سئل‏:‏ عمن يبسط سجادة في الجامع ويصلي عليها؟
 
وَسئل‏:‏ عمن يبسط سجادة في الجامع، ويصلي عليها‏:‏ هل ما فعله بدعة أم لا ‏؟‏
فأجاب‏:‏
الحمد للّه رب العالمين، أما الصلاة على السجادة بحيث يتحري المصلي ذلك، فلم تكن هذه سنة السلف من المهاجرين والأنصار، ومَنْ بعدهم من التابعين لهم بإحسان على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، بل كانوا يصلون في مسجده على الأرض، لا يتخذ أحدهم سجادة يختص بالصلاة عليها‏.‏ وقد روي أن عبد الرحمن بن مهدي لما قدم المدينة بسط سجادة فأمر مالك بحبسه، فقيل له‏:‏ إنه عبد الرحمن بن مهدي فقال‏:‏ أما علمت أن بسط السجادة في مسجدنا بدعة‏.‏
وفي الصحيح عن أبي سعيد الخدري في حديث اعتكاف النبي/ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ اعتكفنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏.‏ فذكر الحديث، وفيه قال‏:‏ ‏(‏من اعتكف فليرجع إلى معتكفه فإني رأيت هذه الليلة ورأيتني أسجد في ماء وطين‏)‏‏.‏ وفي آخره‏:‏ فلقد رأيت ـ يعني صبيحة إحدي وعشرين ـ على أنفه وأرنبته أثر الماء والطين‏.‏ فهذا بين أن سجوده كان على الطين‏.‏ وكان مسجده مسقوفا بجريد النخل ينزل منه المطر، فكان مسجده من جنس الأرض‏.‏
وربما وضعوا فيه الحصي كما في سنن أبي داود عن عبد اللّه بن الحارث قال‏:‏ سألت ابن عمر ـ رضي اللّه عنهما ـ عن الحصي الذي كان في المسجد، فقال‏:‏ مطرنا ذات ليلة، فأصبحت الأرض مبتلة، فجعل الرجل يأتي بالحصي في ثوبه فيبسطه تحته، فلما قضي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ما أحسن هذا ‏؟‏‏)‏‏.‏
وفي سنن أبي داود ـ أيضًا ـ عن أبي بدر شجاع بن الوليد عن شريك عن أبي حُصَين عن أبي صالح عن أبي هريرة قال أبو بدر‏:‏ أراه قد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الحصاة تناشد الذي يخرجها من المسجد‏)‏، ولهذا في السنن والمسند عن أبي ذر قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصي فإن الرحمة تواجهه‏)‏‏.‏ وفي لفظ في مسند أحمد قال‏:‏ سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن كل شيء حتى سألته عن مسح/ الحصي، فقال‏:‏ ‏(‏واحدة أو دع‏)‏‏.‏ وفي المسند ـ أيضًا ـ عن جابر قال‏:‏ قال رسول اللّه صلي الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لأن يمسك أحدكم يده عن الحصي خير له من مائة ناقة كلها سود الحدق، فإن غلب أحدكم الشيطان فليمسح واحدة‏)‏‏.‏ وهذا كما في الصحيحين عن مُعَيْقِيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ـ في الرجل يسوي التراب حيث يسجد ـ قال‏:‏ ‏(‏إن كنت فاعلا، فواحدة‏)‏‏.‏
فهذا بَيَّن أنهم كانوا يسجدون على التراب والحصي، فكان أحدهم يسوي بيده موضع سجوده، فكره لهم النبيصلى الله عليه وسلم ذلك العبث، ورخص في المرة الواحدة للحاجة، وإن تركها كان أحسن‏.‏
وعن أنس بن مالك ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ كنا نصلي مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه، فسجد عليه‏.‏ أخرجه أصحاب الصحاح ـ كالبخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم‏.‏ وفي هذا الحديث بيان أن أحدهم إنما كان يتقي شدة الحر بأن يبسط ثوبه المتصل، كإزاره وردائه وقميصه، فيسجد عليه‏.‏
وهذا بَيَّن أنهم لم يكونوا يصلون على سجادات، بل ولا على حائل؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏.‏ يصلون تارة في نعالهم، / وتارة حفاة، كما في سنن أبي داود والمسند عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه صلى فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏لم خلعتم‏؟‏‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ رأيناك خلعت فخلعنا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثًا، فإذا أتي أحدكم المسجد فليقلب نعليه، فإن رأي خبثا، فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما‏)‏‏.‏
ففي هذا بيان أن صلاتهم في نعالهم، وأن ذلك كان يفعل في المسجد إذ لم يكن يوطأ بهما على مفارش، وأنه إذا رأي بنعليه أذي، فإنه يمسحهما بالأرض، ويصلي فيهما، ولا يحتاج إلى غسلهما، ولا إلى نزعهما وقت الصلاة، ووضع قدميه عليهما، كما يفعله كثير من الناس‏.‏
وبهذا كله جاءت السنة، ففي الصحيحين والمسند عن أبي سلمة سعيد بن يزيد قال‏:‏ سألت أنسا‏:‏ أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه ‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏
