سئل: عمن ترك الصلاة مدة سنتين ثم تاب وواظب على أدائها‏؟
 
وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل من أهل القبلة ترك الصلاة مدة سنتين، ثم تاب بعد ذلك، وواظب على أدائها‏.‏ فهل يجب عليه قضاء ما فاته منها أم لا‏؟‏
فأجاب‏:‏
أما من ترك الصلاة، أو فرضًا من فرائضها، فإما أن يكون قد ترك ذلك ناسيًا له بعد علمه بوجوبه، وإما أن يكون جاهلاً بوجوبه، وإما أن يكون لعذر يعتقد معه جواز التأخير، وإما أن يتركه عالمًا عمدًا‏.‏
فأما الناسي للصلاة، فعليه أن يصليها إذا ذكرها بسنة رسول/ الله صلى الله عليه وسلم المستفيضة عنه، باتفاق الأئمة‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها‏.‏ لا كفارة لها إلا ذلك‏)‏ وقد استفاض في الصحيح وغيره‏:‏ أنه نام هو وأصحابه عن صلاة الفجر في السفر فصلوها بعد ما طلعت الشمس السنة والفريضة بأذان وإقامة ‏.‏
وكذلك من نسي طهارة الحدث، وصلى ناسيًا‏:‏ فعليه أن يعيد الصلاة بطهارة بلا نزاع، حتى لو كان الناسي إمامًا كان عليه أن يعيد الصلاة، ولا إعادة على المأمومين إذا لم يعلموا عند جمهور العلماء، كمالك والشافعي وأحمد في المنصوص المشهور عنه‏.‏ كما جرى لعمر وعثمان ـ رضي الله عنهما‏.‏
وأما من نسى طهارة الخبث، فإنه لا إعادة عليه في مذهب مالك وأحمد في أصح الروايتين عنه، والشافعي في أحد قوليه؛ لأن هذا من باب فعل المنهى عنه، وتلك من باب ترك المأمور به، ومن فعل ما نهى عنه ناسيًا فلا إثم عليه بالكتاب والسنة‏.‏ كما جاءت به السنة فيمن أكل في رمضان ناسيًا‏.‏ وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد‏.‏ وطرد ذلك فيمن تكلم في الصلاة ناسيًا، ومن تطيب ولبس ناسيًا، كما هو مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه‏.‏/ وكذلك من فعل المحلوف عليه ناسيًا كما هو أحد القولين عن الشافعي وأحمد‏.‏
وهنا مسائل تنازع العلماء فيها‏:‏ مثل من نسى الماء في رحله وصلى بالتيمم، وأمثال ذلك ليس هذا موضع تفصيلها‏.‏
وأما من ترك الصلاة جاهلاً بوجوبها مثل من أسلم في دار الحرب، ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، فهذه المسألة للفقهاء فيها ثلاثة أقوال‏.‏ وجهان في مذهب أحمد‏:‏
أحدها‏:‏ عليه الإعادة مطلقًا‏.‏ وهو قول الشافعي، وأحد الوجهين في مذهب أحمد‏.‏
والثانى‏:‏ عليه الإعادة إذا تركها بدار الإسلام دون دار الحرب‏.‏ وهو مذهب أبى حنيفة؛ لأن دار الحرب دار جهل، يعذر فيه، بخلاف دار الإسلام‏.‏
والثالث‏:‏ لا إعادة عليه مطلقًا‏.‏ وهو الوجه الثانى في مذهب أحمد، وغيره‏.‏
وأصل هذين الوجهين‏:‏ أن حكم الشارع، هل يثبت في حق /المكلف قبل بلوغ الخطاب له، فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد، وغيره‏:‏
أحدها‏:‏ يثبت مطلقًا‏.‏
والثانى‏:‏ لا يثبت مطلقًا‏.‏
والثالث‏:‏ يثبت حكم الخطاب المبتدأ دون الخطاب الناسخ، كقضية أهل قباء، وكالنزاع المعروف في الوكيل إذا عزل‏.‏ فهل يثبت حكم العزل في حقه قبل العلم‏.‏
