سئل: عن جماعة نازلين في الجامع مقيمين ليلاً ونهارًا وأكلهم وشربهم ونومهم فيه ؟
 
وسئل عن جماعة نازلين في الجامع مقيمين ليلاً ونهارًا وأكلهم وشربهم ونومهم وقماشهم وأثاثهم، الجميع في الجامع، ويمنعون من ينزل عندهم من غير جنسهم، وحكروا الجامع، ثم إن جماعة دخلوا بعض المقاصير يقرؤون القرآن احتسابًا، فمنعهم بعض المجاورين وقال هذا موضعنا‏.‏ فهل يجوز ذلك‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏
فأجاب‏:‏
الحمد لله، ليس لأحد من الناس أن يختص بشيء من المسجد بحيث يمنع غيره منه دائمًا، بل قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إيطان كإيطان البعير‏.‏
قال العلماء‏:‏ معناه أن يتخذ الرجل مكانًا من المسجد لا يصلي/إلا فيه، فإذا كان ليس له ملازمة مكان بعينه للصلاة، كيف بمن يتحجر بقعة دائمًا‏.‏ هذا لو كان إنما يفعل فيها ما يبنى له المسجد من الصلاة والذكر ونحو ذلك، فكيف إذا اتخذ المسجد بمنزلة البيوت فيه أكله وشربه ونومه وسائر أحواله التي تشتمل على ما لم تبن المساجد له دائمًا‏؟‏ فإن هذا يمنع باتفاق المسلمين، فإنما وقعت الرخصة في بعض ذلك لذوى الحاجة، مثل ما كان أهل الصفة؛ كان الرجل يأتى مهاجرًا إلى المدينة، وليس له مكان يأوى إليه، فيقيم بالصفة إلى أن يتيسر له أهل أو مكان يأوى إليه‏.‏ ثم ينتقل‏.‏ ومثل المسكينة التي كانت تأوى إلى المسجد، وكانت تَقَمُّه‏.‏ ومثل ما كان ابن عمر يبيت في المسجد، وهو عزب؛ لأنه لم يكن له بيت يأوي إليه حتى تزوج‏.‏
ومن هذا الباب علي بن أبي طالب، لما تقاول هو وفاطمة ذهب إلى المسجد فنام فيه‏.‏ فيجب الفرق بين الأمر اليسير، وذوى الحاجات، وبين ما يصير عادة ويكثر، وما يكون لغير ذوي الحاجات؛ ولهذا قال ابن عباس‏:‏ لا تتخذوا المسجد مبيتًا ومقيلاً‏.‏ هذا، ولم يفعل فيه إلا النوم، فكيف ما ذكر من الأمور‏؟‏‏!‏ والعلماء قد تنازعوا في المعتكف هل ينبغي له أن يأكل في المسجد، أو في بيته، مع أنه مأمور بملازمة المسجد، وألا يخرج منه إلا لحاجة‏؟‏ والأئمة كرهوا اتخاذ المقاصير في المسجد، لما أحدثها بعض الملوك؛ لأجل الصلاة خاصة، وأولئك إنما /كانوا يصلون فيها خاصة‏.‏
فأما اتخاذها للسكنى والمبيت وحفظ القماش والمتاع فيها، فما علمت مسلمًا ترخص في ذلك‏.‏ فإن هذا يجعل المسجد بمنزلة الفنادق التي فيها مساكن مُتَحَجَّرة، والمسجد لابد أن يكون مشتركًا بين المسلمين، لا يختص أحد بشيء منه، إلا بمقدار لبثه للعمل المشروع فيه، فمن سبق إلى بقعة من المسجد لصلاة أو قراءة أو ذكر أو تعلم عِلْم أو اعتكاف ونحو ذلك، فهو أحق به حتى يقضى ذلك العمل، ليس لأحد إقامته منه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقام الرجل من مجلسه، ولكن يوسع ويفسح‏.‏ وإذا انتقض وضوؤه ثم عاد فهو أحق بمكانه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سَنَّ ذلك، قال‏:‏ ‏(‏إذا قام الرجل عن مجلسه ثم عاد إليه فهو أحق به‏)‏‏.‏