وفي سنن أبي داود عن شداد بن أوس قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم، ولا خفافهم‏)‏‏.‏ فقد أمرنا بمخالفة ذلك، إذ هم ينزعون الخفاف والنعال عند الصلاة، ويأتمون فيما يذكر عنهم بموسي ـ عليه السلام ـ حيث قيل له وقت المناجاة‏:‏ ‏{‏فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 12‏]‏‏.‏ فنهينا عن التشبه بهم، /وأمرنا أن نصلي في خفافنا ونعالنا، وإن كان بهما أذي، مسحناهما بالأرض؛ لما تقدم‏.‏
ولما روي أبو داود ـ أيضًا ـ عن أبي هريرة، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا وطئ أحدكم بنعليه الأذي، فإن التراب لهما طهور‏)‏‏.‏ وفي لفظ قال‏:‏ ‏(‏إذا وطئ الأذي بخفيه، فطهورهما التراب‏)‏‏.‏ وعن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بمعناه، وقد قيل‏:‏ حديث عائشة حديث حسن‏.‏
وأما حديث أبي هريرة، فلفظه الثاني من رواية محمد بن عَجْلان، وقد خرج له البخاري في الشواهد، ومسلم في المتابعات، ووثقه غير واحد‏.‏ واللفظ الأول لم يسم راويه، لكن تعدده ـ مع عدم التهمة، وعدم الشذوذ ـ يقتضي أنه حسن ـ أيضًا ـ وهذا أصح قولي العلماء، ومع دلالة السنة عليه هو مقتضي الاعتبار‏.‏ فإن هذا محل تتكرر ملاقاته للنجاسة، فأجزأ الإزالة عنه بالجامد كالمخرجين، فإنه يجزئ فيهما الاستجمار بالأحجار كما تواترت به السنة مع القدرة على الماء، وقد أجمع المسلمون على جواز الاستجمار‏.‏
يبين ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون/ تارة في نعالهم، وتارة حفاة، كما في السنن لأبي داود وابن ماجه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال‏:‏ رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حافيًا، ومنتعلا‏.‏ والحجة في الانتعال ظاهرة‏.‏
وأما في الاحتفاء، ففي سنن أبي داود والنسائي عن عبد اللّه بن السائب قال‏:‏ رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلي يوم الفتح، ووضع نعليه عن يساره‏.‏ وكذلك في سنن أبي داود حديث أبي سعيد المتقدم قال‏:‏ بينما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه، ووضعهما عن يساره‏.‏ وتمام الحديث يدل على أنه كان في المسجد كما تقدم‏.‏ وكذلك حديث ابن السائب، فإن أصله قد رواه مسلم والنسائي وابن ماجه عن عبد اللّه بن السائب قال‏:‏ صلى بنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الصبح بمكة فاستفتح سورة المؤمنين حتى إذا جاء ذكر موسي وهارون، أو ذكر موسي وعيسي، أخذت رسول اللّه سعلة فركع وعبد اللّه بن السائب حاضر لذلك، فهذا كان في المسجد الحرام، وقد وضع نعليه في المسجد مع العلم بأن الناس يصلون ويطوفون بذلك الموضع، فلو كان الاحتراز من نجاسة أسفل النعل مستحبًا، لكان النبي صلى الله عليه وسلم أحق الناس بفعل المستحب الذي فيه صيانة المسجد‏.‏
وأيضًا، ففي سنن أبي داود عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة/ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا صلى أحدكم فخلع نعليه، فلا يؤذ بهما أحدًا، وليجعلهما بين رجليه، أو ليصل فيهما‏)‏، وفيه ـ أيضًا ـ عن يوسف بن ماهك، عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا صلى أحدكم، فلا يضع نعليه عن يمينه، ولا عن يساره، تكون عن يمين غيره إلا ألا يكون عن يساره أحد، وليضعهما بين رجليه‏)‏‏.‏ وهذا الحديث قد قيل‏:‏ في إسناده لين، لكنه هو والحديث الأول قد اتفقا على أن يجعلهما بين رجليه‏.‏ ولو كان الاحتراز من ظن نجاستهما مشروعا، لم يكن كذلك‏.‏
وأيضًا، ففي الأول‏:‏ الصلاة فيهما‏.‏ وفي الثاني‏:‏ وضعهما عن يساره إذا لم يكن هناك مصل‏.‏ وما ذكر من كراهة وضعهما عن يمينه أو عن يمين غيره، لم يكن للاحتراز من النجاسة، لكن من جهة الأدب‏.‏ كما كره البصاق عن يمينه‏.‏
وفي صحيح مسلم عن خباب بن الأرت قال‏:‏ شكونا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شدة حر الرمضاء في جباهنا‏.‏ وأكفنا فلم يشكنا‏.‏ وقد ظن طائفة أن هذه الزيادة في مسلم، وليس كذلك‏.‏ وسبب هذه الشكوي أنهم كانوا يسجدون على الأرض فتسخن جباههم وأكفهم، وطلبوا منه أن يؤخر الصلاة زيادة على ما كان يؤخرها، ويبرد بها فلم يفعل، وقد ظن بعض الفقهاء أنهم طلبوا منه/ أن يسجدوا على ما يقيهم من الحر من عمامة ونحوها فلم يفعل‏.‏ وجعلوا ذلك حجة في وجوب مباشرة المصلي بالجبهة‏.‏ وهذه حجة ضعيفة لوجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ أنه تقدم حديث أنس المتفق على صحته‏:‏ ‏(‏وأنهم كانوا إذا لم يستطع أحدهم أن يمكن جبهته من الأرض، بسط ثوبه وسجد عليه‏)‏ والسجود على ما يتصل بالإنسان من كمه وذيله وطرف إزاره وردائه، فيه النزاع المشهور‏.‏ وقال هشام عن الحسن البصري‏:‏ كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يسجدون وأيديهم في ثيابهم، ويسجد الرجل على عمامته، رواه البيهقي‏.‏ وقد استشهد بذلك البخاري في باب السجود على الثوب من شدة الحر، فقال‏:‏ وقال الحسن‏:‏ كان القوم يسجدون على العمامة والقلنسوة، ويداه في كمه‏.‏ وروي حديث أنس المتقدم قال‏:‏ كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فيضع أحدنا الثوب من شدة الحر في مكان السجود‏.‏
