سئل ـ رحمه الله ـ عن رجل مشي إلى صلاة الجمعة مستعجلا، فأنكر ذلك عليه بعض الناس
 
سئل ـ رحمه الله ـ عن رجل مشي إلى صلاة الجمعة مستعجلا، فأنكر ذلك عليه بعض الناس، وقال‏:‏ امش على رسلك‏.‏ فرد ذلك الرجل وقال‏:‏ قد قال تعالي‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏ فما الصواب‏؟‏
فأجاب‏:‏
ليس المراد بالسعي المأمور به العَدْو‏.‏ فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏(‏إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا‏)‏ وروي‏:‏ ‏(‏فاقضوا‏)‏‏.‏ ولكن قال الأئمة‏:‏ السعي في كتاب الله هو العمل والفعل، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 4‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏19‏]‏، وقال تعالي‏:‏‏{‏وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 205‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 33‏]‏، وقال عن فرعون‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 22‏]‏، وقد قرأ عمر بن الخطاب‏:‏‏(‏فامضوا إلى ذكر الله‏)‏ فالسعي المأمور به إلى الجمعة هو المضي إليها، والذهاب إليها‏.‏
ولفظ ‏[‏السعي‏]‏ في الأصل اسم جنس، ومن شأن أهل العرف، إذا كان الاسم عامًا لنوعين، فإنهم يفردون أحد نوعيه باسم، ويبقي الاسم العام مختصًا بالنوع الآخر، كما في لفظ‏:‏ ‏[‏ذوي الأرحام‏]‏ ، فإنه يعم جميع الأقارب‏:‏ من يرث بفرض وتعصيب، ومن لا فرض له ولا تعصيب‏.‏ فلما مُيِّز ذو الفرض والعصبة، صار في عرف الفقهاء ذوو الأرحام مختصًا بمن لا فرض له ولا تعصيب‏.‏
وكذلك لفظ ‏[‏الجائز‏]‏ يعم ما وجب ولزم من الأفعال والعقود، وما لم يلزم‏.‏ فلما خص بعض الأعمال بالوجوب وبعض العقود باللزوم، بقي اسم الجائز في عرفهم مختصًا بالنوع الآخر‏.‏
وكذلك اسم ‏[‏الخمر‏]‏ هو عام لكل شراب، لكن لما أفرد ما يصنع من غير العنب باسم النبيذ، صار اسم الخمر في العرف مختصًا بعصير العنب، حتى ظن طائفة من العلماء أن اسم الخمر في الكتاب والسنة مختص بذلك‏.‏ وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بعمومه، ونظائر هذا كثيرة‏.‏
/وبسبب هذا الاشتراك الحادث، غلط كثير من الناس في فهم الخطاب بلفظ السعي من هذا الباب‏.‏ فإنه في الأصل عام في كل ذهاب ومضي، وهو السعي المأمور به في القرآن‏.‏ وقد يخص أحد النوعين باسم المشي، فيبقي لفظ السعي مختصًا بالنوع الآخر، وهذا هو السعي الذي نهي عنه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال‏:‏ ‏(‏إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون‏)‏‏.‏ وقد روي أن عمر كان يقرأ‏:‏ ‏(‏فامضوا‏)‏ ويقول‏:‏ لو قرأتها فاسعوا لعدوت حتى يكون كذا وهذا ـ إن صح عنه ـ فيكون قد اعتقد أن لفظ السعي هو الخاص‏.‏
ومما يشبه هذا‏:‏ السعي بين الصفا والمروة، فإنه إنما يهرول في بطن الوادي بين الميلين‏.‏ ثم لفظ السعي يخص بهذا‏.‏ وقد يجعل لفظ السعي عامًا لجميع الطواف بين الصفا والمروة، لكن هذا كأنه باعتبار أن بعضه سعي خاص‏.‏ و الله أعلم‏.‏
وَسُئِلَ عن أقوام يبتدرون السواري قبل الناس، وقبل تكميل الصفوف ويتخذون لهم مواضع دون الصف، فهل يجوز التأخر عن الصف الأول‏؟‏
/فأجاب‏:‏
قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، كيف تصف الملائكة عند ربها‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يسدون الأول فالأول، ويتراصون في الصف‏)‏‏.‏ وثبت عنه في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏لو يعلم الناس ما في النداء، والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه‏)‏‏.‏ وثبت عنه في الصحيح‏:‏ ‏(‏خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها‏)‏‏.‏ وأمثال ذلك من السنن، التي ينبغي فيها للمصلين أن يتموا الصف الأول، ثم الثاني‏.‏
فمن جاء أول الناس، وصف في غير الأول، فقد خالف الشريعة، وإذا ضم إلى ذلك إساءة الصلاة، أو فضول الكلام، أو مكروهه، أو محرمه، ونحو ذلك ـ مما يصان المسجد عنه ـ فقد ترك تعظيم الشرائع، وخرج عن الحدود المشروعة من طاعة الله‏.‏ وإن لم يعتقد نقص ما فعله، ويلتزم اتباع أمر الله، استحق العقوبة البليغة التي تحمله وأمثاله على أداء ما أمر الله به، وترك ما نهي الله عنه‏.‏ و الله أعلم‏.‏