وعلى هذا، لو ترك الطهارة الواجبة لعدم بلوغ النص‏.‏ مثل أن يأكل لحم الإبل ولا يتوضأ، ثم يبلغه النص، ويتبين له وجوب الوضوء، أو يصلي في أعطان الإبل ثم يبلغه، ويتبين له النص، فهل عليه إعادة ما مضى‏؟‏ فيه قولان هما روايتان عن أحمد‏.‏
ونظيره أن يمس ذكره ويصلي، ثم يتبين له وجوب الوضوء من مس الذكر‏.‏
والصحيح في جميع هذه المسائل عدم وجوب الإعادة؛ لأن الله عفا عن الخطأ والنسيان، ولأنه قال‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏‏.‏فمن لم يبلغه أمر الرسول في شيء معين، لم يثبت حكم وجوبه عليه؛ ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر وعمارًا ـ لما أجنبا فلم يصل عمر، وصلى عمار بالتمرغ ـ أن يعيد واحد منهما، وكذلك لم يأمر أبا ذر بالإعادة لما كان يجنب ويمكث أياما لا يصلي، وكذلك لم يأمر من أكل من الصحابة حتى يتبين له الحبل الأبيض من الحبل الأسود بالقضاء، كما لم يأمر من صلى إلى بيت المقدس قبل بلوغ النسخ لهم بالقضاء‏.‏
ومن هذا الباب‏:‏ ‏[‏المستحاضة‏]‏ إذا مكثت مدة لا تصلى لاعتقادها عدم وجوب الصلاة عليها، ففى وجوب القضاء عليها قولان‏:‏
أحدهما‏:‏ لا إعادة عليها‏.‏ كما نقل عن مالك وغيره؛ لأن المستحاضة التي قالت للنبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنى حضت حيضة شديدة كبيرة منكرة منعتنى الصلاة والصيام، أمرها بما يجب في المستقبل، ولم يأمرها بقضاء صلاة الماضى ‏.‏
وقد ثبت عندى بالنقل المتواتر أن في النساء والرجال بالبوادى ـ وغير البوادى ـ من يبلغ ولا يعلم أن الصلاة عليه واجبة، بل إذا قيل للمرأة‏:‏ صلى، تقول‏:‏ حتى أكبر وأصير عجوزة، ظانة أنه لا يخاطب بالصلاة إلا المرأة الكبيرة، كالعجوز ونحوها‏.‏ وفى أتباع الشيوخ / طوائف كثيرون لا يعلمون أن الصلاة واجبة عليهم، فهؤلاء لا يجب عليهم في الصحيح قضاء الصلوات، سواء قيل‏:‏ كانوا كفارًا، أو كانوا معذورين بالجهل‏.‏
وكذلك من كان منافقًا زنديقًا يظهر الإسلام ويبطن خلافه، وهو لا يصلي، أو يصلي أحيانًا بلا وضوء، أو لا يعتقد وجوب الصلاة، فإنه إذا تاب من نفاقه وصلى، فإنه لا قضاء عليه عند جمهور العلماء‏.‏ والمرتد الذي كان يعتقد وجوب الصلاة، ثم ارتد عن الإسلام، ثم عاد، لا يجب عليه قضاء ما تركه حال الردة عند جمهور العلماء ـ كمالك وأبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه ـ فإن المرتدين الذين ارتدوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ـ كعبد الله بن سعد بن أبى سرح، وغيره ـ مكثوا على الكفر مدة ثم أسلموا، ولم يأمر أحدًا منهم بقضاء ما تركوه‏.‏ وكذلك المرتدون على عهد أبى بكر لم يؤمروا بقضاء صلاة، ولا غيرها‏.‏
وأما من كان عالمًا بوجوبها وتركها بلا تأويل حتى خرج وقتها الموقت، فهذا يجب عليه القضاء عند الأئمة الأربعة، وذهب طائفة ـ منهم ابن حزم وغيره ـ إلى أن فعلها بعد الوقت لا يصح من هؤلاء، وكذلك قالوا فيمن ترك الصوم متعمدًا‏.‏ والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم‏.‏