وأما أن يختص بالمقام والسكنى فيه، كما يختص الناس بمساكنهم، فهذا من أعظم المنكرات باتفاق المسلمين‏.‏ وأبلغ ما يكون من المقام في المسجد مقام المعتكف، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في المسجد، وكان يحتجر له حصيرًا فيعتكف فيه، وكان يعتكف في قبة، وكذلك كان الناس يعتكفون في المساجد، ويضربون لهم فيه القباب فهذا مدة الاعتكاف خاصة‏.‏ والاعتكاف عبادة شرعية، وليس للمعتكف أن يخرج من المسجد إلا لما لابد منه، والمشروع له/ ألا يشتغل إلا بقربة إلى الله، والذي يتخذه سكنًا ليس معتكفًا بل يشتمل على فعل المحظور، وعلى المنع من المشروع، فإن من كان بهذه الحال، منع الناس من أن يفعلوا في تلك البقعة ما بنى له المسجد من صلاة وقراءة وذكر، كما في الاستفتاء أن بعضهم يمنع من يقرأ القرآن في تلك البقعة، كغيره من القراء، والذي فعله هذا الظالم منكر من وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ اتخاذ المسجد مبيتًا ومقيلاً وسكنًا، كبيوت الخانات، والفنادق‏.‏
والثانى‏:‏ منعه من يقرأ القرآن حيث يشرع‏.‏
والثالث‏:‏ منع بعض الناس دون بعض، فإن احتج بأن أولئك يقرؤون لأجل الوقف الموقوف عليهم، وهذا ليس من أهل الوقف، كان هذا العذر أقبح من المنع؛ لأن من يقرأ القرآن محتسبًا، أولى بالمعاونة ممن يقرأه لأجل الوقف، وليس للواقف أن يغير دين الله، وليس بمجرد وقفه يصير لأهل الوقف في المسجد حق لم يكن لهم قبل ذلك؛ ولهذا لو أراد الواقف أن يحتجر بقعة من المسجد لأجل وقفه بحيث يمنع غيره منها، لم يكن له ذلك‏.‏ ولو عين بقعة من المسجد لما أمر به من قراءة أو تعليم ونحو ذلك لم تتعين تلك البقعة، كما لا تتعين فى/ النذر‏.‏ فإن الإنسان لو نذر أن يصلي ويعتكف في بقعة من المسجد لم تتعين تلك البقعة، وكان له أن يصلي ويعتكف في سائر بقاع المسجد عند عامة أهل العلم، لكن هل عليه كفارة يمين‏؟‏ على وجهين في مذهب أحمد‏.‏
وأما الأئمة الثلاثة، فلا يوجبون ـ عليه كفارة ـ وهذا لأنه لا يجب بالنذر إلا ما كان طاعة بدون النذر، وإلا فالنذر لا يجعل ما ليس بعبادة عبادة، والناذر ليس عليه أن يوقف إلا ما كان طاعة لله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه‏)‏‏.‏
ولهذا لو نذر حرامًا أو مكروهًا أو مباحًا مستوى الطرفين، لم يكن عليه الوفاء به‏.‏
وفى الكفارة قولان أوجبها في المشهور أحمد، ولم يوجبها الثلاثة‏.‏
وكذلك شرط الواقف والبائع وغيرهما‏.‏
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله‏؟‏ من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق‏)‏‏.‏ وهذا كله/ لأنه ليس لأحد أن يغير شريعته التي بعث بها رسوله، ولا يبتدع في دين الله ما لم يأذن به الله، ولا يغير أحكام المساجد عن حكمها الذي شرع الله ورسوله‏.‏ والله أعلم‏.‏