وأما ما يروي عن عبادة بن الصامت أنه كان إذا قام إلى الصلاة حسر العمامة عن جبهته‏.‏ وعن نافع‏:‏ أن ابن عمر كان إذا سجد وعليه العمامة يرفعها حتى يضع جبهته بالأرض رواه البيهقي‏.‏ وروي ـ أيضًا ـ عن على ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ إذا كان أحدكم يصلي فليحسر العمامة عن جبهته، فلا ريب أن هذا هو السنة عند الاختيار‏.‏ وقد/ تقدم حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين‏:‏ وأنه رأي أثر الماء والطين على أنف النبي صلى الله عليه وسلم وأرنبته‏.‏
وفي لفظ قال‏:‏ فصلي بنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى رأيت أثر الماء والطين على جبهة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأرنبته تصديق رؤياه‏.‏ وقد رواه البخاري بهذا اللفظ‏.‏ وقال الحميدي‏:‏ يحتج بهذا الحديث ألا تمسح الجبهة في الصلاة، بل تمسح بعد الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رؤي الماء في أرنبته وجبهته بعد ما صلي‏.‏
قلت‏:‏ كره العلماء ـ كأحمد وغيره ـ مسح الجبهة في الصلاة من التراب‏.‏ ونحوه الذي يعلق بها في السجود، وتنازعوا في مسحه بعد الصلاة على قولين، هما روايتان عن أحمد‏.‏ كالقولين اللذين هما روايتان عن أحمد في مسح ماء الوضوء بالمنديل، وفي إزالة خلوف فم الصائم بعد الزوال بالسواك، ونحو ذلك مما هو من أثر العبادة‏.‏ وعن أبي حُمَيْد السَّاعِدي‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد مكن جبهته بالأرض، ويجافي يديه عن جنبيه، ووضع يديه حذو منكبيه رواه أبو داود والترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ وعن وائل بن حَجَر قال‏:‏ رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يسجد على الأرض واضعًا جبهته وأنفه في سجوده، رواه أحمد‏.‏
/فالأحاديث والآثار تدل على أنهم في حال الاختيار كانوا يباشرون الأرض بالجباه، وعند الحاجة ـ كالحر ونحوه ـ يتقون بما يتصل بهم من طرف ثوب وعمامة وقلنسوة؛ ولهذا كان أعدل الأقوال في هذه المسألة أنه يرخص في ذلك عند الحاجة، ويكره السجود على العمامة ونحوها عند عدم الحاجة، وفي المسألة نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه‏.‏
الوجه الثاني‏:‏ أنه لو كان مطلوبهم منه السجود على الحائل، لأذن لهم في اتخاذ ما يسجدون عليه منفصلا عنهم، فقد ثبت عنه أنه كان يصلي على الخمرة، فقالت ميمونة‏:‏ كان رسول اللّه يصلي على الخُمرَة أخرجه أصحاب الصحيح كالبخاري ومسلم، وأهل السنن الثلاثة‏:‏ أبو داود والنسائي وابن ماجه، ورواه أحمد في المسند، ورواه الترمذي من حديث ابن عباس‏.‏ ولفظ أبي داود‏:‏ كان يصلي وأنا حذاءه، وأنا حائض، وربما أصابني ثوبه إذا سجد، وكان يصلي على الخُمْرة‏.‏ وفي صحيح مسلم والسنن الأربعة والمسند عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ قالت‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ناوليني الخمرة من المسجد‏)‏، فقلت‏:‏ يارسول اللّه، إني حائض، فقال‏:‏ ‏(‏إن حيضتك ليست في يدك‏)‏‏.‏
وعن ميمونة قالت‏:‏ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يتكئ على إحدانا وهي حائض، فيضع رأسه في حجرها، فيقرأ القرآن وهي/حائض، ثم تقوم إحدانا بخمرته فتضعها في المسجد وهي حائض‏.‏ رواه أحمد، والنسائي ولفظه‏:‏ ‏(‏فتبسطها وهي حائض‏)‏‏.‏ فهذا صلاته على الخمرة وهي نسج ينسج من خوص، كان يسجد عليه‏.‏
وأيضًا، في الصحيحين عن أنس بن مالك‏:‏ أن جدته مليكة دعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته فأكل منه ثم قال‏:‏ ‏(‏قوموا فلأصل لكم‏)‏، قال أنس‏:‏ فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس، فنضحته بماء، فقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فصففت أنا واليتيم من ورائه، والعجوز من ورائنا، فصلي لنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم انصرف‏.‏
