سئل:عن رجل إذا صلى يشوش على الصفوف التي حواليه بالجهر بالنية ؟
 
وَسُئِلَ عن رجل إذا صلى يشوش على الصفوف التي حواليه بالجهر بالنية وأنكروا عليه مرة ولم يرجع، وقال له إنسان‏:‏ هذا الذي تفعله ما هو / من دين اللّه، وأنت مخالف فيه السنة‏.‏ فقال‏:‏ هذا دين اللّه الذي بعث به رسله، ويجب على كل مسلم أن يفعل هذا، وكذلك تلاوة القرآن يجهر بها خلف الإمام‏.‏ فهل هكذا كان يفعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، أو أحد من الصحابة، أو أحد من الأئمة الأربعة، أو من علماء المسلمين‏؟‏ فإذا كان لم يكن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه والعلماء يعملون هذا في الصلاة، فماذا يجب على من ينسب هذا إليهم وهو يعمله ‏؟‏ فهل يحل للمسلم أن يعينه بكلمة واحدة إذا عمل هذا ونسبه إلى أنه من الدين، ويقول للمنكرين عليه‏:‏ كل يعمل في دينه ما يشتهي وإنكاركم على جهل ‏؟‏ وهل هم مصيبون في ذلك أم لا ‏؟‏
فأجاب ‏:‏
الحمد للّه، الجهر بلفظ النية ليس مشروعا عند أحد من علماء المسلمين، ولا فعله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولا فعله أحد من خلفائه وأصحابه، وسلف الأمة وأئمتها، ومن ادعي أن ذلك دين اللّه، وأنه واجب، فإنه يجب تعريفه الشريعة، واستتابته من هذا القول، فإن أصر على ذلك قتل، بل النية الواجبة في العبادات كالوضوء والغسل والصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك محلها القلب باتفاق أئمة المسلمين‏.‏
و‏[‏النية‏]‏ هي القصد والإرادة، والقصد والإرادة محلهما القلب دون اللسان باتفاق العقلاء‏.‏ فلو نوى بقلبه صحت نيته عند الأئمة الأربعة، / وسائر أئمة المسلمين من الأولين والآخرين، وليس في ذلك خلاف عند من يقتدي به، ويفتي بقوله، ولكن بعض المتأخرين من أتباع الأئمة زعم أن اللفظ بالنية واجب، ولم يقل‏:‏ إن الجهر بها واجب‏.‏ ومع هذا، فهذا القول خطأ صريح مخالف لإجماع المسلمين، ولِمَا عُلِمَ بالاضطرار من دين الإسلام عند من يعلم سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه، وكيف كان يصلي الصحابة والتابعون‏.‏ فإن كل من يعلم ذلك يعلم أنهم لم يكونوا يتلفظون بالنية، ولا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ولا علمه لأحد من الصحابة، بل قد ثبت في الصحيحين وغيرهما، أنه قال للأعرابي المسيء في صلاته‏:‏ ‏(‏إذا قمت إلى الصلاة، فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن‏)‏‏.‏ وفي السـنن عنـه صلى الله عليه وسلم أنـه قال‏:‏ ‏(‏مفتاح الصـلاة الطهـور، وتحـريمها التكبـير، وتحليلها التسليم‏)‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد للّه رب العالمين‏.‏ وقد ثبت بالنقل المتواتر وإجماع المسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة كانوا يفتتحون الصلاة بالتكبير‏.‏
ولم ينقل مسلم لا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من الصحابة أنه قد تلفظ قبل التكبير بلفظ النية، لا سرًا ولا جهرًا، ولا أنه أمر بذلك‏.‏ ومن المعلوم أن الهمم والدواعي متوفرة على نقل/ ذلك، لو كان ذلك، وأنه يمتنع على أهل التواتر عادة وشرعا كتمان نقل ذلك، فإذا لم ينقله أحد علم قطعًا أنه لم يكن‏.‏
ولهذا يتنازع الفقهاء المتأخرون في اللفظ بالنية‏:‏ هل هو مستحب مع النية التي في القلب‏؟‏ فاستحبه طائفة من أصحاب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد‏.‏ قالوا‏:‏ لأنه أوكد، وأتم تحقيقًا للنية، ولم يستحبه طائفة من أصحاب مالك وأحمد وغيرهما، وهو المنصوص عن أحمد وغيره، بل رأوا أنه بدعة مكروهة‏.‏
قالوا‏:‏ لو أنه كان مستحبًا لفعله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، أو لأمر به، فإنه صلى الله عليه وسلم قد بين كل ما يقرب إلى اللّه، لا سيما الصلاة التي لا تؤخذ صفتها إلا عنه، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏صلوا كما رأيتموني أصلي‏)‏‏.‏
