلما لم ينقل ذلك أحد منهم علم قطعًا أنه لم يفعل ذلك‏.‏
/ولهذا قال ابن عمر‏:‏ صلاة السفر ركعتان، من خالف السنة كفر‏:‏ أي من اعتقد أن صلاة ركعتين ليس بمسنون، ولا مشروع، فقد كفر‏.‏
وكذلك قال عمر بن الخطاب‏:‏ صلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم‏.‏
وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ‏:‏ الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر‏.‏ قال الزهري‏:‏ فقلت لعروة‏:‏ فما بال عائشة تتم‏؟‏ قال‏:‏ تأولت، كما تأول عثمان‏.‏ أخرجاه في الصحيحين ‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة‏)‏‏.‏ هذا، ولما حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، كان يقصر الصلاة في مقامه بمكة، والمشاعر، مع أنه دخل مكة يوم الأحد، وخرج منها يوم الخميس إلى منى، وعرف يوم الجمعة وأقام بمنى إلى عشية الثلاثاء، وبات بالمحصب ليلة الأربعاء، وطاف للوداع تلك الليلة‏.‏ وقام ـ أيضًا ـ قبل ذلك في غزوة الفتح بمكة تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة، وأقام بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة‏.‏
/وأما الحديث الذي يروى عن عائشة‏:‏ أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت‏:‏ يا رسول الله بأبى وأمى قصرت وأتممت، وأفطرت وصمت‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏أحسنت يا عائشة‏)‏‏!‏ وما عاب علي‏.‏ رواه النسائي‏.‏ وروى الدارقطني‏:‏ خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت‏.‏ وقال‏:‏ إسناده حسن‏.‏ فهذا لو صح، لم يكن فيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أتم، وإنما فيه إذنه في الإتمام، مع أن هذا الحديث على هذا الوجه ليس بصحيح، بل هو خطأ لوجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن الذي في الصحيحين عن عائشة‏:‏ أن صلاة السفر ركعتان‏.‏ وقد ذكر ابن أخيها ـ وهو أعلم الناس بها ـ‏:‏ أنها إنما أتمت الصلاة في السفر بتأويل تأولته، لا بنص كان معها‏.‏ فعلم أنه لم يكن معها فيه نص‏.‏
الثانى‏:‏ أن في الحديث‏:‏ أنها خرجت معتمرة معه في رمضان عمرة رمضان، وكانت صائمة‏.‏ وهذا كذب باتفاق أهل العلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان قط، وإنما كانت عُمَره كلها في شوال، وإذا كان لم يعتمر في رمضان، ولم يكن في عمره عليه صوم، بطل هذا الحديث‏.‏
/الثالث‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سافر في رمضان في غزوة بدر، وغزوة الفتح‏.‏ فأما غزوة بدر، فلم يكن معه فيها أزواجه، ولا كانت عائشة‏.‏ وأما غزوة الفتح، فقد كان صام فيها في أول سفره، ثم أفطر، خلاف ما في هذا الحديث المفتعل‏.‏
الرابع‏:‏ أن اعتمار عائشة معه فيه نظر‏.‏
الخامس‏:‏ أن عائشة لم تكن بالتي تصوم وتصلى طول سفرها إلى مكة، وتخالف فعله بغير إذنه، بل كانت تستفتيه قبل الفعل، فإن الإقدام على مثل ذلك لا يجوز‏.‏
فثبت بهذه السنة المتواترة أن صلاة السفر ركعتان، كما أن صلاة الحضر أربع، فإن عدد الركعات إنما أخذ من فعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي سنه لأمته، وبطل قول من يقول من أصحاب أحمد والشافعي‏:‏ إن الأصل أربع، وإنما الركعتان رخصة‏.‏
وبنوا على هذا‏:‏ أن القاصر يحتاج إلى نية القصر في أول الصلاة كما قاله الشافعي، وهو قول الخرقى، والقاضى، وغيرهما، بل الصواب ما قاله جمهور أهل العلم، وهو اختيار أبي بكر وغيره‏:‏ أن القصر لا يحتاج إلى نية، بل دخول المسافر في صلاته كدخول الحاضر، بل لو/نوى المسافر أن يصلي أربعًا لكره له ذلك، وكانت السنة أن يصلي ركعتين، ونصوص الإمام أحمد إنما تدل على هذا القول‏.‏
وقد تنازع أهل العلم في التربيع في السفر‏:‏ هل هو محرم‏؟‏ أو مكروه‏؟‏ أو ترك الأفضل‏؟‏ أو هو أفضل‏؟‏ على أربعة أقوال‏:‏
فالأول‏:‏ قول أبى حنيفة، ورواية عن مالك‏.‏
والثانى‏:‏ رواية عنه، وعن أحمد‏.‏
والثالث‏:‏ رواية عن أحمد، وأصح قولى الشافعي‏.‏
والرابع‏:‏ قول له‏.‏ و‏]‏الرابع‏[‏ خطأ قطعًا، لا ريب فيه‏.‏ والثالث ضعيف، وإنما المتوجه أن يكون التربيع إما محرم أو مكروه؛ لأن طائفة من الصحابة كانوا يربعون، وكان الآخرون لا ينكرونه عليهم إنكار من فعل المحرم، بل إنكار من فعل المكروه‏.‏
وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 101‏]‏، فهنا علق القصر بسببين‏:‏ الضرب في الأرض، والخوف من فتنة الذين كفروا؛ لأن القصر المطلق يتناول قصر عددها، وقصر عملها، وأركانها‏.‏ مثل الإيماء بالركوع والسجود، فهذا القصر إنما شرع بالسببين كلاهما، /كل سبب له قصر‏.‏ فالسفر يقتضي قصر العدد، والخوف يقتضي قصر الأركان‏.‏
ولو قيل‏:‏ إن القصر المعلق هو قصر الأركان، فإن صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر، لكان وجيهًا‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 103‏]‏‏.‏
فقد ظهر بهذا أن القصر لا يسوي بالجمع، فإنه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرعته لأمته، بل الإتمام في السفر أضعف من الجمع في السفر‏.‏ فإن الجمع قد ثبت عنه أنه كان يفعله في السفر أحيانًا وأما الإتمام فيه، فلم ينقل عنه قط، وكلاهما مختلف فيه بين الأمة، فإنهم مختلفون في جواز الإتمام، وفي جواز الجمع، متفقون على جواز القصر وجواز الإفراد‏.‏ فلا يشبه بالسنة المتواترة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يداوم عليه في أسفاره، وقد اتفقت الأمة عليه، إلى أن ما فعله في سفره مرات متعددة،وقد تنازعت فيه الأمة‏.‏