وفي البخاري وسنن أبي داود عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رجل من الأنصار‏:‏ يارسول اللّه، إني رجل ضخم ـ وكان ضخما ـ لا أستطيع أن أصلي معك، وصنع له طعامًا ودعاه إلى بيته، وقال‏:‏ صل حتى أراك كيف تصلي فأقتدي بك، فنضحوا له طرف حصير لهم، فقام فصلي ركعتين، قيل لأنس‏:‏ أكان يصلي ‏[‏الضحي‏]‏‏؟‏ فقال‏:‏ لم أره صلى إلا يومئذ‏.‏ وفي سنن أبي داود عن أنس بن مالك‏:‏ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يزور أم سليم، فتدركه الصلاة أحيانًا، فيصلي على بساط لها، وهو حصير تنضحه بالماء‏.‏ ولمسلم عن أبي سعيد الخدري‏:‏ أنه دخل على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ / فرأيته يصلي على حصير يسجد عليه‏.‏ وفي الصحيحين عن أبي سلمة عن عائشة قالت‏:‏ كنت أنام بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما قالت‏:‏ والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح‏.‏
وعن عروة عن عائشة‏:‏ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهي معترضة فيما بينه وبين القبلة، على فراش أهله، اعتراض الجنازة‏.‏ وفي لفظ عن عراك عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وعائشة معترضة بينه وبين القبلة على الفراش الذي ينامان عليه‏.‏ وهذه الألفاظ كلها للبخاري، استدلوا بها في باب الصلاة على الفرش، وذكر اللفظ الأخير مرسلا؛ لأنه في معني التفسير للمسند أن عروة إنما سمع من عائشة، وهو أعلم بما سمع منها‏.‏
ولا نزاع بين أهل العلم في جواز الصلاة والسجود على المفارش إذا كانت من جنس الأرض، كالخُمْرَة والحصير ونحوه، وإنما تنازعوا في كراهة ذلك على ما ليس من جنس الأرض، كالأنطاع المبسوطة من جلود الأنعام، وكالبسط والزرابي المصبوغة من الصوف، وأكثر أهل العلم يرخصون في ذلك ـ أيضًا ـ وهو مذهب أهل الحديث كالشافعي وأحمد، ومذهب أهل الكوفة كأبي حنيفة وغيرهم‏.‏ وقد استدلوا على جواز ذلك أيضًا بحديث عائشة، فإن الفراش لم يكن من جنس /الأرض، وإنما كان من أدم أو صوف‏.‏
وعن المغيرة بن شعبة قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير، وعلي الفروة المدبوغة‏.‏ رواه أحمد وأبو داود من حديث أبي عون محمد بن عبد اللّه بن سعيد الثقفي عن أبيه عن المغيرة‏.‏ قال أبو حاتم الرازي‏:‏ عبد اللّه بن سعيد مجهول‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على بساط‏.‏ رواه أحمد وابن ماجه‏.‏ وفي تاريخ البخاري عن أبي الدرداء قال‏:‏ ما أبالي لو صليت على خمر‏.‏
وإذا ثبت جواز الصلاة على ما يفرش ـ بالسنة والإجماع ـ علم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنعهم أن يتخذوا شيئًا يسجدون عليه يتقون به الحر، ولكن طلبوا منه تأخير الصلاة زيادة على ما كان يؤخرها فلم يجبهم، وكان منهم من يتقي الحر إما بشيء منفصل عنه، وإما بما يتصل به من طرف ثوبه‏.‏
فإن قيل‏:‏ ففي حديث الخُمْرَة حجة لمن يتخذ السجادة، كما قد احتج بذلك بعضهم‏.‏
قيل‏:‏ الجواب عن ذلك من وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي على الخُمْرَة / دائمًا، بل أحيانًا، كأنه كان إذا اشتد الحر يتقي بها الحر، ونحو ذلك‏.‏ بدليل ما قد تقدم من حديث أبي سعيد أنه رأي أثر الماء والطين في جبهته وأنفه، فلم يكن في هذا حجة لمن يتخذ السجادة يصلي عليها دائمًا‏.‏
والثاني‏:‏ قد ذكروا أنها كانت لموضع سجوده، لم تكن بمنزلة السجادة التي تسع جميع بدنه، كأنه كان يتقي بها الحر، هكذا قال أهل الغريب‏.‏ قالوا‏:‏ ‏[‏الخمرة‏]‏ كالحصير الصغير، تعمل من سعف النخل، وتنسج بالسيور والخيوط، وهي قدر ما يوضع عليه الوجه والأنف، فإذا كبرت عن ذلك، فهي حصير؛ سميت بذلك لسترها الوجه والكعبين من حر الأرض وبردها‏.‏ وقيل‏:‏ لأنها تخمر وجه المصلي، أي‏:‏ تستره‏.‏ وقيل‏:‏ لأن خيوطها مستورة بسعفها‏.‏ وقد قال بعضهم في حديث ابن عباس‏:‏ جاءت فأرة فأخذت تجر الفتيلة بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على الخمرة التي كان قاعدًا عليها فاحترقت منها مثل موضع درهم‏.‏ قال‏:‏ وهذا ظاهر في إطلاق الخمرة على الكبير من نوعها‏.‏ لكن هذا الحديث لا تعلم صحته، والقعود عليها لا يدل على أنها طويلة بقدر ما يصلي عليها، فلا يعارض ذلك ما ذكروه‏.‏
الثالث‏:‏ أن الخمرة لم تكن لأجل اتقاء النجاسة، أو الاحتراز منها/ كما يعلل بذلك من يصلي على السجادة، ويقول‏:‏ إنه انما يفعل ذلك للاحتراز من نجاسة المسجد، أو نجاسة حصر المسجد وفرشه؛ لكثرة دوس العامة عليه، فإنه قد ثبت أنه كان يصلي في نعليه، وأنه صلى بأصحابه في نعليه، وهم في نعالهم، وأنه أمر بالصلاة في النعال لمخالفة اليهود، وأنه أمر إذا كان بها أذي أن تدلك بالتراب، ويصلي بها‏.‏ ومعلوم أن النعال تصيب الأرض، وقد صرح في الحديث بأنه يصلي فيها بعد ذلك الدلك، وإن أصابها أذي‏.‏