قال هؤلاء‏:‏ فزيادة هذا وأمثاله في صفة الصلاة بمنزلة سائر الزيادات المحدثة في العبادات، كمن زاد في العيدين الأذان والإقامة، ومن زاد في السعي صلاة ركعتين على المروة، وأمثال ذلك‏.‏
قالوا‏:‏ وأيضًا، فإن التلفظ بالنية فاسد في العقل‏.‏ فإن قول القائل‏:‏ أنوي أن أفعل كذا وكذا، بمنزلة قوله‏:‏ أنوي آكل هذا الطعام/ لأشبع، وأنوي ألبس هذا الثوب لأستتر، وأمثال ذلك من النيات الموجودة في القلب التي يستقبح النطق بها، وقد قال اللّه تعالي‏:‏ ‏{‏أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 16‏]‏ وقال طائفة من السلف في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 9‏]‏، قالوا‏:‏ لم يقولوه بألسنتهم، وإنما علمه اللّه من قلوبهم، فأخبر به عنهم‏.‏
وبالجملة، فلابد من النية في القلب بلا نزاع‏.‏ وأما التلفظ بها سرًا فهل يكره أو يستحب‏؟‏ فيه نزاع بين المتأخرين‏.‏
وأما الجهر بها، فهو مكروه منهي عنه، غير مشروع باتفاق المسلمين، وكذلك تكريرها أشد وأشد‏.‏
وسواء في ذلك الإمام والمأموم والمنفرد، فكل هؤلاء لا يشرع لأحد منهم أن يجهر بلفظ النية، ولا يكررها باتفاق المسلمين، بل ينهون عن ذلك، بل جهر المنفرد بالقراءة إذا كان فيه أذي لغيره لم يشرع، كما خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يصلون فقال‏:‏ ‏(‏أيها الناس، كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة‏)‏‏.‏
وأما المأموم، فالسنة له المخافتة باتفاق المسلمين، لكن إذا جهر أحيانًا /بشيء من الذكر، فلا بأس، كالإمام إذا أسمعهم أحيانًا الآية في صلاة السر، فقد ثبت في الصحيح عن أبي قتادة‏:‏ أنه أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في صلاة الظهر والعصر يسمعهم الآية أحيانًا‏.‏ وثبت في الصحيح أن من الصحابة المأمومين، من جهر بدعاء حين افتتاح الصلاة، وعند رفع رأسه من الركوع، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك‏.‏ ومن أصر على فعل شيء من البدع وتحسينها، فإنه ينبغي أن يعزر تعزيرًا يردعه، وأمثاله عن مثل ذلك‏.‏
ومن نسب إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الباطل خطـأ، فإنه يعَرَّف، فإن لم ينته، عوقب‏.‏ ولا يحل لأحد أن يتكلم في الدين بلا علم ولا يعين من تكلم في الدين بلا علم، أو أدخل في الدين ما ليس منه‏.‏
وأما قول القائل‏:‏ كل يعمل في دينه الذي يشتهي، فهي كلمة عظيمة يجب أن يستتاب منها، وإلا عوقب، بل الإصرار على مثل هذه الكلمة يوجب القتل، فليس لأحد أن يعمل في الدين إلا ما شـرعه اللّه ورسوله، دون ما يشتهيه ويهواه، قال اللّه تعالي‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 50‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 119‏]‏، ‏{‏وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 26‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 77‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 43، 44‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏‏.‏
وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به‏)‏‏.‏ قال تعالي‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 60، 61‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 21‏]‏وقال تعالي‏:‏ ‏{‏المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 1 ـ 3‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 71‏]‏، وأمثال هذا في القرآن كثير‏.‏
فتبين أن على العبد أن يتبع الحق الذي بعث اللّه به رسوله، ولا يجعل دينه تبعًا لهـواه‏.‏ واللّه أعلم‏.‏