فمن تكون هذه شريعته وسنته، كيف يستحب أن يجعل بينه وبين الأرض حائلا لأجل النجاسة‏؟‏ فإن المراتب أربع‏:‏
أما الغلاة من الموسوسين، فإنهم لا يصلون على الأرض، ولا على ما يفرش للعامة على الأرض، لكن على سجادة ونحوها‏.‏ وهؤلاء كيف يصلون في نعالهم، وذلك أبعد من الصلاة على الأرض‏؟‏ فإن النعال قد لاقت الطريق التي مشوا فيها، واحتمل أن تلقي النجاسة، بل قد يقوي ذلك في بعض المواضع، فإذا كانوا لا يصلون على الأرض مباشرين لها بأقدامهم، مع أن ذلك الموقف الأصل فيه الطهارة، ولا يلاقونه إلا وقت الصلاة، فكيف بالنعال التي تكررت ملاقاتها للطرقات، التي تمشي فيها البهائم والآدميون، وهي مظنة النجاسة‏؟‏ ولهذا هؤلاء إذا صلوا على جنازة وضعوا أقدامهم/ على ظاهر النعال؛ لئلا يكونوا حاملين للنجاسة، ولا مباشرين لها‏.‏ ومنهم من يتورع عن ذلك، فإن في الصلاة على ما في أسفله نجاسة خلافا معروفا، فيفرش لأحدهم مفروش على الأرض‏.‏ وهذه المرتبة أبعد المراتب عن السنة‏.‏
الثانية‏:‏ أن يصلي على الحصير ونحوها دون الأرض وما يلاقيها‏.‏
الثالثة‏:‏ أن يصلي على الأرض، ولا يصلي في النعل الذي تكرر ملاقاتها للطرقات، فإن طهارة ما يتحري الأرض قد يكون طاهرًا، واحتمال تنجيسه بعيد، بخلاف أسفل النعل‏.‏
الرابعة‏:‏ أن يصلي في النعلين، وإذا وجد فيهما أذي دلكهما بالتراب كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه المرتبة هي التي جاءت بها السنة‏.‏ فعلم أن من كانت سنته هي هذه المرتبة الرابعة، امتنع أن يستحب أن يجعل بينه وبين الأرض حائلًا من سجادة وغيرها؛ لأجل الاحتراز من النجاسة‏.‏ فلا يجوز حمل حديث الخمرة على أنه وضعها لاتقاء النجاسة فبطل استدلالهم بها على ذلك‏.‏ وأما إذا كانت لاتقاء الحر، فهذا يستعمل إذا احتيج إليه لذلك، وإذا استغني عنه لم يفعل‏.‏
الرابع‏:‏ أن الخُمْرَة لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها الصحابة، / ولم يكن كل منهم يتخذ له خُمْرَة، بل كانوا يسجدون على التراب والحصى كما تقدم‏.‏ ولو كان ذلك مستحبا أو سنة، لفعلوه، ولأمرهم به، فعلم أنه كان رخصة لأجل الحاجة إلى ما يدفع الأذى عن المصلى‏.‏ وهم كانوا يدفعون الأذى بثيابهم ونحوها‏.‏ ومن المعلوم أن الصحابة في عهده وبعده أفضل منا‏.‏ وأتبع للسنة، وأطوع لأمره‏.‏ فلو كان المقصود بذلك ما يقصده متخذو السجادات، لكان الصحابة يفعلون ذلك‏.‏
الوجه الخامس‏:‏ أن المسجد لم يكن مفروشًا، بل كان ترابًا، وحصى‏.‏ وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم على الحصير، وفراش امرأته، ونحو ذلك، ولم يصل هناك لا على خُمْرَة، ولا سجادة ولا غيرها‏.‏
فإن قيل‏:‏ ففي حديث ميمونة وعائشة مـا يقتضى أنه كان يصلي على الخمرة في بيته، فإنه قـال‏:‏ ‏(‏ ناوليني الخمرة مـن المسجد‏)‏ ‏.‏ وأيضًا، ففي حـديث ميمـونة المتقدم ما يشعـر بذلك‏.‏
قيل‏:‏ من اتخذ السجادة ليفرشها على حصر المسجد، لم يكن له في هذا الفعل حجة في السنة، بل كانت البدعة في ذلك منكرة من وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن هؤلاء يتقى أحدهم أن يصلي على الأرض حذرًا أن/ تكون نجسة، مع أن الصلاة على الأرض سنة ثابتة بالنقل المتواتر، فقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏جعلت لى الأرض مسجدًا وطهورًا‏.‏ فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره‏)‏‏.‏ ولا يشرع اتقاء الصلاة عليها لأجل هذا‏.‏ بل قد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر قال‏:‏ كانت الكلاب تقبل وتدبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك‏.‏ أو كما قال‏.‏ وفي سنن أبي داود‏:‏ تبول، وتقبل، وتدبر، ولم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك‏.‏ وهذا الحديث احتج به من رأى أن النجاسة إذا أصابت الأرض فإنها تطهر بالشمس والريح، ونحو ذلك، كما هو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، وهو مذهب أبي حنيفة‏.‏
واحتجوا ـ أيضًا ـ بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدلك النعل النجس بالأرض وجعل التراب لها طهورًا، فإذا كان طهورًا في إزالة النجاسة عن غيره، فلأن يكون طهورًا في إزالة النجاسة عن نفسه بطريق الأولى‏.‏ وهذا القول قد يقول به من لا يقول‏:‏ إن النجاسة تطهر بالاستحالة‏.‏ فإن أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد تطهر بذلك، مع قول هؤلاء إن النجاسة لا تطهر بالاستحالة‏.‏
وأما من قال‏:‏ إن النجاسة تطهر بالاستحالة ـ كما هو إحدى الروايتين عن أحمد، وأحد القولين في مذهب مالك، وهو مذهب/ أبي حنيفة، وأهل الظاهر، وغيرهم ـ فالأمر على قول هؤلاء أظهر‏.‏ فإنهم يقولون‏:‏ إن الروث النجس إذا صار رمادًا ونحوه، فهو طاهر، وما يقع في الملاحة من دم وميتة ونحوهما إذا صار ملحًا، فهو طاهر‏.‏
وقد اتفقوا جميعهم أن الخمر إذا استحالت بفعل الله ـ سبحانه ـ فصارت خلا طهرت‏.‏ وثبت ذلك عن عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة، فسائر الأعيان إذا انقلبت، يقيسونها على الخمر المنقلبة‏.‏ ومن فرق بينهما يعتذر بأن الخمر نجست بالاستحالة فطهرت بالاستحالة؛ لأن العصير كان طاهرًا‏.‏ فلما استحال خمرًا نجس، فإذا استحال خلا طهر‏.‏
وهذا قول ضعيف‏.‏ فإن جميع النجاسات إنما نجست ـ أيضًا ـ بالاستحالة‏.‏ فإن الطعام والشراب يتناوله الحيوان طاهرًا في حال الحياة ثم يموت فينجس، وكذلك الخنزير والكلب والسباع ـ أيضًا ـ عند من يقول بنجاستها إنما خلقت من الماء والتراب الطاهرين‏.‏
وأيضًا، فإن هذا الخل والملح ونحوهما أعيان طيبة طاهرة، داخلة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏157‏]‏‏.‏ فللمحرم المنجس لها أن يقول‏:‏ إنه حرمها، لكونها داخلة في المنصوص، أو لكونها في معنى الداخلة فيه، فكلا الأمرين منتف، فإن النص لا يتناولها،/ ومعنى النص الذي هو الخبث منتف فيها، ولكن كان أصلها نجسًا، وهذا لا يضر، فإن الله يخرج الطيب من الخبيث، ويخرج الخبيث من الطيب‏.‏ ولا ريب أن هذا القول أقوى في الحجة نصًا وقياسًا‏.‏
وعلى ما تقدم ذكره ينبنى طهارة المقابر‏.‏ فإن القائلين بنجاسة المقبرة العتيقة‏.‏ يقولون‏:‏ إنه خالط التراب صديد الموتى ونحوه، واستحال عن ذلك، فينجسونه‏.‏ وأما على قول الاستحالة وغيره من الأقوال، فلا يكون التراب نجسًا،وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حائطًا لبنى النجار، وكان فيه قبور المشركين، وخرب، ونخل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقبور فنبشت، وبالنخل فقطعت، وبالخرب فسويت، وجعل قبلة للمسجد‏.‏‏.‏ فهذا كان مقبرة للمشركين‏.‏ ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بنبشهم، لم يأمر بنقل التراب، الذي لاقاهم، وغيره من تراب المقبرة، ولا أمر بالاحتراز من العذرة‏.‏ وليس هذا موضع بسط هذه المسألة، لكن الغرض التنبيه على أن ما عليه أكثر أهل الوسواس من توقى الأرض وتنجيسها باطل بالنص‏.‏ وإن كان بعضه فيه نزاع، وبعضه باطل بالإجماع، أو غيره من الأدلة الشرعية‏.‏
/الوجه الثانى‏:‏ أن هؤلاء يفترش أحدهم السجادة على مصليات المسلمين من الحصر والبسط، ونحو ذلك، مما يفرش في المساجد، فيزدادون بدعة على بدعتهم‏.‏ وهذا الأمر لم يفعله أحد من السلف، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يكون شبهة لهم، فضلاً عن أن يكون دليلا، بل يعللون أن هـذه الحصر يطـؤها عامـة الناس، ولعل أحدهم أن يكون قد رأى أو سمع أنه في بعض الأوقات بال صبي، أو غيره على بعض حصر المسجد، أو رأى عليه شيئًا من ذرق الحمام، أو غيره، فيصير ذلك حجة في الوسواس‏.‏
وقد علم بالتواتر أن المسجد الحرام مازال يطأ عليه المسلمون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه، وهناك من الحمام ما ليس بغيره، ويمر بالمطاف من الخلق ما لا يمر بمسجد من المساجد، فتكون هذه الشبهة التي ذكرتموها أقوى‏.‏ ثم إنه لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه وأصحابه يصلي هناك على حائل، ولا يستحب ذلك، فلو كان هذا مستحبًا كما زعمه هؤلاء، لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه وأصحابه متفقين على ترك المستحب الأفضل‏.‏ ويكون هؤلاء أطوع لله وأحسن عملاً من النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه وأصحابه، فإن هذا خلاف ما ثبت في الكتاب والسنة والإجماع‏.‏
وأيضًا، فقد كانوا يطؤون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم/ بنعالهم وخفافهم، ويصلون فيه مع قيام هذا الاحتمال، ولم يستحب لهم هذا الاحتراز الذي ابتدعه هؤلاء، فعلم خطؤهم في ذلك‏.‏ وقد يفرقون بينهما بأن يقولوا‏:‏ الأرض تطهر بالشمس والريح والاستحالة‏.‏ دون الحصير‏.‏ فيقال‏:‏ هذا إذا كان حقًا فإنما هو من النجاسة المخففة‏.‏ وذلك يظهر بالوجــه الثالث‏:‏
وهو أن النجاسة لا يستحب البحث عما لم يظهر منها، ولا الاحتراز عما ليس عليه دليل ظاهر؛ لاحتمال وجوده‏.‏ فإن كان قد قال طائفة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم‏:‏ إنه يستحب الاحتراز عن المشكوك فيه مطلقًا، فهو قول ضعيف‏.‏ وقد ثبت عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه مر هو وصاحب له بمكان، فسقط على صاحبه ماء من ميزاب، فنادى صاحبه‏:‏ يا صاحب الميزاب أماؤك طاهر أم نجس‏؟‏ فقال له عمر‏:‏ ياصاحب الميزاب، لا تخبره، فإن هذا ليس عليه فنهى عمر عن إخباره؛ لأنه تكلف من السؤال ما لم يؤمر به‏.‏ وهذا قد ينبني على أصل‏:‏
وهو أن النجاسة إنما يثبت حكمها مع العلم، فلو صلى وببدنه أو ثيابه نجاسة ولم يعلم بها إلا بعد الصلاة لم تجب عليه الإعادة في أصح قولي العلماء، وهو مذهب مالك وغيره، وأحمد في أقوى الروايتين، وسواء كان علمها ثم نسيها، أو جهلها ابتداء، لما تقدم من/ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في نعليه ثم خلعهما في أثناء الصلاة، لما أخبره جبريل أن بهما أذى، ومضى في صلاته، ولم يستأنفها، مع كون ذلك موجودًا في أول الصلاة، لكن لم يعلم به، فتكلفه للخلع في أثنائها، مع أنه لولا الحاجة، لكان عبثًا أو مكروهًا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ يدل على أنه مأمور به من اجتناب النجاسة مع العلم، ومظنة تدل على العفو عنها في حال عدم العلم بها‏.‏
وقد روى أبو داود ـ أيضًا ـ عن أم جَحْدَر العامرية، أنها سألت عائشة عن دم الحيض يصيب الثوب، فقالت‏:‏ كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلينا شعارنا، وقد ألقينا فوقه كساء، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذ الكساء فلبسه، ثم خرج فصلى الغداة ثم جلس، فقال رجل‏:‏ يا رسول الله، هذه لمعة من دم، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يليها، فبعث بها إليَّ مَصْرُورَة في يد غلام، فقال‏:‏ ‏(‏اغسلي هذا، وأجفيها، وأرسلي بها إليَّ‏)‏، فدعوت بقصعتي فغسلتها، ثم أجففتها فأعدتها إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف النهار وهي عليه‏.‏
وفي هذا الحديث لم يأمر المأمومين بالإعادة، ولا ذكر لهم أنه يعيد، وأن عليه الإعادة، ولا ذكرت ذلك عائشة، وظاهر هذا أنه لم يعد‏.‏ ولأن النجاسة من باب المنهي عنه في الصلاة، وباب المنهي عنه/ معفو فيه عن المخطئ والناسي‏.‏ كما قال في دعاء الرسول والمؤمنين‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة‏:‏ أن الله استجاب هذا الدعاء‏.‏
ولأن الأدلة الشرعية دلت على أن الكلام ونحوه من مبطلات الصلاة يعفى فيها عن الناسي والجاهل، وهو قول مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين‏.‏ وقد دل على ذلك حديث ذى اليدين ونحوه، وحديث معاوية بن الحكم السلمي لما شمت العاطس في الصلاة، وحديث ابن مسعود المتفق عليه في التشهد لما كانوا يقولون أولاً‏:‏ السلام على الله قبل عباده، فنهاهم عن ذلك، وقال‏:‏ إن الله هو السلام، وأمرهم بالتشهد المشهور، ولم يأمرهم بالإعادة، وكذلك حديث الأعرابى الذي قال في دعائه‏:‏ اللهم ارحمني وارحم محمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، وأمثال ذلك‏.‏
فهذا ونحوه مما يبين أن الأمور المنهي عنها في الصلاة وغيرها يعفى فيها عن الناسي والمخطئ، ونحوهما من هذا الباب‏.‏
وإذا كان كذلك، فإذا لم يكن عالمًا بالنجاسة صحت صلاته باطنا وظاهرًا، فلا حاجة به ـ حينئذ ـ عن السؤال عن أشياء إن أبديت ساءته، قد عفا الله عنها‏.‏ وهؤلاء قد يبلغ الحال بأحدهم إلى أن يكره الصلاة/ إلا على سجادة، بل قد جعل الصلاة على غيرها محرمًا، فيمتنع منه امتناعه من المحرم‏.‏ وهذا فيه مشابهة لأهل الكتاب الذين كانوا لا يصلون إلا في مساجدهم، فإن الذي لا يصلي إلا على ما يصنع للصلاة من المفارش، شبيه بالذي لا يصلي إلا فيما يصنع للصلاة من الأماكن‏.‏
وأيضًا، فقد يجعلون ذلك من شعائر أهل الدين، فيعدون ترك ذلك في قلة الدين، ومن قلة الاعتناء بأمر الصلاة، فيجعلون ما ابتدعوه من الهدي الذي ما أنزل به من سلطان أكمل من هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وأصحابه‏.‏ وربما تظاهر أحدهم بوضع السجادة على منكبه، وإظهار المسابح في يده، وجعله من شعار الدين والصلاة‏.‏ وقد علم بالنقل المتواتر، أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكن هذا شعارهم، وكانوا يسبحون ويعقدون على أصابعهم، كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏اعقدن بالأصابع فإنهن مسؤولات، مستنطقات‏)‏ وربما عقد أحدهم التسبيح بحصى أو نوى‏.‏ والتسبيح بالمسابح من الناس من كرهه، ومنهم من رخص فيه، لكن لم يقل أحد‏:‏ إن التسبيح به أفضل من التسبيح بالأصابع، وغيرها، وإذا كان هذا مستحبًا يظهر فقصد إظهار ذلك والتميز به على الناس مذموم، فإنه إن لم يكن رياء فهو تشبه بأهل الرياء، إذ كثير ممن يصنع هذا يظهر منه الرياء ولو كان رياء بأمر مشروع لكانت إحدى المصيبتين، لكنـه ريـاء ليس/ مشروعًا‏.‏ وقـد قـال تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏2‏]‏‏.‏ قال الفضيل بن عياض ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ أخلصه وأصوبه‏.‏ قالوا‏:‏ يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه‏؟‏ قال‏:‏ إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا‏.‏ والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة‏.‏
وهذا الذي قاله الفضيل متفق عليه بين المسلمين، فإنه لابد له في العمل أن يكون مشروعًا مأمورًا به، وهو العمل الصالح‏.‏ ولابد أن يقصد به وجه الله‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 110‏]‏‏.‏ وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقول‏:‏ اللهم اجعل عملى كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا‏.‏ ومنه قوله ـ تعالى ـ‏:‏ ‏{‏بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 112‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 125‏]‏‏.‏
وفى صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يقول الله ـ تعالى ـ‏:‏ أنا أغنى الشركاء عن الشرك‏.‏ من عمل عملاً أشرك فيه غيري، فإني منه بريء، وهو كله للذي أشرك به‏)‏‏.‏ وفي السنن عن العرباض بن سارية قال‏:‏ وعظنا رسول الله /صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب فقال قائل‏:‏ يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ‏.‏ وإياكم ومحدثات الأمور‏.‏ فإن كل بدعة ضلالة‏)‏‏.‏ وفي الصحيحين عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد‏)‏‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد‏)‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته‏:‏ ‏(‏إن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة‏)‏‏.‏
وأما ما يفعله كثير من الناس من تقديم مفارش إلى المسجد يوم الجمعة، أو غيرها، قبل ذهابهم إلى المسجد، فهذا منهى عنه باتفاق المسلمين، بل محرم‏.‏ وهل تصح صلاته على ذلك المفروش‏؟‏ فيه قولان للعلماء؛ لأنه غصب بقعة في المسجد بفرش ذلك المفروش فيها، ومنع غيره من المصلين الذين يسبقونه إلى المسجد أن يصلي في ذلك المكان‏.‏ ومن صلى في بقعة من المسجد مع منع غيره أن يصلي فيها، فهل هو كالصلاة في الأرض المغصوبة‏؟‏ على وجهين‏.‏ وفي الصلاة في الأرض/ المغصوبة قولان للعلماء‏.‏ وهذا مستند من كره الصلاة في المقاصير التي يمنع الصلاة فيها عموم الناس‏.‏
والمشروع في المسجد أن الناس يتمون الصف الأول، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ وكيف تصف الملائكة عند ربها‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يتمون الصف الأول، فالأول، ويتراصون في الصف‏)‏‏.‏ وفي الصحيحين عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏لو يعلم الناس ما في النداء، والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه‏)‏‏.‏
والمأمور به أن يسبق الرجل بنفسه إلى المسجد، فإذا قدم المفروش وتأخر هو، فقد خالف الشريعة من وجهين‏:‏ من جهة تأخره وهو مأمور بالتقدم‏.‏ ومن جهة غصبه لطائفة من المسجد، ومنعه السابقين إلى المسجد أن يصلوا فيه، وأن يتموا الصف الأول فالأول، ثم إنه يتخطى الناس إذا حضروا‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏الذي يتخطى رقاب الناس، يتخذ جسرًا إلى جهنم‏)‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل‏:‏ ‏(‏اجلس فقد آذيت‏)‏‏.‏
ثم إذا فرش هذا فهل لمن سبق إلى المسجد أن يرفع ذلك ويصلي موضعه‏؟‏ فيه قولان‏:‏
/أحدهما‏:‏ ليس له ذلك؛ لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه‏.‏
والثاني‏:‏ ـ وهو الصحيح ـ أن لغيره رفعه، والصلاة مكانه؛ لأن هذا السابق يستحق الصلاة في ذلك الصف المقدم، وهو مأمور بذلك أيضًا‏.‏ وهو لا يتمكن من فعل هذا المأمور واستيفاء هذا الحق إلا برفع ذلك المفروش‏.‏ وما لا يتم المأمور إلا به فهو مأمور به‏.‏
وأيضًا، فذلك المفروش وضعه هناك على وجه الغصب، وذلك منكر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه‏.‏ فإن لم يستطع، فبقلبه‏.‏ وذلك أضعف الإيمان‏)‏‏.‏ لكن ينبغي أن يراعى في ذلك ألا يؤول إلى منكر أعظم منه‏.‏ والله تعالى أعلم، والحمد لله وحده‏.